نحو حوار وطني واسع وصريح بعيداً عن السباب والاتهامات والتخوين والإقصاء
(الحلقة الرابعة)
في الحلقة السابقة من هذه السلسلة استعرضنا بعضاً من أبرز المكونات والخصائص الحضارية التي تميزت بها اليمن عبر مختلف مراحل التاريخ باعتباره مجتمعاً عشائرياً قبلياً حكمته ولا تزال منظومات متكاملة من القواعد والتقاليد والأعراف التي نظمت وضبطت وجددت مسار حياته وعلاقاته وشئونه في مختلف المجالات وانتهينا إلى طرح تصور أولي للحوار يهدف إلى الخروج بصيغة (عقد اجتماعي) وطني ينتشل البلاد من دوامة أزماتها واختلالاتها ومشاكلها المزمنة ويضعها على عتبات نهوض حضاري شامل ومنشود وهو عقد مكتوب وموثوق يحدد شكل وطبيعة العلاقات والمسئوليات والوظائف بين شخص رأس الدولة والشعب وبين سلطات الدولة المركزية ووظائفها وسلطات ووظائف الكيانات المحلية إنطلاقاً من الاستخلاص الواعي لخصائص ومكونات شعبنا المتراكمة عبر مراحل التاريخ . والتي هيأته لبناء حضارات راقية ومزدهرة وأوردنا فكرة (تهجير) شخص رأس الدولة وأسرته ومحله و(تكبيره) ومن صلح من أبناءه من بعده ويعني (التهجير) وفقاً للأعراف القبلية المتوارثة أن يجعله الشعب كبيراً للبلاد والشعب بجميع فئاته وقطاعاته ، وتحريره من تبعات الانتماء أو الانحياز لقبيلته أو لحزبه ليكون محايداً ومسئولاً ومرجعاً للجميع دون استثناء وهي فكرة ابتكرها وطرحها القاضي محمد يحيى السدمي وهو عالم متخصص في الأمور الشرعية والعرفية معاً .. ووقفنا في نهاية الحلقة السابقة أمام سؤال مهم حول الفكرة وهو لماذا هذه الفكرة وكيف يمكن تطبيقها وتكييفها دستورياً ؟ وذلك هو موضوعنا في هذه الحلقة . أولاً : لماذا (تهجير) رأس الدولة . إن استقراء سريعاً للعبر والدروس المستخلصة من أحداث التاريخ الإنساني بمراحله المختلفة يضعنا دون أدنى لبس أو غموض أمام حقيقة كبرى تؤكد أن معظم الأحداث والصراعات والحروب العاصفة والمهلكة حركتها دوافع الطموح الجامح إلى الحكم والسيطرة وصولاً إليه أو تشبثاً به باستخدام كل السبل والوسائل المشروعة وغير المشروعة وكانت الشعوب والامم هي التي تدفع ثمناً باهظاً وجسيماً لذلك الصراع المجنون على السلطة تمثل بإزهاق الأرواح وسفك الدماء والخراب والدمار والمعاناة والعذاب والضياع ولعل تاريخنا العربي الإسلامي الأكثر تعبيراً وتجسيداً لتلك الحقيقة المرة عبر مختلف مراحله قديماً وحديثاً بما خلفه الصراع على السلطة من ويلات وماس رهيبة ألقت بآثارها المدمرة على حاضر ومستقبل أجيال متعاقبة ، وفي ظل مجتمعات متخلفة راكدة مثل مجتمعنا اليمني – لم يتبلور فيها مفهوم الدولة وطبيعتها ولا تشكلت فيها قيم المواطنة وحقوقها وواجباتها ولا ترسخت في علاقاتها وتعاملاتها سيادة القانون وهيبته واحترامه ، ولا أرسيت فيها البنى المؤسساتية والعمل المؤسساتي – تبرز في ظل مثل هذه المجتمعات الحاجة بل الضرورة للعمل والسعي للخروج بصيغة توافقية عامة لحل إشكالية الحكم استناداً إلى جذور الأصالة وآفاق المعاصرة معاً على أسس ومضامين واضحة و محددة تضع حداً نهائياً لإشكالية التنافس والصراع على الحكم والسلطة من جهة وتجعل من الحاكم مسئولاً عن جميع المواطنين بعدل ومساواة وبدون تحيز أو ميل إلى فئة أو عصبية ضيقة بل يصبح مرجعاً أعلى للدولة ، والشعب يحتكم إليه من جهة ثانية ، وتعطى للشعب حقوقه كاملة في حكم نفسه بنفسه ولنفسه دون وصاية أو تحكم أو قهر من جهة ثالثة… إن فكرة (التهجير ) لرأس الدولة وأسرته ومحله ومن ثم ترئيسه لمدى غير محدود ومن بعده من صلح من أبنائه وهي فكرة مستنبطة من مخزون تراثنا وأعرافنا وتقاليدنا الوطنية الموروثة تترتب عليها جملة من الآثار والنتائج الإيجابية أهمها : 1- إخراج رأس الدولة من دائرة انتمائه الضيق لقبيلة معينة أو حزب سياسي معين بجعل دائرة انتمائه للوطن بامتداده وللشعب بجميع فئاته وقطاعاته ، ومن ثم تكبيره وترئيسه على البلاد بعقد اجتماعي سياسي مكتوب يجمع عليه الشعب ، وهذا يحقق ضمانة مهمة بأن يكون رأس الدولة محايداً وغير منحاز لفئة اجتماعية أو حزب سياسي بعينه مما يجعله ملزماً بإقامة العدل والمساواة بين المواطنين جميعاً دون تمييز أو مفاضلة . 2- تحرير رأس الدولة من الإرتهان والخضوع لمراكز القوى ذات النفوذ والسطوة التي لا تتوقف لحظة واحدة عن إشعاره بأن بقاءه واستمراره في الحكم لا يتحقق إلا بها وبالاعتماد عليها ، ورأس الدولة من جهته يدرك أهمية وضرورة مراكز القوى تلك لاستمرار بقائه في الحكم ، ولهذا يجد نفسه مجبراً على تلبية المطالب التي لا تنتهي لتلك المراكز من الإمتيازات والأموال غير المشروعة ، ويطلق الحبل على غاربه أمامها تفعل ما تشاء وكيفما تشاء وتطغى في الأرض وتعيث فساداً وتجبراً دون أدنى وازع من شرع أو قانون أو ضمير أو أخلاق من هنا يبدأ الفساد والإنفلات والتسيب والفوضى ثم يتسع ويستفحل ليشمل كافة مجالات حياة المجتمع . 3- أن الشعب عندما يجمع على (تهجير) رأس الدولة وجعله كبير البلاد كلها مما يوجب عليه بالتالي الحياد وعدم التحيز قبلياً أو حزبياً ، فإن رأس الدولة حينها لا يكون بحاجة إلى الاعتماد على كيان قبلي معين أو إطار حزبي بعينه ، إذ يصبح الشعب كله بجميع كياناته وأطره الاجتماعية والسياسية قبيلته وحزبه وقوته ولا يستطيع أحد عدم تلبية نداء رأس الدولة إذا دعاهم لمواجهة أية ملمة أو طارئ أو خطر يهدد البلاد بحكم إلزامية نصوص العقد الاجتماعي السياسي المشار إليه أنفاً . 4- صيانة المال العام والحفاظ عليه ، فرأس الدولة سيجد نفسه بناء على ما سبق غير مجبر ولا مضطر إلى تبديد الأموال العامة وإهدارها وتسخير إمكانيات ومقدرات الدولة لصالح دعم وتقوية مركز قوة معين أو حزب سياسي أو كيان اجتماعي محدد بحكم ارتباطه وولائه له ، أو لضرب وتفكيك وإضعاف القوى والأحزاب والكيانات المعارضة وهو مايضمن حيادية الدولة ورعايتها وحمايتها لجميع القوى والاحزاب والكيانات على قدر المساواة وبدون تمييز أو تحيز ، ذلك أن مسيرة الديمقراطية الوليدة في بلادنا أثبتت ولا تزال تثبت ، أن رأس الدولة عندما يكون قائداً لحزب معين من الأحزاب فإن كل قادة الدولة ومسئوليها يكونون تلقائياً أعضاء في ذلك الحزب الذي يقوده رأس الدولة الذي يصبح والحال هذه طرفاً من أطراف التنافس والصراع غير محايد ومتحيز تماماً ، وتكون الدولة حينها هي الحزب والحزب هوا لدولة ، والمال العام يصبح مال الحزب يستخدمه كيف يشاء دون سند مشروع والوظائف العامة على اختلاف مستوياتها يتم استغلالها على نحو بشع لخدمة الحزب ، وهنا يصبح وجود الأحزاب مهزلة غير ذات معنى أو هدف لانعدام المساواة والتكافؤ في المنافسة السلمية الديمقراطية انعداماً تاماً . 5- ضمان حيادية القوات المسلحة وعدم الزج بها في معترك الصراعات والتنافسات السياسية والحزبية ، وتفرغها التام لدورها الوطني الاستراتيجي في حماية الوطن والدفاع عن حريته وسيادته واستقلاله في مواجهة أي مخاطر أو عدوان خارجي ، وتحقيق الهدوء والأمن والاستقرار للوطن والمواطن ، وإذا كان هذا هو الدور الوطني البارز للقوات المسلحة وابتعادها تماماً عن الصراع والتنافس السياسي الحزبي المدني ، فمن الطبيعي بل م الضروري أن تكون مرتبطة ارتباطاً كلياً برأس الدولة وتحت إمرته وإشرافه المباشر فهو الذي يتولى تنظيمها وتطويرها وعزل وتعيين قادتها وتقرير سياسة إعادة إنتشارها وتموضعها في إطار مجتمعها ودورها الوطني المشار إليه ، وتتلقى منه التوجيهات والأوامر بتحركاتها ومهامها ، فرأس الدوله بعد أن يقوم الشعب بتهجيره وترئيسه من خلال وثيقة عقد اجتماعي ملزم فإنه أصبح بذلك محايداً قبلياً وحزبياً وبات قائداً ومسئولاً عن الشعب بجميع أفراده وفئاته وقطاعاته الاجتماعية والسياسية دون تمييز أو تحيز أو محاباة . وبالتالي يصبح رأس الدولة مرجعاً أعلى للوطن والشعب والدولة ، ولهذا فإن ارتباط القوات المسلحة به – وقد أصبحت محايدة سياسياً وحزبياً – ما هو إلا نتيجة منطقية وتحصيل حاصل. ثانياً : كيفية تطبيق الفكرة . لا شك بأن ما نطرحه في هذه الحلقات ليس أكثر من أراء أولية وعناوين رئيسية غير متبلورة أو متكاملة ولهذا فإن الفكرة وكيفية تحقيقها والأسلوب الأمثل لتكييفها دستورياً تتطلب نقاشاً وحواراً واسعاً ومعمقاً ومتعدد الاهتمامات والتخصصات لإثرائها وبلورتها وإخراجها على نحو أكمل وأنضج . وإسهاماً أولياً فإننا نرى أن تطبيق الفكرة يمر بعدة خطوات وإجراءات ومراحل من أهمها : – 1- إخضاع الفكرة لحوار ونقاش واسع النطاق ودون أية قيود أو استثناءات أو استبعاد ، وفتح وسائل التعبير والإعلام المقروء والمرئي و المسموع – أمام ذلك الحوار إلى أقصى حد ممكن . 2- دعوة ممثلي الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني والأقسام العلمية المتخصصة في الجامعات والعلماء والفقهاء ومراكز الدراسات والبحوث إلى ((حلقة نقاش)) موسعة ، للخروج بصيغة مناسبة لفكرة العقد الاجتماعي السياسي الوطني المنشود . 3- دعوة مشائخ وأعيان وكبار رجال القبائل أو على الأقل ممثلين عنها لتدارس الفكرة ومناقشتها على ضوء القواعد والتقاليد والأعراف القبلية الأصلية والخروج بتصور حول قاعدة ((التهجير)) المنشودة . 4- الاتفاق على تشكيل ((هيئة وطنية تأسيسية عليا)) من ممثلي الأحزاب والنقابات والاتحادات والمنظمات المدنية وأساتذة الجامعات وخاصة منهم المتخصصون في القانون والاجتماع والسياسة والاقتصاد وعلماء الشريعة ورجال القبائل وممثلين عن جميع محافظات الجمهورية من كبار الشخصيات الاجتماعية التي تحظى باحترام شعبي واسع في أوساطها وتكون هذه الهيئة الوطنية العليا مسئولة عن إدارة الحوار الشعبي الواسع وإنزال الفكرة للنقاش على مستوى المحافظات والمديريات وتقرير آلية وأساليب أخذ الموافقة الشعبية وتوثيقها وكيفية وضعها موضع التنفيذ العملي في سياق البنية الدستورية للبلاد . ومن المهم هنا أن نشير إلى حقيقة أن ((قاعدة التهجير)) أو بعبارة أخرى العقد الاجتماعي لن يكون تأثيره والنتائج المترتبة عليه مقصورة على حل إشكالية رأس الدولة فقط ، بل ستمتد لتشمل مختلف جوانب حيات المجتمع إذ يتحتم على سبيل المثال – جعل عاصمة البلاد ومدنها وطرقها وأسواقها ودور العلم والعبادة وممتلكات الدولة ومقرات الحكم ودور القضاء وغيرها ((مهجرة)) بمعنى تحريم القيام بأي فعل أو تصرف داخلها مثل القتل والتخريب والنهب وقطع الطرق واختطاف واحتجاز الرهائن تحريماً مطلقاً ، ويصبح القيام بأي فعل من هذا القبيل جريمة موجهة إلى كل فرد من أفراد الشعب الذي سيقف وقفة واحدة وقوية لملاحقة الجناة وإلقاء القبض عليهم بكل أشكال الضغط على قبائلهم المنتمين إليها حتى ينالوا جزاءهم العادل . ويترتب على الشخص الذي يتم ((تهجيره)) وترئيسه التزامات ومسئوليات عديدة أهمها :- 1- ألا يميل أو يتحيز أو يحابي أي فرد أو جماعة من دون سائر الناس . 2- أن عليه ((محض النقاء والصفاء)) في تعامله مع من ((هجره)) بمعنى ألا يظلم أو يجور أو يستأثر برأي أو مصلحة . 3- وأن يتعامل مع الجميع بالحق والعدل والمساواة ويعمل كل ما من شأنه إصلاح الأوضاع ومنع الفساد وتحقيق مصالح الناس في جميع المجالات . بمعنى أن رأس الدولة الذي بات مرجعاً أعلى للبلاد يتحمل المسئولية كاملة في بناء مؤسسات الدولة الحديثة العادلة والقادرة على تلبية احتياجات المواطنين وتحقيق أهدافهم المشروعة . وتبقى أمامنا في الأخير مسألة التكييف الدستوري لهذه الفكرة وما هي طبيعة دور ومهام وصلاحيات رأس الدولة وقد أصبح مرجعاً أعلى للبلاد ضمن سياق البنية الدستورية للبلاد ، ذلك ما سنتناوله – بإذن الله تعالى – في الحلقة القادمة التي ربما تكون الأخيرة .. فإلى اللقاء .