المقدمة :   هذا الكتاب الذي تدور فصوله وسطوره حول الاسلام ذلك الدين الحق والعظيم في قيمه وتعاليمه وأهدافه ومقاصده السامية النبيلة لبناء النموذج المثالي الراقي للإنسان المكتمل الذي اراده الله جل جلاله وعلى الكيفية والمضامين الذي ارادها خالقه العظيم له وقد كرمه واصطفاه وأعده ليكون خليفته في الارض يبني ويعمر الحياة على قواعد وقوانين التعاون والتعاضد والمحبة والخير والسعادة مع سائر ابناء جنسه وجلدته من بني البشر على تنوع وتعدد أعراقهم والسنتهم ومشاربهم ومعتقداتهم والوانهم , لتقوم الحياة بهم جميعا ولهم جميعاً دون تمييزاً أو تعالٍ أو قهر أو ظلم أو استعباد الانسان لأخيه الانسان , وليمجدوا الله الخالق العظيم ويعبدوه كل وفق شرعه ومنهاجه واسلوبه الذي اختاره وآمن به واعتقده , اقول بأن هذا الكتاب بزغت فكرته وألحت على ذهن وهموم العبد لله , الفقير الى عفو ربه ورضاه , كاتبه عاش ما يقارب النصف قرن من حياته , منذ فترة شبابه اليافع , مبحراً وسط لجج العمل العام , وبالأخص منه العمل السياسي والاعلامي والحزبي بشكليه السري والعلني , بأمواجه العاتية وأنواعه المتقلبة وأحداثه العاصفة , ونشأ في ظل علاقة خصبة ووثيقة ومتفاعلة بينه وبين ” الاسلام ” , الدين مستكشفاً آفاقه الرحبة ودارساً لمضامين تعاليمه وقيمه ومبادئه وأوامره ونواهيه ومقاصده وغاياته الاخلاقية والسلوكية السامية , متأملاً ومتشرباً ومتمثلاً لها بقدر استطاعته , ومنطلقاً نحو آفاق دراسات الاديان المقارنة , بجهده ونشاطه الذاتي الشخصي , متخذاً من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , القران المجيد , مرشداً ودليلاً وموجهاً ومعلماً , وخاصة طوال ما يقارب النصف قرن من حياته ولما يزل على عتبات مرحلة شبابه المبكرة , مختلف التجارب السياسية والحزبية والثقافية والاعلامية بدواماتها واحداثها العاصفة بل ومخاطرها ومخاوفها المرعبة , وكذا افراحها وآمالها المبهجة والمبشرة , ورأى وسمع وعايش كيف كان حال الاسلام – الدين – , وكيف كانت تبدو صورته ومكانته ووضعه في الحياة – قديماً –  وكيف مضت مسيرته عبر المراحل التاريخية المعاصرة من التطورات والتقلبات الى ان وصلت الى ماهي عليه اليوم في صورة ومكانة ووضع يبعث على المرارة والأسى والحزن والألم الممعن، والحسرة الشديدة الوطأ على كل انسان مسلم سمع او بحث او تابع او عايش فترة الصورة والمكانة والوضع المشرق والمتألق والجميل الذي مثله وجسده الاسلام امام اهله وقومه، وفي ذات الوقت امام غير اهله وقومه من الشعوب وأمم العالم من حولنا , كدين يقدم ويدعو ويمارس ارقى واسمى فيم وتعاليم ومبادئ التسامح والمحبة والسلام والتعاون والتكامل الايجابي , والنموذج الابرز للقيم والاخلاقيات والسلوكيات الانسانية البناءة التي لم تعرف ولم يعرف عنها يوماً دعوات الكراهية والعنف والقتل وسفك الدماء والتخريب الشامل والحث عليها والاصرار الغريب والعجيب والمنحرف على تصويرها وترويجها على كونها من موجبات الدين الاسلامي ومن صميم دعوته وجوهره ومقاصده وغاياته كذباً وبهتاناً وتحريفاً , وهكذا أصبح الانسان الذي فهم الاسلام وعاش فيه وبه وفقه جوهر تعاليمه الاصيلة والصحيحة في التسامح والحب الانساني الواسع ودعواته الواضحة والقطعية الى ارساء مكارم الاخلاق وتقديس الحياة والحفاظ عليها , واشاعة أجواء السلام والأمن والأمان والسكينة والاطمئنان للفرد والمجتمع – أي فرد وأي مجتمع على امتداد العالم كله – واحترام مبادئ الحرية والعدالة والمساواة لهم جميعاً وبناء وتشييد صروح الخير والتقدم والازدهار على الأرض , اقول بأن الانسان المسلم الذي فهم واستوعب وتشرب مضامين الدين الاسلامي وحمل راياتها مفاخراً ومفتخراً , اصبح اليوم في حياته مطوقاً ومحاصراً بمختلف صنوف الضغوط التي تحاصره من كل اتجاه وتزداد وطأتها ومعاناتها النفسية والاخلاقية محملة اياه من الاعباء ومعاناة المرارة القاسية والأسى والحزن والآلام والعذابات ما تنؤ بحملها وتحملها الطاقة والقدرة الانسانية الطبيعية , بكل ما تعكسه عليه وعلى حياته من مشاعر الاحباط والتمزق والاغتراب , وهو يرى ويسمع ويشاهد ويتابع ما آل اليه دينه ( الاسلام )  من وضع وصورة بشعة ومخيفة في نظر أهله وقومه , وفي نظر وتقييم شعوب وأمم وحكومات العالم برمته من حولنا للإسلام الذي اصبح ينظر اليه , والى كل المؤمنين به من المسلمين , على انه دين خطير لا يعرف سوى العنف والارهاب والقتل وسفك الدماء والتخريب والتدمير الشامل وبث روح الكراهية واستباحة ارواح ودماء وحقوق وحياة كل الآخرين غير المؤمنين به والسعي الى اهلاكهم وابادتهم , ليس هذا فحسب , بل وحتى السواد الأعظم من المسلمين من المعارضين وغير الموالين والخاضعين للجماعات والتنظيمات الاجرامية الارهابية المدعية – كذباً وزوراً – للإسلام والتعبير عنه , هم أيضاً مستهدفين بالقتل والتصفية والابادة . ومن وسط وقلب هذا الجو والمناخ السوداوي القاتم المرعب , حقاً , بزغت فكرة كتابة هذا الكتاب , في ذهن كاتبه الذي امتلأ صدره وضاق وطفح من فرط شعوره بوطأة العذاب والالم والمعاناة العاصفة التي تكاد ان تفقده صوابه وتعصف بتماسك وتوازن قواه النفسية والعقلية الانسانية من سوء ومأساوية وحجم الانحراف الكلي عن الاسلام والصورة المشوهة والبشعة التي باتت منطبعة في اذهان العالم , بمسلميه وغير مسلميه , عن ديننا الاسلامي اليوم وعلى نحو يتعارض ويتناقض مع الاسلام وجوهره الاصيل وقيمه وتعاليمه الحقيقية المشرقة التي عرف بها وجسدها طوال مراحل تاريخه الطويل , بعيداً وبمعزل عن مقتضيات واخطاء السياسة العملية لمختلف النظم والسلطات الحاكمة التي تعاقبت على حكم البلدان الاسلامية , كل ذلك , وما يتصل به ويتواشج معه , هو الذي ألح وفرض عليٌ فكرة الشروع في كتابة ونشر هذا الكتاب , الذي يسعى ويعمل على تحقيق ما بمقدوره واستطاعته عدة أهداف منها وأهمها : –         الهدف الأول : الذي يشكل اولوية لهذا الكتاب يتمثل في بذل اقصى جهد مستطاع , لرسم وتكوين صورة عامة للإسلام كدين من حيث طبيعته وجوهره , مقاصده وغاياته , من خلال القيم والمبادئ والتعاليم والاوامر والنواهي التي أكدها وحث على التزامها وجعلها سلوكاً حياتياً للمسلم من خلال , وعلى ضوء , ما اورده “القران الكريم” من آيات ونصوص واضحة وقطعية الثبوت والدلالة , وكيف يتم فهمها واستيعابها وتطبيقها عملياً , وبيان موقف الدين – الاسلام , ورؤيته لأهم القضايا الرئيسية المركزية والمعاصرة مثل موقف الاسلام – الدين – من مسألة السياسة وما يتصل بها من مسائل كنظام الحُكم او الدولة وادارتها وبنائها , وكذا الاحزاب والديمقراطية ووسائل تطبيقها كالانتخابات والمنظمات المدنية والنقابية والحريات الفردية والعامة , والحاكم وكيف يختار وشروطه ومهامه وواجباته وضوابط ممارسته لمهامه وآليات عزله او تغييره … الخ , ووظيفة الحُكم واهدافه وغير ذلك من المسائل ذات الصلة مع التركيز على موقف الاسلام من اقامة حزب او احزاب تضفي على نفسها ودورها صبغة تمثيل الاسلام والتعبير عنه واحتكاره أو احتكارها لصفة تمثيل الدين ومدى مشروعية ذلك من الناحية الدينية … الخ ,  بالإضافة الى استعراض موقف الدين من مسألة ” الفتوى ” و ” الافتاء ” ومن له الحق بالتصدر لها واطلاقها ، ومدى مشروعية ذلك من الناحية الدينية , وموقف الدين من مسألة العلاقة والتعامل وحقوق وواجبات مكونات المجتمع الاسلامي من الديانات والمعتقدات الاخرى غير الاسلامية ، وحقوق المواطنة والمساواة والموقف من المرأة , والتطرق للأفكار والنظريات السياسية والاقتصادية والفكرية كالليبرالية والرأسمالية والاشتراكية ومسألة العدالة الاجتماعية ومعالجة مشكلات البطالة والفقر والتفاوت الطبقي … الخ , مستندين في كل ذلك على ” مرجعية فكرية ” واحدة فقط وهي ” القران الكريم ” دون الاقتراب أو الخوض في كل ما سواه من مرجعيات كالمذاهب الفقهية والفرق والمدارس الاسلامية الفلسفية وكتب ” الاحاديث النبوية الشريفة ” المنسوبة للرسول صلى الله عليه واله وسلم , باعتبارها ” مرجعيات ” هي محل خلاف واختلاف وانقسامات المسلمين وصراعاتهم , على امتداد التاريخ الاسلامي كله , باستثناء العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين الأربعة من بعده , مستندين الى قاعدة الاقتصار على ما يجمع ويوحد بين المسلمين ويشكل محل اجماعهم الشامل , وتجنب ما يفرق ويمزق ويثير الخلاف بينهم , وذلك محاولة لتأسيس ارضية واحدة مشتركة يقف عليها كل المسلمين جميعاً على اختلاف مشاريعهم واتجاهاتهم واجتهاداتهم , وينطلقون منها جميعاً لإعادة بناء حياتهم ومستقبلهم بالوحدة والتضامن والتلاحم والتكامل فيما بينهم جميعاً , واستبعاد كل الوسائل والاسباب والعوامل التي مزقتهم وشتتت قواهم وبعثرت امكانياتهم واستنزفتها في صراعات بينية مريرة ودامية ومدمرة في ماضيهم البعيد والقريب .   –         أما الهدف الثاني : الذي يهتم الكاتب بتحقيقه فيتجه الى بحث ومناقشة العوامل والاسباب والظروف الي ظهرت في ظلها القوى والجماعات والتنظيمات المدعية الانتماء للإسلام والمعتمدة اساليب العنف والارهاب ولغة السلاح والقتل وما هي الاسانيد والاسس التي قامت بناءً عليها من النواحي الدينية والفكرية والسياسية وبيان مدى تعارضها مع جوهر الدين الاسلامي وقيمه وتعاليمه الحقة باعتبارها مسئولة عن الحاق الضرر البالغ في تشويه صورة الاسلام والاساءة اليه وتأليب العالم ضده , وبيان العوامل والاسباب والظروف التي عملت وساعدت على نموهم وتصاعد قوتهم وانتشارهم , وكيفية مواجهتها وسحب الارضية المساعدة من تحت اقدامهم , وتوضيح حجم البشاعات والجرائم البشعة وغير المسبوقة التي يرتكبونها في حق المسلمين وغير المسلمين , ومدى ما يمثلونه من تهديد للحياة الانسانية برمتها ومكتسباتها وانجازاتها الواسعة وخطرهم الداهم لأنظمة الحُكم واستقرار وامن وسلام مجتمعاتها وشعوبها .   –         الهدف الثالث : ولعله الأخير , يتجه الى بيان أهمية الدعوة الى قيام ثورة ثقافية وتجديد اسلامي شامل وعميق لتنقية الموروث الفقهي والسياسي والثقافي الذي شاب فكرنا وثقافتنا الاسلامية والتخلص من جملة التشويهات والانحرافات الكثيرة والعميقة التي علقت بها طوال العهود السابقة، وبيان ما جرته ثقافة الاحاديث النبوية المنسوبة للرسول من كوارث ومصائب على المجتمع الاسلامي ماضياً وحاضراً من حيث تصادمها وتعارضها الصارخ مع بعضها البعض من ناحية , ومع جوهر الدين وقيمه وتعاليمه الصريحة والواضحة من جهة أخرى , وطبيعة الدور التشويهي الذي لعبته في تشوية صورة الدين والخلفية التي هيأتها للانحرافات والافكار الارهابية والتدميرية والاساءة الى شخصية الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واخلاقه العظيمة , وتسويغ الفواحش والممارسات اللااخلاقية المنحرفة وتعميق الفرقة والانقسام والتمزق والصراع بين المسلمين عبر التاريخ من حيث انها باتت تشكل ديناً موازياً للدين ما انزل الله به من سلطان , وايضاً الدور التمزيقي الحاضن لأفكار وممارسات العنف والارهاب والقتل وتكفير كل الخصوم والمختلفين من المسلمين ومن اتباع الديانات الاخرى غير الاسلامية الذي لعبته المذاهب والفرق الاسلامية المختلفة وتعميقها للتعصب المقيت , وواقع خروجها الصريح على أحكام وتعاليم وقيم الاسلام التي يتضمنها كتاب الله العزيز “القران الكريم” وبيان حاجة المسلمين المُلحة والضرورة للعودة الى صفاء عقيدتهم واشراق دينهم من خلال أعمال كتاب الله جل جلاله وحده في حياتنا وشؤوننا الفردية والمجتمعية . وسيشكل هدف من الاهداف الرئيسية المذكورة آنفاً باب من ابواب الكتاب , وكل باب سيتفرع الى جملة من القضايا والعناوين المرتبطة به ليكتمل الكتاب بخاتمة تدور حول ملخص مُركز لموضوع ومحور الكتاب والنتائج الرئيسية التي خلص اليها , ومن الله سبحانه وتعالى جل شأنه نلتمس الهداية والعون والتوفيق في مهمتنا هذه التي مقصدنا بها ابتغاء وجهه الكريم ومرضاته . ولا يفوتني التنويه هنا بأن ما تضمنه هذا الكتاب من قضايا ومشكلات هو , في مجمله , خلاصة لتجارب ومعايشات وتفاعلات وقراءات ومتابعات وعلاقات خاضها الكاتب وعاصرها وتفاعل معها وبها وتأثر وأثر فيها ومعاناة نقاشات وحوارات شتى , وكذا اختلافات وجدالات عاصفة سواء خلال مجالس خاصة وعامة او عبر الكتابات والسجالات الصحفية , طوال فترة تمتد الى ما يقارب النصف قرن من الزمان , حيث ولج الكاتب وخاض غمار العمل السياسي والحزبي والكتابي في سن مبكرة وهو لايزال في مرحلة الشباب الأولى , ولذلك يمكن اعتبار ما يتضمنه الكتاب , على وجه العموم , وفي الغالب , بمثابة تسجيل الانطباعات , وذكريات ذاتية , ولم يتخذ الكتاب طابع البحث الاكاديمي العلمي المتعارف عليه والمعمول به في كتابة أو تأليف الكتب , وإنما هو أقرب الى بث وتسجيل جملة من الهموم والاهتمامات والمعاناة التي قاساها الكاتب طوال تلك الفترة الزمنية الطويلة الى حد ما .                     الباب الأول الدين .. طبيعته ومقاصده وأهدافه           أولاً: ما هو الدين : كلمة ” دين” من الناحية اللغوية تعني اجمالاً الطريق والصراط والمنهاج وايضاً الذل والخضوع .. ومن الناحية الاصطلاحية فان الدين يعني , باختصار , منظومة متكاملة من القيم والأمثال والأحكام والتعاليم الاخلاقية والسلوكية التي تنتظم في مجموعة من الاوامر والنواهي الصادرة عن الخالق الأعظم جل جلاله والموجهة الى خلقه من البشر عبر سلسلة متتابعة من الرسالات التي انزلها الله سبحانه وتعالى للناس , على فترات زمنية مختلفة , على طريق اكتمال دين الله الواحد وتكامله , عبر مجموعة من الانبياء والرسل الكرام اختارهم الله القدير من بين الناس واصطفاهم واجتباهم وأعدهم إعداداً انسانياً واخلاقياً وعقلياً وبدنياً لحمل رسالات الدين  وتبليغها للناس في مجتمعاتهم , وهي تهدف الى هداية الانسان الى الطريق والنهج القويم وتكوينه تكويناً متكاملاً والارتقاء به خلقاً وأخلاقاً وسلوكاً وفكراً الى أعلى وأسمى مكانة تؤهله التأهيل الصحيح والمناسب للنهوض بالدور والمهمة والغاية التي حددها الله جل جلاله  من خلق الانسان، وجعله خليفة في الارض لعمارتها وبناء الحياة المثلى عليها وفقاً وبناءً على قيم ومبادئ وتعاليم واحكام الدين التي تضمنتها رسالاته المتعددة والتي توافقت كل واحدة منها مع مرحلة من مراحل التطور التاريخي للحياة الانسانية على الارض وظروفها الموضوعية ومشكلاتها القائمة واحتياجاتها الملحة على طريق او مسيرة تكامل تلك الرسالات واكتمال دين الله الواحد في منظومة قيمه ومبادئه وتعاليمه واحكامه مع نضج وتبلور واستقرار الحياة الانسانية وبلوغها مرحلة الاستعداد والقدرة على فهم واستيعاب وادارة شئونها وفقاً وعلى هدى مضامين الدين وقيمه واحكامه وتعاليمه التي تضمنتها رسالات رسل الله المتعاقبة الهادفة الى ترسيخ وتجسيد النموذج الأمثل والارقى والأسمى لبناء الانسان والمجتمع الانساني ودورهما في الحياة على الارض . ان الدور العظيم لأنبياء الله ورسله المكرمين جميعاً ينحصر في تلقي رسالات وكتب وبينات ربهم , بواسطة الوحي الذي يوحيه الله جل جلاله , عبر ملائكته الأطهار , والمتضمن تعاليم وقيم ومبادئ وتعاليم واحكام تلك الرسالات والكتب والبينات , وقد اصطفاهم واجتباهم وأعدهم , بعلمه , اعداداً كاملاً متكاملاً , للقيام بذلك الدور , والمهمة العظيمة على اكمل وجه , في تلقيها واستيعابها وكتابتها وتمثلها وحملها وتبليغها للناس المرسلين اليهم دون زيادة او نقصان او تصرف من تلقاء انفسهم , وفي بيان ذلك يقول الله تعالى في محكم آيات كتابه الكريم : ” وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ” الأنعام 48 , ” رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ” النساء 165 , ” أبلغكم رسالات ربي وانا لكم ناصح أمين ” ويقول جل جلاله : ” وان كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا ” الاسراء 73 , والآية ” شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ” الشورى 12 , والآية ” قولوا آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وان تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ” البقرة 136-137 . ان هذه البينات تشير , بكل وضوح , الى حقيقة ان انبياء الله ورسله هم بشر اختارهم الله جل جلاله بعلمه ومشيئته ليبلغوا رسالات وكتب وبينات ربهم التي تلقوها وحياً من ربهم ويبشروا وينذروا اقوامهم بها ومضامينها ويدعونهم للإيمان بها والعمل بها وتنفيذها اذا ارادوا ان يهتدوا ويرشدوا , ولا نجد حين نبحث أو ندقق في كتاب الله العزيز “القران الكريم” أي ذكر او اشارة , على نحو مباشر او غير مباشر , تفيد او تلمح مجرد تلميح الى أي نوع من انواع ” الثنائية” و ” الندية ” بين الله سبحانه وتعالى وهو الخالق البارئ المصور وبين رسله وانبياءه المكرمين وهم بشر من خلق الله وعبيداً من عباده , بحيث يمكن تصور او توهم امكانية ان يكون لله جل جلاله رسالات وكتب منزلة , وحياً , على رسله وأنبياءه , ولأنبيائه ورسله رسالات وكتب موازية الى جانب رسالات الله وكتبه! ولو جوَّز انسان لنفسه مثل هذا التصور والوهم لأوقع نفسه , من حيث يدري ومن حيث لا يدري , في دائرة الشرك بالله تعالى علواً كبيرا , وفي كل آيات كتاب الله العزيز لا نجد أدنى اشارة ان نبي او رسول دعا الناس لاتباع كتاب الله والى جانبه كتاب رسول الله! قال تعالى : “قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ان أتبع الا ما يوحى إليّ قل هل يستوي الأعمى والبصير” الأنعام 50 , وفي آية أخرى : “اتبع ما أوحي اليك من ربك  لا اله الا هو واعرض عن المشركين ” الأنعام 106, وفي آية ثالثة : “اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء وقليلاً ما تذكرون” الأعراف 3 , وفي آية رابعة : ” وهذا الكتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون” الأنعام 155 . ومن تدبر آيات كتاب الله العزيز , الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير , يتضح , بما لا يدع أي مجال للشك , بأنه فيما يتعلق بالدين وما يتصل به من أحكام وتعاليم وقيم واوامر ونواهٍ ، فان الله الحكيم العليم خالق الخلق والوجود ومدبره , هو وحده المُشرع الأوحد ، ولا يجوز لكائن من كان ان يشاركه في التشريع ..  قال تعالى : “شرع لكم من الدين” الشورى 12 , والآية: “إن الحكم إلا لله أمر ان لا تعبدوا إلا إياه” يوسف 40 .. والآية : “ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين” الأعراف 54 .والآية: “بل لله الأمر جميعاً”  الرعد 31, والآية: “ليس لك من الأمر من شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم” آل عمران 128.. والآية : “قل إن الأمر كله لله” آل عمران 154 .. والآية : “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” البقرة 193. واذن فان المشروع الأوحد في الدين هو الله جل جلاله لا شريك له , وهو أمر يتسق وينسجم مع منطق الأشياء وسلامتها من حيث ان خالق الخلق هو وحده واضع الدين لخلقه , وكل ما دونه من خلقه لا يبلغ ولا ذرة ولا أدنى من ذلك من علمه علام الغيوب , والتشريع في الدين وكل ما يتعلق به والذي هو من شأن الله وسلطانه يختلف تماماً عن تشريع القوانين والنظم واللوائح والضوابط المنظمة لعلاقات أفراد المجتمع وشؤون حياتهم الدنيوية وامور معاشهم وتدبير احتياجاتهم، وهي دائرة يختص بها افراد المجتمع، وبديهي ان لا تفضي الى تحليل الحرام واباحة الفواحش والمنكرات التي نهانا الله تعالى عنها , ودين الله الخالق الذي شرعه لخلقه من البشر في حياتهم الدنيا له مقاصد وأهداف وغايات نبيلة سامية حددها الله اللطيف الكبير , تهدف الى بناء الانسان بناءً متكاملاً واعداده اعدادً كاملاً بما يؤهله للقيام بدوره ومهمته في الحياة الدنيا خير قيام على نحو ما حددها الله تعالى وفصلها في رسالات دينه الحق والقويم وبما يحقق الهدف والغاية من الحياة الانسانية , يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: “لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ” الحديد 25 , ويقول وهو أصدق القائلين : “قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم الا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا اولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهم ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصآكم به لعلكم تعقلون ۞ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده , وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها ، وإذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلك وصاكم به لعلكم تتقون” الأنعام 150-152 , وقال سبحانه : “ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ۞ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات واولئك لهم عذاب عظيم” آل عمران 104 , والآيات التالية “إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ۞ وأوفوا بعهد الله اذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، ان الله يعلم ما تفعلون” النحل 91 . -” واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ان الله لا يحب من كان مختالاً فخورا” النساء . -” وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ، واتقوا الله ان الله شديد العقاب” المائدة. -” ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين” -” يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم” الحجرات. هذه الآيات الكريمة , وغيرها الكثير , في كتاب الله العزيز حددت بوضوح غايات الدين ومقاصده واهدافه كما اراد الله تعالى لعباده في الحياة الدنيا . ويتضح وضوحاً كاملاً لا لبس فيه ولا غموض , من سياق ومضامين ومعاني الآيات الكريمة التي ذكرناها آنفاً وغيرها الكثير في كتاب الله العزيز “القران العظيم” , ان الهدف المحوري الاكبر لدين الله القويم , برسالاته المتعددة المتتالية التي أنزلها الله الخالق الأعظم على كل أنبيائه ورسله الكرام جميعاً ليبلغوها عن ربهم للناس أجمعين على اختلاف السنتهم والوانهم وبيئاتهم وعلى امتداد مراحل تاريخية ممتدة ومتعاقبة , وصولاً الى الرسالة الالهية الخاتمة “القران الكريم” التي أنزلت على رسوله الخاتم , عليه وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين الصلاة والسلام , اقول بأن هدفه المحوري الأكبر , أي هدف دين الله الواحد الأحد , بناء الانسان الفرد على ارقى وانبل واسمى القيم والمثل الساعية الى بنائه وفق مكارم الاخلاق والسلوكيات الايجابية التي تنظم وتوجه علاقاته وتعاملاته مع خالقه العظيم أولاً ثم مع افراد مجتمعه من بني الانسان عموماً , على اختلاف معتقداتهم ودياناتهم ومشاربهم وأفكارهم , في منظومة متكاملة ومترابطة من القيم والمثل والاخلاقيات والسلوكيات الأرقى والأمثل والأقوم , في اتجاه وصوب الهدف المحوري الأعظم للدين القيم المتمثل بإقامة وبناء وترسيخ حياة انسانية قوامها الحرية والكرامة الانسانية والحق والعدل والمساواة توفر للإنسان والمجتمع اسباب الخير والرفاهية في ظل أجواء الأمن والأمان والسلام والطمأنينة والاستقرار , تنتقي فيها عوامل وممارسات الظلم والقهر والاضطهاد والاستعباد , حياة لا مجال فيها للحروب والمنازعات وسفك الدماء والقتل والترويع بمختلف صوره واشكاله ومهما كانت اسبابه ومبرراته إلا في حالة القصاص الشرعي , النفس بالنفس , فاتحاً المجال فيها لصفح وعفو أولياء دم القتيل وتسامحهم ومشجعاً عليه , او في حالات استثنائية تفرض فيه على المجتمع اعمال وممارسات الفساد والافساد في الأرص التي تندرج في اطارها افساد وتدمير البيئة والاخلال بالتوازن البيئي القائم على الحفاظ على التوازن والانسجام والتكامل لكافة اشكال الحياة البرية والبحرية والطبيعية في كافة مجالات الحياة , قال تعالى شأنه وتقدست اسماؤه في الآية الكريمة : ” واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد” البقرة 205 , وقال سبحانه: “ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها” الاعراف 56 . وقال: ” ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون” الروم 41 , وقال سبحانه: ” انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم” المائدة 33 , والواقع ان الآيات الكريمة آنفة الذكر التي تتحدث عن الفساد في الأرض وتستبشعه وتغلظ عقوبته , اضافة الى آيات أخر كثيرة تحدثت عن الفساد والمفسدين , تدل دلالة واضحة الأهمية الكبرى التي اولاها الدين لمسألة الفساد والافساد في الأرض والمفسدين .. الخ , بالنظر الى تأثيرها التدميري والاهلاكي واسع النطاق الذي تُحدثه على مجمل الحياة الانسانية وتناغمها وتوازنها ونظامها البيئي والحياتي بالغ الدقة والتكامل لكافة أجزائه ومكوناته , وفي اعتقادنا أن مسألة الفساد هذه ليست مقصورة أو محصورة , وفقاً لآراء واجتهادات الفقهاء السابقين , على ما وصفوه بأعمال الحرابة في غير مناطق الحضر , كقطع الطرق وقتل عابري السبيل ونهب ممتلكاتهم وترويعهم , وما يترتب على كل ذلك من نشر الخوف والرعب والهلع والقضاء على اجواء الأمن والأمان والطمأنينة والسلام … الخ , بل يبدو واضحاً من سياق الآيات ومدلولات الفاظها القطعية , انها تعالج وتحرم كل الأفعال والممارسات المنفلتة والعشوائية التي تدمر البيئة وتخل بتوازنها بالاستغلال المفرط وغير الضروري لخيراتها وثرواتها من الاشجار والحياة البرية والبحرية بدافع الجشع الشديد في جمع الأموال ومراكمتها والتي لا تعي او انها لا تضع وازعاً من دين أو ضمير او اخلاق بأن الأرض وضعها الله سبحانه للأنام والناس أجمعين وأجيالهم المتعاقبة بعدهم الى يوم الدين , وان الافراط والاندفاع المجنون لاستنزاف خيرات الأرض ومواردها وأحيائها باستحداث الوسائل والآلات الحديثة التي تقضي على مساحات واسعة من الاشجار وتهلك بالجملة أعداداً هائلة من الحيوانات والطيور والاسماك واستخدام المبيدات الكيميائية السامة التي تهلك وتبيد أنواعاً مختلفة من الأحياء وتؤدي الى انقراضها ، وبالتالي التأثير والقضاء على باقي الأنواع والأحياء بسبب تدمير واختلال التوازن البيئي الدقيق , ما يهدد , في الأخير , الحياة الانسانية برمتها على الأرض تهديداً حقيقياً ومدمراً , هذه القضية هي المقصودة على نحو رئيسي من الآيات الكريمة التي تحدثت عن الفساد والافساد في الأرض والمفسدين … الخ , حيث تتحدث الآيات المذكورة آنفاً صراحة “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” ” واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد” , هنا الآية تشير الى أصحاب السلطان في الأرض او النفوذ حين يتولون امور المجتمعات يسيرون على طريق افساد الارض، وهو الفساد المؤدي الى اهلاك الحرث – خيرات الأرض وثرواتها – واهلاك النسل الناتج عن الابادات الواسعة للأنواع والاحياء المفضية الى انقراضها وانقطاع تناسلها , ويتضح هذا الأمر بشكل أكبر من مدلول الفاظ الآية: ” ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون” , أي أن آثار الفساد التدميري ظهرت صوره في الحياة البرية والبحرية أي في البيئة والطبيعة بسبب افعال الانسان ومن صُنع أيديهم وما نتج عن كل ذلك من كوارث ومصائب كلها مهلكة للحياة برمتها في من قبيل العقاب والجزاء الذي يعانون من ويلاته ومظاهره المدمرة لعلهم يدركون هول وخطورة ما صنعت أيديهم ويتوقفون عن أعمالهم وتصرفاتهم المسرفة والمدمرة للبيئة والطبيعة لضمان استمرار خيراتها وعطاءاتها للإنسان بتعاقب أجياله وأزمانه .. ولهذا غلظت الآية العقوبات على هؤلاء المفسدين في الأرض ” انما جزاء الذين يحاربن الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم” وهي أربع عقوبات رادعة تخييرية تركت للمجتمع وولاة أموره توقيع أي منها بحسب حجم الضرر والاهلاك الواقع , ولو كانت آيات المفسدين في الأرض تخص أعمال الحرابة كقطع الطرق وقتل عابري السبيل ونهب اموالهم وترويعهم .. الخ , فإن كل جريمة من تلك الأعمال عقوبة محددة وقاطعة وليست تخييرية كحد القصاص الشرعي النفس بالنفس , وغير ذلك من العقوبات التعزيرية التي يقرر القضاء توقيعها على الجناة كل بحسب جرمه وفعله. ولقد أوضح دين الله القويم , في مختلف كتبه ورسالاته على يد رسله وأنبيائه ليبلغوها للناس ولينذروا بها , ان الله الخالق الأعظم تعالى شأنه قد خلق السماوات والأرض وأودع فيهما من الخيرات والنعم والثروات وخلق فيهما للإنسان كل تلك النعم التي لا تحصى بنظام خلق بالغ الدقة والنظام وبمقادير وتوازن يحقق لها ويضمن استمرار وتواصل عطائها وفق موازين تكاملية مدهشة بحيث تعتمد كل واحدة منها في وجودها وبقائها على وجود وبقاء الحيوات الأخرى أي قاعدة اعتماد الجزء على الكل واعتماد الكل على الجزء فإذا حدث اختلال ولو بسيط في منظومة تلك الموازيين التكاملية كأن يجري القضاء على حياة ووجود احداها بمختلف السبل والوسائل يختل الميزان كله وتتأثر كافة أنواع واشكال التوازن والتكامل بين خيرات الأرض والأحياء كافة وتفسد الأرض وتدمر الطبيعة والبيئة وتنتشر الامراض والأوبئة عبر هلاك وانقراض انواع متزايدة من خيرات ومنتجات الارض والاحياء البرية والبحرية وبالتالي تصبح الحياة الانسانية وقابليتها للاستمرار مهددة ومنذرة بأوخم العواقب والكوارث الماحقة , على نحو ما يعانيه العالم اليوم من ما يسمى بالاحتباس الحراري وتآكل طبقة الأوزون وزيادة درجات الحرارة وخطر ذوبان الجليد في قطبي الكرة الارضية وانتشار انواع غريبة ومتزايدة من الامراض والأوبئة وعملية الانقراض المتزايدة والآخذة بالاتساع للأحياء البرية والبحرية وغير ذلك من الكوارث الداهمة ,  ومن عناية الله عز وجل جلاله بخلقه ومخلوقاته نبه الناس وحذرهم في رسالات دينه الواحد القويم , من مغبة وكارثية السعي في الأرض فساداً او اهلاك الحرث والنسل في الارض , عبر ما يفعله الانسان سواء كان فرداً والياً ومتنفذاً على خلق الله او عبر الشركات الرأسمالية العملاقة التي يحركها الجشع الرأسمالي لجمع الأموال والثروات عبر الاستنزاف المفرط لثروات وخيرات الارض واجتثاث الغابات والاشجار بوسائل الاجتثاث والدمار الشامل , وما يشكله كل ذلك من خطورة حقيقية وجادة لمجمل حياة الانسان على الارض , بأجياله المتعاقبة والمتواصلة عبر التاريخ , فارضاً اقصى العقوبات الرادعة لكل ذلك تقتيلاً وصلباً وتقطيعاً للأيدي والأرجل والنفي من الأرض في الدنيا وفي الآخرة أعد لهم عذاباً عظيماً , وأوجب الدين على الناس مسئولية الحفاظ على البيئة او الطبيعة او الارض وما فيها ومن عليها وفي مقدمتها حفظ الحياة العامة للإنسان وسائر المخلوقات من الحيوانات والأنعام والطير والأحياء البحرية وما تنتجه الأرض من خيرات وما تختزنه من ثروات لصالح الانسان ومن أجله , وذلك من خلال قاعدة أو قانون اساسي أكده الدين وحث عليه وعلى الالتزام الصارم بمقتضياته , تلك القاعدة أو القانون الذي أكدته الآية “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ان الله لا يحب المسرفين” الاعراف 31 , وآيات أخرى عديدة غيرها على نفس السياق , وهي قاعدة عامة تفرض على الناس التمتع بكل الخيرات ونعم الأرض بأقصى قدر من الاستغلال الرشيد لموارد الطبيعة وخيراتها بغير اسراف ولا تبذير، ويقتصر على سد حاجة الانسان وبالتالي المجتمع وينهى ربما الى حد التحريم , عن افساد الأرض أو الطبيعة والاستنزاف المفرط والمجنون لموارد ومنتجات وخيرات الأرض والبحر دون ادنى حاجة او ضرورة حياتية لذلك وانما فقط من أجل جمع الأموال ومراكمة الثروات لأصحاب المصالح الجشعين دون أي اعتبار للحفاظ على البيئة وخيراتها وثرواتها التي جعلها الله الخالق لحفظ واستمرار حياة الانسان وسعادته على الارض بتعاقب الأجيال الى أبد الآبدين , ولهذا نهى الله تعالى شأنه وحرّم على الانسان أن لا يأخذ إلا ما يسد حاجته ويحفظ حياته وبقاءه على الأرض , وتأسيساً على هذه القاعدة شرع فقهاء الاسلام جملة من الاحكام منها أنه لا يجوز للإنسان أن يصطاد من الحيوانات أو الطير وصيد البحر إلا بمقدار ما يحتاجه هو وعائلته لسد جوعهم , أو يقوم بقطع الأشجار عشوائياً وبغير نظام وضوابط يحافظ على نحو وتجدد الشجرة في موسم نمو واكتساء الأشجار أي في الربيع , وفي الجملة أن ينظم شئون حياته ومعاشه دون اسراف او تبذير او تبديد وانما في اطار قاعدة ” وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين” . وبناءً على ما سبق , وعلى ضوئه وفي سياقه , نفهم تماماً عظمة حكمة الله جل جلاله البالغة حين قضى وفرض أن تكون ثلث الفترة الزمنية من كل عام , أي أربعة أشهر كل سنة , أشهراً حرماً قال تعالى في محكم كتابه العزيز : ” ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم” التوبة , وخلال هذه الشهور نهى الله سبحانه المؤمنين نهياً قاطعاً عن القيام بصيد البر , أي كل ما هو على الأرض من الحيوانات البرية والطيور على نحو ما تؤكده الآيات الكريمة : – “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي  الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” المائدة 1-2. ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ  أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” المائدة 94-96 . والواقع أن تأمل آيات القران الكريم , المذكورة آنفاً , وغيرها , وتدبر معانيها ودلالة الفاظها وحكمة الشرع العزيز منها , يدرك حكمة الله البالغة من ورائها وغاياتها ان تكون ثلث فترة السنة , أي أربع أشهر , فترة حُرم يلتزم بها المؤمنون، وفيها حرم الله تعالى عليهم صيد البر , بجميع أشكاله , طوال الأربعة الأشهر الحُرم , والمفترض من سياق الآية أن تكون تلك الِأشهر الحرم متتالية ومتعاقبة شهراً وراء شهر , وليست متقطعة ومتفرقة , بحيث تتوافق وتتطابق مع موسم ” التوالد والتكاثر” للأحياء البرية من حيوانات وطيور وزواحف وغيرها , حيث حرم الله تعالى صيدها ضماناً لتوالدها وتكاثرها والحفاظ عليها وحمايتها من الانقراض بحكم الاصطياد المنفلت وغير المنضبط , ومن المعلوم , تاريخياً , ان العرب ما قبل الاسلام في جزيرة العرب , كانوا يعتمدون في حياتهم تقويماً قمرياً يتولى فيه العارفون بأسرار الدورة الفلكية بالتوفيق بين التقويمين القمري والشمسي , ليتوافق وينسجم مع الدورة الفلكية الشهرية والسنوية لدورة الأرص حول القمر وحول الشمس،  بحيث من المعروف أن هناك تقريباً أحد عشر يوماً في السنة هي فارق الزمن بين التقويم الشمسي والقمري  أي أن التقويم يفرق عن الشمس بأحد عشر يوماً في السنة , وكان سدنة البيت الحرام هم من يقومون بمعرفة التوفيق بين التقويمين يما يحقق للتقويم القمري التطابق مع الدورة الفلكية الكاملة لكل عام ولهذا عرفوا بلقب ” النساءون” أي الذين يدخلون زيادة فارق الزمن بين التقويم القمري والدورة الفلكية الكاملة في تقويمهم القمري المعتمد , ولهذا كان تقويمهم من اكثر التقاويم دقة وتطابقاً مع الدورة الفلكية الكاملة , حيث يتوافق ويتطابق بدقة كبيرة مع تعاقب الفصول وانتظام دخولها وانتهائها في نفس التوقيت والمناخ ، بمعنى ان موسم سوق عكاظ والحج الى البيت العتيق ومواسم الزراعة والبدر والحصاد والتعاملات التجارية وآجالها تأتي كل سنة في موعدها المحدد فموسم سوق عكاظ والحج مثلاُ يأتي دائماً بعد موسم الحصاد حيث يكون الناس مهيئين ومستعدين للذهاب الى تلك المواسم بعد فراغهم من موسم الحصاد تماماً , وفي وقت واحد محدد لا يتغير من حيث مناخه صيفاً او شتاء , ربيعاً أو خريف وهكذا , وبقيت كل شئون ومعاملات المجتمع تتم وفقاً لذلك التقويم البديع الذي ابتكره عرب الجزيرة وضبطوه بدقة متناهية , وظل ذلك التقويم معمولاً به في فترات ما قبل الاسلام والى فترة ليست طويلة بعد الاسلام حيث تم وقف العمل به والغائه تحت تأثير الفهم غير الدقيق لمقاصد ومعاني الآية الكريمة التي تتحدث عن النسيء والنسيئة: ” إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” التوبة 37 , وربما نتج اللبس وسوء الفهم للآية الكريمة هذه من تحرك كلمة “يضل” وموقعها من الاعراب وفيما اذا كانت بكسر الضاد فتكون “نائب فاعل” او يفتح الضاد حيث تصبح نائب مفعول والفرق كبير بين الوضعين , وخلاصة القول ان العرب عندما تخلوا عن تقويمهم الخاص والمبتكر الذي كان يعد التقويم الأكثر دقة من بين التقاويم السائدة آنذاك وحتى الآن , واعتمدوا التقويم القمري العادي دون ادخال فارق الأيام الأحد عشر والربع تقريباً بينه وبين الدورة الفلكية الكاملة سنوياً , فأصبحت فترات الفصول ومواسم الدورة الزراعية غير دقيقة ومنضبطة المواعيد بمعنى ان شهر الصوم مثلاً لم يعد يأتي , كما كان سابقاً , في فصل محدد من فصول السنة وهكذا الحال فيما بتعلق بأوقات ومواسم الدورة الزراعية السنوية , بل يصادف مجيء أي منها تارة في فصل الصيف وثانية في الخريف وثالثة في الشتاء وأخرى في الربيع وهكذا , واقصى ذلك التقويم من حسابات المزارعين والمعاملات التجارية والعقود وغيرها , حيث بات التقويم القمري العادي غير عملي ولا يحقق الغايات المنشودة من ورائه . وبالعودة الى موضوعنا في هذا الباب , نقول بأن الأشهر الحرم الأربعة من المفترض منطقياً أن تكون متتالية ومتتابعة دون انقطاع أو تشتت , وأن تكون من ناحية أخرى , ووفقاً لحساب التقويم القمري المضاف اليه فترة الأحد عشر يوماً وربع تقريباً سنوياً , متطابقة ومتوافقة في زمنها مع موسم أو فصل “التوالد والتكاثر” في الحيوات البرية المختلفة والمتعددة ليشكل حماية لها وضماناً لتوالدها وتكاثرها وحفاظاً لها من الانقراض بسبب أعمال الصيد أثناء فترة توالدها وتكاثرها , ولو لم تكن غاية تحريم صيد البر في الأشهر الحرام الأربعة هي هذه الغاية فلا نتبين غاية أو هدفاً آخر للتحريم مطلقاً . ولم تقتصر الغاية والهدف من تحريم صيد البر خلال الأشهر الحُرم الحفاظ على الحياة البرية بجميع أشكالها وأنواعها فحسب , بل شملت غايتها والهدف منها أيضاً وقف وتحريم الحروب والمنازعات الدموية واعمال القتل وسفك الدماء وقطع الطرق ونهب أموال عابري السبيل وترويع وارهاب الآمنين، وكافة صور واشكال العدوان والتعدي طوال فترة الأشهر الحُرم الأربعة أي ما يساوي ثلث الفترة الزمنية لكل عام , وفي هذا المعنى يقول الله تعالى جل شأنه في الآية الكريمة: ” فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ”    التوبة 5 , وهذا الحُكم كما يتضح من سياق ومدلولات آيات أخرى كثيرة , في حالة الحرب وصد العدوان والدفاع عن النفس ، وفيما عدا ذلك فإن الحكم تحدده الآية الكريمة: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۞ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” الممتحنة 8-9 وقال جل جلاله: ” وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ  ۞ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ۞ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ” البقرة 190-193 . ” وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ” التوبة 36 . ان الأشهر الحُرم الأربعة كلها جعلها الله فترة أمن وأمان وسلام للناس تحفظ حياتهم وتصون دمائهم وأعراضهم وأموالهم , تتيح فترة كافية لجنوح الناس الى السلم والامان من خلال ما نعموا به طوال الأشهر الحُرم من أمن وأمان وسكينة وسلام.       ثانياً : ماهي مقاصد الدين وأهدافه الكبرى؟ سوف نتحاشى هنا وفي هذا البند تكرار ما سبق أن أوضحناه في سياق البند السابق ” أولاً ما هو الدين ؟” وسنكتفي هنا استناداً او على ضوء ما سبق ذكره في البند السابق , بذكر أبرز وأهم المقاصد والغايات الكبرى لدين الله القويم الواحد , من خلال رسالاته وكتبه التي حملها رسل الله وأنبيائه المكرمين جميعاً بلاغاً للناس وهدى , وذلك على النحو التالي : 1-    بناء الانسان الفرد , ومن ثم المجتمع باعتباره مكوناً من أفراده واعداده وتأهيله بمنظومة متناسقة ومتكاملة من القيم والمثل والتعاليم التي تزوده بمكارم الأخلاق والسلوكيات القويمة والايجابية التي تجعله واعياً ومدركاً لهويته ومعنى حياته ودوره في الحياة الدنيا وطبيعة علاقاته وصلاته بخالقه وبأسرته وبمجتمعه وبسائر البشر على الأرض , انساناً حراً عزيزاً كريماً صادقاً أميناً نافعاً ومنتجاً وايجابياً مع نفسه وأسرته ومجتمعه متعاوناً مع غيره من البشر مضحياً ومساعداً للضعفاء والمساكين والعجزة والمحتاجين مقبلاً على الحياة بهمة ونشاط ومحبة ومتعاوناً ومتكاملاً مع غيره من الناس على مستوى مجتمعه والانسانية جمعاء , ساعياً الى أعمال الخير والبر وصالح الأعمال , لا يختزن في عقله ونفسه أي نوع من انواع الكبر والتكبر والحقد والكراهية والبغضاء تجاه غيره من البشر , متسامحاً عافٍ عن الناس كاظماً للغيظ , لا يظلم أحداً ولا يقبل بالظلم والاضطهاد والتجبر على نفسه وعلى غيره ولا يبخس الناس اشياءهم , ولا يأكل أموالهم بالباطل ولا يعتدي , يعشق الحق والعدل والاحسان في كل أعماله وحركاته , وباختصار ان يجعل من نفسه وأخلاقه وسلوكياته وأعماله كلها مثالاً للإنسان الكامل الذي أراده الله للإنسان وقد جعله مستخلفاً في الأرض وعليها , وإذا صلح الفرد وفق هذا النموذج الانساني الراقي صلح المجتمع كله وارتقى وسمى إلى أعلى مرتبة تجسد قول الله جل جلاله: ” ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون” آل عمران 104. 2-    ان الدين يهدف في المحصلة النهائية , الى اقامة الحياة الانسانية على الارض بالعدل والاحسان وبالحق والمساواة وصيانة حرية الانسان وكرامته , بعيداً عن الظلم والقهر والاذلال والاستعباد , وكفالة حياة انسانية كريمة وعزيزة للفقراء والمساكين والضعفاء والعجزة والمفلسين والاطفال وطلاب العلم ونصرة المستضعفين والمقهورين في الارض في اطار نظام تكافل اجتماعي شامل وفعال باعتبار ذلك ضمانة أساسية ومتينة لتحقيق وتمتين وترسيخ عرى ووشائج التلاحم الاجتماعي بين فئات وطبقات المجتمع والوئام والسلام الداخلي والأمن والأمان ووحدة المجتمع الواحد وبما يجنبه من ويلات الفتن والصراعات والحروب والتفكك والتمزق الداخلي الذي ينتج عن التفاوت الطبقي المريع بين الأغنياء والفقراء واحتكار الثروات وتكديسها لدى قلة محدودة جداً من أثرياء المجتمع، وعدم الشعور بمسئولياتهم وواجباتهم الدينية والأخلاقية تجاه الفقراء والمعدمين والجياع من ابناء مجتمعهم , وضمان ولو الحد الأدنى من الحياة الانسانية اللائقة والكريمة لهم من حيث ان تلك المسئوليات والواجبات والالتزامات تضمن إبعاد شبح وكوارث الحروب الطبقية المدمرة للمجتمع ككل وفي المقدمة منه طبقة الاغنياء والاثرياء ومصالحهم وثرواتهم وممتلكاتهم الواسعة , فالعدالة والتكافل الاجتماعي هما الطريق الأمثل والأسلم لتحقيق حالة السلام والوئام والتوافق بين جميع فئات المجتمع وطبقاته , غنييهم والفقير , وبسيادة حالة السلام والوئام يستتب الأمن والأمان والاستقرار العام في المجتمع وتزدهر التجارات ويتحقق النمو والتقدم والازدهار بالجميع ولصالح الجميع . 3-    إن أبرز وأهم المقاصد والغايات الكبرى التي اولاها الدين – عبر كافة رسالاته وكتبه ورسله وأنبيائه – اهتماماً كبيراً وحرص على ترسيخها وتحقيقها واقعاً عملياً ملزماً للناس كافة بالامتثال لها والعمل وفقاً لمقتضياتها , في حفظ وصيانة حياة الناس كافة ” يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يجيبكم” , ومن أجل هذه الغاية السامية حرص الدين عبر منظومته المتكاملة , سواء في بناء الفرد واعداده وتسليحه بقيم ومثل وتعاليم الاخلاق الكريمة والسلوكيات القويمة , او من خلال بناء الجماعة او المجتمع بكافة مستوياته ودوائره على ذات القيم والمثل والاخلاقيات والسلوكيات القويمة الايجابية , على وقف ومنع المنازعات والحروب والقتل وسفك الدماء والطغيان  بين الناس , واحلال قيم ومبادئ التعاون والعيش المشترك والسلام والأمن والأمان والتكافل والألفة والمحبة بين الناس جميعاً بصرف النظر عن معتقداتهم وعقائدهم واجناسهم ولغاتهم واصولهم بالتركيز على الحقيقة الجوهرية الساطعة بان الناس جميعاً هم منحدرون من نفس واحدة , قال تعالى: ” يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم” وان لا فضل لأحد على أحد إلا بما يقدمه من عطاءات وأعمال صالحة تصب في تحقيق الخير والفائدة له ولأسرته ومجتمعه , وكانت تعاليم الدين وأوامره ونواهيه واضحة وقاطعة وحاسمة بتحريم العدوان والاعتداء والقتال الا بهدف واحد وهو الدفاع عن النفس ووقف العدوان والمعتدين واجبارهم على الخضوع والامتثال للسلم والتعايش السلمي الايجابي بين الجميع للجميع. 4-    ومقصد وغاية أخرى هي مقصد المقاصد وغاية الغايات وتتمثل بتحرير الانسان تحريراً كاملاً من الخضوع والعبودية لكائن من كان من خلق الله وتحريم كافة أشكال الخضوع والعبودية لغير الله الخالق الأعظم وحده، والاخلاص الكامل في عبادة الله خالق وواهب كل شيء وحده لا شريك له واتقاء سخطه وغضبه ومقته وابتغاء مرضاته والتقرب الدائم اليه بالامتثال لأوامره ونواهيه والطاعة المطلقة له والخوف الدائم من عقابه وحسابه الأخروي في حالة الانحراف عن اوامره ونواهيه والقيام باعمال وممارسات سيئة قبيحة تستحق سخطه وغضبه , وهذه الغاية والمقصد تشكل الضمانة الوحيدة والفعالة لتحقيق سائر مقاصد وغايات الدين كافة لان الانسان يظل مدركاً , على الدوام , انه وان استطاع ان يفلت من عقاب الدنيا فلن يستطيع على الاطلاق ويقيناً أن يفلت من عقاب الله وحسابه العادل يوم القيامة , وهذا ما يعطي لحياة الانسان ودوره في الحياة الدنيا مغزاها ومعناها , ويسمو بها الى أعلى عليين , فيصبح من عباد الرحمن واحبابه المقربين الحائزين على رضاه ومرضاته وهي اسمى واعلى غاية يسعى الى بلوغها الانسان القويم  وصادق الايمان قولاً وعملاً وتعاملاً وسلوكاً واخلاقاً.   ثالثاً: منهج الدعوة الى الله ودينه القويم :   لا ريب بأن دين الله الخالق الأعظم , بكل كتبه ورسالاته التي أنزلها وأوحى بها لرسله وأنبياءه المكرمين جميعاً على تتابع الأزمان والمراحل التاريخية التي مرت على البشر في الأرض , ليبلغوها وينذروا بها الناس كافة , هذا الدين الواحد بتعدد رسالاته ورسله , فصله الله جل جلاله والذي وسعت رحمته كل شيء , على علم عنده بخلقه من حيث طبيعتهم والغاية من جعلهم خلفاء ومستخلفين في الأرض , ليكون في أسسه ومضامينه وغاياته هدى ورحمة وشفاء وبشرى للعالمين ولما يصلح حياتهم وعلاقاتهم ومعاملاتهم في حياتهم الدنيا وفي حياتهم الأخرى الآتية حتماً .. ودين الله القويم وهذا شأنه وطبيعته وغايته , لا يمكن , بأي حال من الأحوال , أن تكون الدعوة الى صراطه المستقيم ايماناً به وتسليماً له إلا متوافقة مع طبيعته ومتجانسة ومتطابقة معها , من حيث اعتمادها على المحاججة والاقناع والاقتناع العقلي المنطقي في اطار من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والعفو والصلح والتسامح , واستناداً إلى اساليب اللين والرفق والحب والرحمة والصبر ومواجهة السيئة بالحسنة , وتجنب كافة أشكال الفضاضة والغلظة والعنف والاكراه على الايمان بالقوة والارهاب والترويع , ذلك أن أساس الايمان بالله الخالق ورسالاته وكتبه وملائكته ورسله وأنبيائه مبني على الغيب او الايمان القلبي الباطني للإنسان نفسه , قال تعالى: ” الم  ۞ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ۞ الذين يؤمنون بالغيب” البقرة 1-3 , وقال تعالى: ” ليعلم الله من يخافه بالغيب” المائدة 94 , وقال جل جلاله: ” انما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب” فاطر 18 , وقال: “انما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب” يس 11 , قال تعالى: ” من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب” ق 33 , وقال: ” وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز” الحج , وغير ذلك من الآيات البينات , ولقد أثبتت تجارب الانسانية كلها عبر التاريخ , ان اكراه الناس واجبارهم على الاعتقاد أو الايمان بأي فكرة أو عقيدة عبر اساليب القمع والترويع والقتل وسفك الدماء , بقدر ما هي في الواقع , سلب ومصادرة لحرية الانسان وحقه الطبيعي والفطري في الاعتقاد والتعبير عنه بدون كبت أو قسر , كأغلى وأثمن وأرفع قيمة منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان ، وبها تميز وامتاز وكُرّم من بين كل مخلوقات الله , فإنها لا تلبث مع الزمن وبنشوء متغيرات جديدة ان تنهار وتتلاشى تماماً لأن الانسان مجبول في أساس طبيعته وفطرته الراسخة على التمرد والرفض لكل ما فرض عليه بالقوة والترويع والقهر حتى وان اضطرالى اظهار وتمثيل دور القبول بها ظاهراً ، على عكس باطنه الذي يضمر مقتاً لها ورفضاً , على عكس الاعتقادات والخيارات والافكار التي آمن بها عن طواعية اقناعاً واقتناعاً واختارها بملئ ارادته الحرة بعيداً عن أي مؤثرات خارجة عنه , واكثر من ذلك فغالبا ما يكون تراجعه وتخليه عن ما اكره عليه قسراً , حين تسنح ظروف موائية لذلك التراجع والتخلي , متسماً بنزوع عدائي انتقامي عنيف ومدمر تماهياً مع اساليب اكراهه وفرض القناعات عليه , على غير ارادته الحرة , بالقوة والقمع والفرض القسري العنيف , وعلى ضوء هذه الحقيقة الساطعة وادراكاً لها واستيعاباً لمغازيها وابعادها , وتجسيداً لها واعمالاً وتفعيلاً لمقتضياتها من كافة الجوانب , نلاحظ ونلحظ , بوضوح وجلاء , حكمة  الهية بالغة الدلالة والمغزى , وذلك حين قضت مشيئة الله جل جلاله وارادته وعلمه المحيط بكل شيء , بأن لا تجعل للبشر , بمن فيهم رسله وأنبيائه , عبر كافة كتب ورسالات دينه الحق المبين كافة , اي سلطان او تدخل في المسائل المتعلقة بإيمان الانسان أو كفره أو فسوقه على الاطلاق , وجعلها كلها من شأن الله الخالق وحده وحصراً وقصراً بسلطانه وارادته فقط , حيث نجد بأن رسالات الدين كلها , وخاصة منها الرسالة الخاتمة ” القران الكريم ” تفرض حدوداً بإيقاع عقوبات دنيوية يطبقها وينفذها البشر على افعال وسلوكيات وممارسات غير سوية يقوم بها البعض ضد البعض الآخر كالسرقة والزنا واتيان الفاحشة ورمي المحصنات بتهم باطلة غير مثبتة وشهادة الزور واعمال الفساد والافساد في الارض كما أوضحنا طبيعتها والمقصود بها آنفاً في سياق حديثنا ، لأنها تسئ وتؤثر على حياة الناس وحقوقهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض , لكنه لم يعط البشر الحق في الحُكم على سرائر الناس بالإيمان وبالتكفير والتفسيق وايقاع العقوبات ازائها على الاطلاق , بل أكدت رسائل الدين كلها في كثير من المواقع والآيات على ان تلك المسائل والعقوبات هي من أمر الله علّام الغيوب والمطلع على سرائر الناس وما تخفي صدورهم وتكتم، وان مردها اليه وحده ليقضي فيها يوم القيامة يوم الحساب العدل والدقيق , ونهى نهياً غليظاً عن الاكراه في مسائل الايمان بالله تعالى ورسالات دينه القويم , وزجر حتى رسله وانبيائه إن هم اختاروا ومارسوا سبل الاكراه والفرض على الناس فيها , وكثيرة جداً هي آيات الذكر الحكيم التي تبين وتوضح تماماً جوانب هذه المسألة بالغة الأهمية والحساسية , ونكتفي فيما يلي بإيراد بعضاً منها على النحو التالي : ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم” البقرة 256. ” ومن كفر فلا يحزنك كفره” لقمان 23. ” ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار اولئك عليهم لعنة الله” البقرة 161. ” ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهد يهم سبيلا” النساء 137. ” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” الكهف 29. وهناك المئات من الآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد وتحث على ان الله سبحانه وتعالى قد  أوضح للإنسان طريق الخير والشر وبين له سبيل الرشد والغي كاملاً ومنحه حرية الاختيار لأي منهما ويتحمل وحده مسئولية اختياره الحُر دون فرض أو اكراه ، ليكون هناك عدل مطلق في الثواب والعقاب يوم القيامة , قال تعالى: ” وهديناه النجدين ” البلد 10 , وقال تعالى: “انا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا” الانسان 3 , ولما كان الله الخالق الأعظم اقرب الى الانسان من حبل وريده فهو الأعلم بسريرة الانسان وما يخفي ويعلن , وهو اعلم بما في نفس الانسان من الانسان نفسه , ولما كانت مسائل الايمان والكفر من مسائل الغيب القلبية، فان الله خالق الانسان وحده الأعلم بحقيقتها ودوافعها وبواعثها وهو وحده جل جلاله من يحكم فيها ويعاقب وليس لبشر الحق ولا الصلاحية للتدخل فيها والحكم بشأنها مطلقاً. إن منح الله الخالق الأعظم للإنسان الحرية والارادة في اختيار معتقده وافعاله مرتبط ارتباطاً عضوياً , فيما يبدو , بسر الله العظيم وراء خلق الحياة والقوانين والسنن الالهية التي اودعها فيها وفي خلقه والغاية الكبرى من ذلك كله وفقاً للمشيئة والارادة الالهية , كما توضحها وتؤكدها الآيات البينات الرئيسية التالية: ” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ۞ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين” هود 118-119 . ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين” البقرة 251. ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ” الحج 40. ” ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين” الانعام 35. ” ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا ” الانعام 107. ” قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين” الانعام 149. ” ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ، ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير” الشورى 8 . ويقول تعالى: ” ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ۞ وما كان لنفس ان تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون” يونس 99-100 . اذن يتضح لنا جلياً من سياق ومدلولات الآيات الكريمة آنفة الذكر , وغيرها , ان سر الحياة وقوانينها وسننها التي قضاها الله العلي القدير , قائمة على الاختلاف والتدافع , ولو شاء تعالى جل شأنه لجعل الناس أمة واحدة كلهم جميعاً ولهداهم جميعاً إلى الايمان , لكنه جل وعلا جعل الناس في الحياة الدنيا متدافعين متنافسين مختلفين , ” ولذلك خلقهم ” وحذر وزجر كل من لا يريدها، كذلك واصفاً اياهم بالجاهلين والذين يستحقون الرجس لانهم لم يعقلوا سر الحياة والخلق وقوانينه وسننه الازلية الخالدة ما دامت على الارض حياة . وواضح تماماً ان منهج الدعوة إلى الله الخالق العظيم ودينه القويم , هو منهج أراده الله سبحانه وتعالى قائماً ومؤسساً على القانون الالهي الراسخ والثابت والرئيسي الذي يدرك ويعي ويؤمن بان التعدد والاختلاف والتدافع والتنافس هو سنة الله العليم الخبير الكبرى في خلقه وفي الحياة الدنيا التي سخرها للناس كافة ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا , ومقتضى الادراك والوعي والايمان بمركزية هذا القانون الالهي السرمدي الى ان يرث الله الأرض ومن عليها , يوجب احترام التعدد والاختلاف والتنوع والتعامل مع المخالفين والمختلفين والمعارضين لآرائنا وقناعاتنا وافكارنا ورؤانا , بإيجابية وفي اطار سلمي مسالم “بالحكمة والموعظة الحسنة” , والجدال معهم “بالتي هي أحسن” والتعاطي والتفاعل مع الجميع في القواسم المشتركة بين الجميع لإقامة حياة القسط والعدل والبناء والعدل والتعاون على كل ما يحقق البر والتقوى والسلام والامن والاستقرار والتقدم والازدهار وعدم التعاون أو المشاركة في كل ما من شأنه الافضاء الى الاثم والعدوان والكراهية والتباغض والصراع المدمر , ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان” , ان دين الله الخالق العظيم , كما نزلت به كتب الله ورسالاته على رسله وانبيائه , وكما توضحه الرسالة “الخاتمة” , القرآن المجيد , تزجر وتتوعد كل من لا يعي ويؤمن بسنة التنوع والتدافع والاختلاف بين البشر , بمن فيهم الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام , بالرجس وفساد العقل والجهالة كما هو وارد في سياق ونصوص الآيات القرآنية الكريمة المشار اليها آنفاً وغيرها الكثير , وعلى صفحات التاريخ الانساني كله بمختلف مراحله وأزمانه , نجد كثيراً من العبر والدروس المستخلصة من التجارب الانسانية تثبت وتؤكد وتبرهن على ان كل حُكم او ملك او قوة او سلطة قاهرة حاولت وعملت على ان تفرض على الناس , في مجتمعاتهم وشعوبها , نمطاً أو فكراً أو رؤية واحدة واحادية وشمولية , وقمع وتصفية واستئصال الانماط والافكار والرؤى الاخرى المخالفة لها , دائماً ما كانت تفضي وتقود , في نهاية المطاف , الى حدوث سلسلة من الكوارث والمصائب والحروب الدامية والمدمرة للناس والأوطان , مهما استطاعت ان تفرض نمطها ورؤيتها وفكرها الواحد بالبطش وقوة الحديد والنار والتنكيل لبعض الوقت , وتلك نتيجة كارثية ومأساوية مريعة وطبيعية متوقعة بل وحتمية لكل وضع او سلطة حُكم قاهرة تجاوزت والغت مقتضيات سنة او قانون الخلاف والاختلاف والتدافع والتنافس الذي اراده الله العليم الخبير قوة محركة ودافعة للحياة نحو التطور والتقدم والرقي الدائم والمتواصل والمتجددة أبداً , وتكشف لنا التجارب الانسانية بأنه حيثما يعطل فيه قانون وسنة الله سبحانه بالاختلاف والتدافع والتنافس , ويفرض بالقوة الباطشة والاكراه الرأي والفكر والقناعة الواحدة , فإن هذا القانون الالهي السرمدي يفعل فعله وينفذ آلياته الطبيعية بصورة أخرى وفي مجال آخر , وفي داخل كيان ومنظومة السلطة والقوة القاهرة الواحدة والأحادية فيفجرها من داخلها وينسف تركيبتها ومؤسساتها حيث اطمأنت واعتقدت أن لا منافس أو منازع أو معارض لها من خارجها لأنها قضت عليهم جميعاً واستأصلتهم بالكامل!! وبعبارة أخرى فإنها لم تفطن الى أنها في اللحظة التي قضت فيها على مخالفيها ومعارضيها ومنافسيها , كانت تفتح المجال لقانون أو سنة في الحياة والخلق القائم على الاختلاف والتعدد والتنوع والتدافع , واسعاً لينتقل من خارجها الى داخلها وصولاً الى تفجير صراعات دامية وحروب مدمرة بين قواها ومكوناتها الذاتية , وتتسبب في سلسلة من الكوارث والمصائب المدمرة لشعوبها واوطانها التي تكون عادة الضحية التي تدفع الثمن باهضاً وجسيماً . ولهذا , ومن أجله , رسم جل جلاله , في كتابه العزيز , أسس ومعالم منهج الدعوة اليه والى دينه القويم , بشكل واضح ومحدد لا لبس فيها , منهج يقوم على الدعوة السلمية الكريمة النابذة للعنف والفجاجة والعدوان , والرافضة للقهر والاكراه والترعيب والترويع , وان الانسان مطلق الحرية في اختيار أفعاله ولا سلطان عليه في مسائل الايمان والكفر إلا خالقه وحده دون سواه , والداعية للتعايش والقبول بالآخر في معتقداته ورؤاه في اطار من التسامح والاخاء والحب للجميع , ويقوم هذا المنهج أيضاً على ان ما من أحد أو جماعة أو حزب له الحق في ادعاء امتلاكه للحقيقة واحتكارها , أو أن يدّعي بأنه وحده المؤمن والمسلم الصحيح أو ادعاء امتلاكه حق تمثيل الله جل جلاله ودينه القويم , وانه وحده الممثل والمُعبر والناطق باسم الله تعالى وباسم دينه القويم الذي أرسله الله جل جلاله للعالمين كافة , دون سائر الخلق , وان كل فرد أو جماعة أو حزب لا يعبر إلا عن فهمه لآرائه واجتهاداته التي تخطئ وتصيب , وأن الله ودينه متعال ومنزه عن كل خطأ أو قصور أو فشل , ذلك كله انما استخلصناه من منطوق ودلالات الآيات الكريمة التالية خاصة : ” ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم لهم بالتي هي أحسن” ويقول الرسول الله عليه الصلاة والسلام: ” فبما رحمة من ربك لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”  ” لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” ” وفل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ” ان هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم” ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان” ” ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين” ” وانا أو اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين” ” وقل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين” ” ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اهتدى” ” يمنون عليك أن اسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للإيمان ان كنتم صادقين” ” وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء” , (أي لا أحد من خلق الله تعالى له مكانة خاصة عنده أو مقرب منه او ناطق باسمه وممثله) .           إن منهج الدعوة إلى الله تعالى ودينه القويم , بالأسس والمعالم والضوابط التي رسمها وحددها الخالق العليم الخبير , والمتسمة بأرقى أشكال الحرية والسلمية والتعايش والقبول بالاختلاف والتعدد والتنوع بين البشر والحياة , وتحريم كافة أشكال الاكراه والقسر والترعيب والترويع , ونشر قيم التسامح والتعاون الايجابي والمثمر والبناء , يأتي متوائماً ومنسجماً ومتناغماً مع الحقيقة الجوهرية بأن الدين أرسله الله تعالت قدرته بواسطة أنبيائه ورسله الكرام جميعاً لخير الانسان وكرامته وسعادته واعداده وتأهيله على نحو قيمي وسلوكي رفيع لأداء مهمته ورسالته في الحياة على أحسن صورة , وجعله مكلفاً وحراً في اختيار أفعاله ومواقفه دون إكراه قسري , ومن ضمنها الاختيار، وفقاً لمشيئته الحرة بين الايمان والكفر , وهي مسائل تنحصر انحصاراً كلياً بالضمير الداخلي للإنسان وبعالم الغيب , قال تعالى: ” الم  ۞ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب” , وقال: ” جنات عدن الذي وعد الرحمن عباده بالغيب” , وقال تعالى: ” انما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب” , ولهذا قضت مشيئة الله سبحانه وإرادته أن لا يمنح خلقه من البشر أي سلطة أو حق في توقيع وانفاذ أي عقوبة , في الحياة الدنيا , تتعلق بمسائل الايمان أو الكفر على الإطلاق , وحصرها كلياً بذاته السامية وحكمه وسلطانه وحده , قال تعالى: ” ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاؤلئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة , وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” البقرة 217. وقال تعالى: ” من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه” المائدة 54. ويقول: ” ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا” النساء 137. وكثيرة هي الآيات المبينة التي تؤكد على الرسول: ” وما على الرسول إلا البلاغ المبين” , “إن عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب” , ” لست عليهم بمسيطر” , “وما أنت عليهم بوكيل” , ” إنك لا تهدي من أحببت” , ” ما عليك من حسابهم من شيء” , … إلخ , وكلها تؤكد تأكيداً قاطعاً على أن مسائل الايمان والكفر والردة والارتداد عن الدين كلها من أمر الله علاّم الغيوب , وهو وحده لا شريك له من يحكم ويقرر الثواب والعقاب والجزاء يوم الحساب , ذلك أن الله تعالت قدرته هو وحده من يعلم السر وأخفى ويعلم السرائر ووسوسة الأنفس وهو أقرب للإنسان من حبل الوريد , وبما أن مسائل الايمان والكفر , كما قلنا آنفاً , هي من مسائل الضمير الداخل للإنسان لأنها مؤسسة على “الايمان بالغيب” , فإن الله الخالق البارئ المصور هو وحده الأعلم بحقائقها وطبيعتها وبواعثها ونوعيتها وكيفيتها , وهو الأعلم بجوانبها كافة من الانسان الفرد فاعلها نفسه , وليس بمقدور واستطاعة البشر الالمام بجوانبها وتفاصيلها وحقيقتها بأي شكل من الاشكال , ومن هنا فإن تدخل البشر في اثباتها وانزال العقوبات ازائها في الحياة الدنيا انما يعتبر شكلاً من أشكال الاشراك بالله سبحانه وتعالى ومنازعته عمله وسلطانه وحده , ثم ان الخالق الأعظم والذي له ملك السماوات والأرض وملك كل شيء , مما نعلم ومما لا نعلم , وهو على كل شيء قدير , سبحانه وتعالى علواً كبيرا , هو غني عن العباد كافة , ولو كفر به , سبحانه جل جلاله , جميع من في الأرض كلهم , ما ضره من ذلك شيئاً وما نقص من عظمته وملكه وسلطانه مثقال ذرة , ولو آمنوا كلهم جميعاً ما زاد ذلك من عظمته وملكه شيئاً جل جلاله القائم بذاته ولذاته , كل شيء هالك إلا وجهه الكريم حيث يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.            إن كل الجماعات والتنظيمات والأحزاب التي كثر ظهورها وبروزها , في زماننا هذا , وتضفي على نفسها , زوراً وبهتاناً , صفة الإسلام والايمان وتخلع على نفسها وأعمالها ورؤاها دور مهمة الدفاع عن الله تعالى شأنه وحماية دينه وتمثيله والتعبير عنه والنطق باسمه , وتسفك دماء الناس وتزهق أرواح الآلاف من البشر , على اختلاف معتقداتهم ودياناتهم ومشاربهم , وتنشر الخوف والرعب والارهاب فيهم وعلى حياتهم وأرضهم , وتدمر مرافقهم ومنشئاتهم ومؤسساتهم , وتعتبر التعليم والعلم والمعرفة كفر مُحرم وفسق وإثم !! هذه الجماعات والتنظيمات والاحزاب لا يربطها بالله تعالى ولا بدينه السامي القويم أية صلة لا من قريب ولا من بعيد , ليس هذا فحسب , بل إنها الحقت بالإسلام أفدح الأضرار وأساءت إليه وشوهت صورته الوضاءة وسماحته العالية وجوهره النبيل الهادف لسعادة الانسان وحريته وكرامته وأمنه وأمانه وعزته , وحولوه إلى دين يدعوا الى القتل بالجملة وسفك الدماء والعدوان والحروب والدمار والخراب , واصبح يُنظر لأي إنسان يعرف بأنه مسلم على أنه مجرد إرهابي قاتل وحاقد على البشرية , في أنحاء الأرض , بعد أن كان الاسلام فيما مضى مشرقاً ورائعاً إنسانياً يدعوا إلى الخير والسلام والتآخي بين البشر , لقد ارتكب هؤلاء “المتأسلمون الجدد” جريمة نكراء في حق الاسلام وألحقوا به من الإساءة والضرر مالم يلحق به منذ بزوغه الأول وحتى الآن , وحتى أعداء الاسلام , على مر العصور والأزمان لم يستطيعوا الحاق ضرر وإساءة به كما فعل هؤلاء “المتأسلمون” الذي يمرقون من الدين كما تمرق الرمية من السهم أو كما قال رسول الله سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام عن أقوام سيأتون آخر الزمان معدداً أوصافهم وسلوكياتهم على نحو ينطبق تمام الانطباق على هؤلاء “المتأسلمين الجدد” الذي هم في حقيقة أمرهم حفنة من المجرمين والقتلة الأشرار كارهي الحياة أعداء الانسانية جمعاء , ولهذا فهم على نقيض وتعارض كلي وتام مع الاسلام ودين الله القويم وتعاليمه وقيمه السامية العظيمة ومعول هدم وتدمير له ولدعوته الخالدة , وباتوا يشكلون خطراً داهماً ومخيفاً على البشرية جمعاء بكل مكاسبها وانجازاتها وتطوراتها العظيمة في كافة مجالات الحياة العلمية والمعرفية والتكنولوجية والتقدم الحضاري الشامل , ويجب على كافة قوى وفعاليات وامكانات المجتمع الانساني  العالمي ان يستنفر كل قواه وامكانياته لمواجهة هذه الجماعات والتنظيمات والأحزاب الإرهابية الاجرامية الشريرة والتصدي لها وتصفيتها وقبل ذلك كله والأهم منه الاقلاع عن توظيفها واستخدامها لأغراض وحسابات تكتيكية آنية بوهم تحقيق مصالح ومكاسب واهداف تخدم خططها الاستراتيجية , ذلك أن مثل هذا اللعب التكتيكي الانتهازي المؤقت يخدم الارهاب ويقويه ويوسع نطاقه على نحو من المؤكد أنه سيرتد نحوها وضدها في يوم من الأيام , فالإجرام والارهاب ما كان يوماً , ولن يكون , يحكم طبيعته وجذور الشر المتأصلة فيه وفي أسسه وعقلياته , أداة لتحقيق الخير والاهداف النبيلة على الاطلاق , وعلى جموع المسلمين الخيرين الصادقين والغيورين على دينهم وأيمانهم الصحيح والذين يخافون الله خالقهم ويتقونه , أن يتحملوا الجزء الأكبر من المسئولية في هذا الصدد , عبر التزامهم بتعاليم دينهم السامية وقيمه النبيلة في الخير والسلام والتعاون والتسامح والحب والاخاء الانساني الشامل , وتصديهم للأفكار المنحرفة والسلوكيات الاجرامية وكشف ضلالها وانحرافها وتعارضها مع الاسلام وخطرها الداهم على دين الله الحق المبين ومحاصرة كل الجماعات والتنظيمات والأحزاب ” المتأسلمة” وتجفيف منابعها واغلاق مصادر قوتها ونبذها من المجتمع كفئات ضالة مضلة فاسدة ومنحرفة قانونها الارهاب والقتل وسفك الدماء والاجرام والتدمير والتخريب الشامل , حتى نعيد للإسلام رونقه واشراقه وعظمة مقاصده وأهدافه وتعاليمه السمحة وجوهره الانساني الأصيل داعياً ومحفزاً على الخير والسعادة والسلام والكرامة الانسانية والعدل والتعاون والاخاء لجميع خلق الله من البشر على الأرض على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم والوانهم وأصولهم , امتثالاً لقوله تعالى: ” ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” , كل ذلك من خلال الالتزام والتقيد الامين بمنهج الدعوة الى الله ودينه القويم كما أوضحناه وفصلناه في أسسه ووسائله وغاياته في سياق حديثنا آنفاً وكما أراده الله سبحانه وتعالى في كتبه ورسله ورسالاته كلها الى البشر.                     الباب الثاني عوامل وأسباب الابتعاد أو الانحراف عن الدين القويم ومقاصده     تمهيد: لم يقبض الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وعلى آله الطيبين واصحابه الصادقين , وينتقل الى رحاب ربه الخالق جل جلاله , إلا بعد استكمال نزول رسالة ربه “القرآن الكريم” عليه وحفظها وبلاغها للناس كما أمر , قال تعالى: ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا” , وقال: ” إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا” , وقال جل جلاله: ” إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون”.           وبعد أن أسس وبنى النموذج العملي الأمثل للمجتمع الإنساني المجسد لقيم الدين ومقاصده , مجتمع المدينة وحدد معالمه وقواعده وآلياته , على نحو ما بيناه في الباب السابق “صحيفة المدينة” , تاركاً فيهم ولهم كتاب الله العزيز منهجاً ودليلاً نظرياً هادياً مرشداً الى أقوم وأرقى القيم ومكارم الأخلاق والأعمال والسلوكيات الانسانية القويمة , ونموذجاً تطبيقياً للمجتمع الانساني الأسمى , وعاش المسلمون في عصرهم الذهبي الأزهى خلال العهد النبوي الشريف والشطر الأكبر من عهد الخلافة الراشدة التالية له مباشرة في سلام ووئام وصفاء وألفة وأمن وأمان وعمل وتكافل مجتمعي رائع , لم يلبث ان سادت مجتمعهم من الاختلالات وعوامل الاختلافات والتباينات ومؤشرات الانقسام والصراع إثر قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه , ثم قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه , وتفجر الصراع الدامي خلال فترة تولي الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه التي انتهت يقتله هو الآخر , وشكل ذلك انتهاء فترة الخلافة الراشدة , ليدخل مجتمع المسلمين في طور آخر ومرحلة جديدة من مراحل نموه وتطوره التاريخي تختلف في طبيعتها وأهدافها , عن طبيعته وأهداف العصر النبوي والعصر الراشدي كامتداد له , مرحلة قامت على اساس ومنطق وقوانين ومقتضيات سيادة حُكم ملكي وراثي تستمد شرعيتها من واقع الغلبة , بخلاف العهدين النبوي والراشدي القائمين على الشورى والتراضي والتوافق. ولقد نتج عن هذا التحول التاريخي العميق ان دخل العالم الاسلامي الحديث آنذاك في ظل “الدولة الأموية” وبعدها “الدولة العباسية” وما تلاهما , دوامة رهيبة من الصراعات والحروب والاقتتال الدموي الذي لم يقتصر على الجانب السياسي فحسب , بل تعاداه ليمتد ويشمل كافة المجالات الفقهية والفكرية والثقافية والفلسفية والاجتماعية , حيث نشأت العديد من الملل والنحل والفرق والمدارس الفلسفية (الكلامية) والفكرية والفقهية والسياسية والاجتماعية , بفعل تأثيرات وانعكاسات ومقتضيات تلك الصراعات والاقتتال والحروب والفتن والمنازعات التي تمحورت حول حُكم الدولة والملك والإمامة وما يتعلق بها من مسوغات ومشروعية واسانيد دينية وفكرية وفلسفية … الخ , وخلال ذلك تم اقحام الدين والزج به في اتون ودوامات ذلك الصراع والمنازعات الدامية المريرة وتوظيفه واستغلاله لتبرير واضفاء المشروعية الدينية للأطراف والقوى المتنازعة والمتنافسة وخدمة لمصالحها وطموحاتها واحتياجاتها , ولما كان كتاب الله العزيز “القرآن المجيد” الكتاب الذي وصفه جل جلاله: ” الر ۞ كتاب حكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير” هود , وهو الكتاب الذي تكفل سبحانه وتعالى بحفظه إذ يقول: “انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون” , لما كان القرآن الكريم مستعصياً وغير قابل – بحفظ الله ورعايته – للتحريف بالزيادة والنقصان , من قبل كائن من كان , آنذاك , فقد شعر الملوك والحُكام وقادة القوى والأطراف المتصارعة المتقاتلة جميعها بمدى الحاجة الماسة والضرورة القصوى لخلق أو ايجاد مختلف الاسانيد والمسوغات والحجج التي تسوغ وتشرعن القتل والاقتتال وسفك الدماء والسيطرة على الحُكم والسلطة والقضاء على كل الخصوم والمنافسين وسحقهم تماماً , والاستئثار بالمُلك والحُكم والثروة والتصرف بمقدرات البلاد والعباد ومقاليد الأمور بمطلق الحرية والارادة الفردية ودون أي رقيب أو حسيب , شريطة إضفاء قداسة وشرعية دينية باسم الله جلَّ وعلا وباسم دينه الحنيف لإقناع الناس بها وتسليمهم لها باعتبارها أوامر دينية ملزمة وواجبة الطاعة والامتثال , في ظل ما يترتب على دخول المجتمع الاسلامي مرحلة التحول التاريخي الجذري تلك وما سبقها وتخللها واعقبها من صراعات وحروب وفتن ومجازر مريعة بين المسلمين بعضهم بعضاً , بذلت جهود ومساع حثيثة ومخططة بغرض الالتفاف على دين الله الحق وتطويعه وافراغ مضامينه من محتواها ومقاصدها بما يخدم ويدعم ويوصل لذلك الواقع المرير بصراعاته وانقساماته ومآسيه المريعة , بحيث ذهبت كل قوة وطرف من القوى والاطراف المتناحرة , وخاصة تلك التي سيطرت على مقاليد الأمور والحُكم فوق بحر من دماء تلك الصراعات , لتبني لنفسها منظومات وصيغ فكرية عقائدية ذات مستند ديني لدعم أحقيتها وتبرير الحروب والصراعات التي تخوضها , وكل يدعي بأنه صاحب الحق والحقيقة دون غيره وأنه وحده المُعبر عن دينه والحامي له وأن كل مناوئيه ومنافسيه وخصومه أهل باطل وضلال وبغي! وسط ذلك الجو السياسي الاجتماعي المكفهر والكئيب , بدأت تبرز في حياة المسلمين , منذ أواخر عهد الدولة الأموية وابان عهد الدولة العباسية , ما عرف بعصر تدوين الأحاديث أو ما اصطلح على تسميته بـ “السنة النبوية الشريفة” , وشاعت فيها كثرة روايات ورواة الأحاديث , بعدما يقارب القرن ونصف القرن , أو ربما يزيد عن وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى آلة وصحبه الطيبين , وانتقاله الى رحاب ربه , ورويت طوال مرحلة الدولتين الاموية والعباسية , وما بعدهما إلى حد ما , مئات آلاف الأحاديث المنسوبة الى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , ابتداءً من أئمة المذاهب الفقهية الأربعة الأولى , أبى حنيفة النعمان ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل , رحمهم الله جميعاً , مروراً بأئمة الأحاديث أو مدوني الحديث , وأيضاً المذاهب الفقهية اللاحقة لسابقتها أو المعاصرة لها , والمدارس والفرق والملل والنحل الكلامية “الفلسفية” والفكرية والمعرفية على كثرتها وتعدد مساميتها وتباين منطلقاتها وأفكارها . وما يهمنا هنا بالدرجة الأولى الوقوف أمام انتشار واستفحال ظاهرة روايات الأحاديث وتدوينها هنا بالدرجة وما يتعلق بها في نشؤ المذاهب الفقهية بالذات , فالثابت ان اخطر ما نتج عنها وحفزها وواكبها هو بروز وتوسع نطاق ما سمي بظاهرة “التنصيص السياسي” وفيها راحت كل سلطة من سلطات الحُكم المتعاقبة والطاغية والمتجبرة تصطنع وتصيغ مئات بل آلاف الاحاديث وتخرجها وترتب لها أسانيد رواتها عبر العنعنة والقلقلة , على انها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , ووصل الأمر إلى حد قيام كل سلطة حُكم باختيار مجموعة من رواة الأحاديث تطمئن إلى ولائهم لها وامتثالهم لمطالبها وأهدافها وكرستهم “رواة معتمدين” رسمياً ملزمة الناس بالسماع والأخذ منهم حصراً , ومانعة الناس من السماع أو الاخذ بما يرويه رواة ليسوا على وئام معها أو ولاء لها , وهكذا فعلت سائر القوى والاطراف المتنافسة المتصارعة , فكل واحد منها راح يمارس عملية “التنصيص السياسي” عبر سيل من الأحاديث المنسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين , وكلها فيما حوته وأشارت اليه في صياغاتها ومضامينها , اريد لها أن تكون داعمة ومساندة للحُكام والقوى والاطراف المتصارعة وموفرة لكل منها غطاء دينياً , مفبركاً , اما لتبرير جوره وطغيانه وظلمه واستئثاره بكل أموال ومقدرات البلاد والعباد و وتجويز التصفيات الدموية والمجازر البشعة والمرعبة لخصومه ومناوئيه ومنافسيه , واضفاء المشروعية لكل قوة أو طرف من قوى وأطراف الصراعات والمنازعات الدامية في حروبها ضد الآخرين , وفي النهاية تصوير تلك المذابح والقتل وسفك الدماء والطغيان وكأنها واجبات دينية مقدسة أوجبتها تلك “الأحاديث المنسوبة” , افتراء على من وصفه ربه “وإنك لعلى خلق عظيم” سيدنا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى آله , ولم يُكتفى بمجرد صياغة الأحاديث وتلفيقها عبر عملية “التنصيص السياسي” واسعة النطاق , وعبر نشؤ ونمو طبقة مختارة من واضعي الأحاديث ورواتهم الذين كانوا , في معظمهم , يتعرضون لمواجهة حادة من قبل تقاة المسلمين متهمين اياهم بالكذب والافتراء على رسول الله فيما يروونه ويوثقونه من الاحاديث والاقوال مذكرينهم بعقاب الله يوم  القيامة , كان ردهم بأنهم لا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ولكنهم يكذبون له , أي لصالحه!! لم يُكتفى بذلك بل ذهبوا الى أبعد وأخطر منه بكثير , حين أدركوا بأنه ومن أجل إكساب تلك الأحاديث والأقوال حجية والزامية توجب الامتثال لها والعمل بموجبها , لا بد من صياغة وتخريج سلسلة من تلك الأحاديث التي تؤكد بأن “الاحاديث النبوية” أو “السنة النبوية” كلها هي وحي أوحى بها الله سبحانه وتعالى الى رسوله صلى الله عليه وسلم كالقرآن الكريم , وهما معاً يشكلان دين الله القويم “الاسلام” , وانه لا يصح اسلام المسلم إلا إذا أقر وسلم وآمن بالقرآن والسنة معاً , ويعتبر كل من أقر وسلم وآمن بكتاب الله العزيز “القرآن المجيد” وحده كافراً بواحاً حيث ” أنكر معلوماً من الدين بالضرورة” أو كما قالوا !! هذا رغم اننا نجد في صدارة واوائل كتب الحديث , وخاصة تلك التي أطلق عليها “كتب الصحاح” أحاديث يرونها عن رسول الله (ص) تقول بما معناه , مر علينا رسول الله ونحن نكتب في رقاع فوقف عليهم وسألهم ما هذا الذي تكتبون ؟ فقلنا نكتب ما تقول يا رسول الله حتى نحفظه ولا يضيع , فغضب الرسول (ص) غضباً شديداً قائلاً لهم: أكتاب الى جانب كتاب الله ؟ أتريدون أن تفتروا على رسولكم كما افترى بنو اسرائيل على أنبيائهم؟ فأمرهم بمحوها , فمن كتب عني غير كتاب الله فليمحه , ونها عن تدوين ما سوى القرآن الكريم كلام الله!! وعلى هذا النهج الواضح والحاسم سار الخلفاء الأربعة , رضوان الله عليهم , جميعاً وكلهم نهوا الناس عن رواية غير القرآن عن رسول الله (ص) بل وزجروا وتوعدوا كل من يروي عن رسول الله (ص) غير القرآن , بالضرب والنفي !! ومما يروى عن سيدنا عمر بن الخطاب , رضي الله عنه , قوله بما معناه كنت قد نويت جمع “الأثر” أو “السير” وتدوينه , فقلبت الأمر من جميع وجوهه لأيام واستخرت الله حتى رجح عندي أن لا أفعل , وكنت قد أمرت بجمعها , وقمت بإتلافها أو إحراقها , ورأيت أن لا أفعل حتى لا ينصرف الناس عن كتاب الله إلى كتاب سواه , فحسبنا كتاب الله كما قال وأمر كلَّ من دون اثراً أن يمحه والاكتفاء بالقرآن .. ومؤرخوا التاريخ الاسلامي يجمعون , بأن مصطلح “الحديث” ومصطلح “السنة” بمعنى أقوال وكلام رسول الله (ص) , لم يكن معروفاً ولا مستخدماً , بذلك المعنى , طوال العهدين , النبوي والراشدي , وأيضاً الشطر الأكبر من عهد الدولة الأموية , بل كان يعبر عنه بكلمتي “الأثر” أو “السير” , ولم يبدأ استخدام “الحديث” أو “السنة” بمعنى كلام الرسول (ص) إلا أبان عهد “الدولة العباسية” وما تلاها , حيث كان مصطلح “السنة” في العصر الإسلامي الأول مشار إليه آنفاً يعني ويقصد به “سنة الله” على نحو ما ورد في آيات “القرآن الكريم” .           والشاهد بأن الاتجاه نحو “تدوين” الحديث , الذي انتشر وتوسع على نحو ملفت , خلال القرن الهجري الثاني , أي بعد وفاة الرسول (ص) بمائة وخمسين إلى مائتي عام , أو خلال اواخر الدولة الأموية وعهد الدولة العباسية , للأسباب والملابسات والظروف التي أشرنا آنفاً الى بعضها , راح , بكل السبل والوسائل , يؤسس بنية أو منظومة فكرية عقائدية دينية تهدف الى اعادة بناء وصياغة العقل المسلم الجمعي بما يجعله متقبلا ومؤمناُ بأن “الأحاديث النبوية” أو ما اصطلح على تسميتها بـ”السنة النبوية” الشريفة وحي من الله منزل على رسوله (ص) هي والقرآن الكريم سواء بسواء ويشكلان معاً , وبدون انفصام , الدين أو الاسلام ! و بالإضافة الى تعسفهم في تأويل آيات من القرآن الكريم ولي أعناقها ومنطوق الفاظها للبرهنة والتأكيد على ذلك الفهم الذي ذهبوا اليه , فانهم أوردوا جملة من الأحاديث المنسوبة إلى للرسول (ص) للتأكيد على ذلك المذهب أو الرأي الذي قالوا به كمثل الحديث الذي يشير في معناه ” الا إني أوتيت القرآن ومثله معه” وفي رواية أخرى ” ألا إني أوتيت القرآن ومثليه معه” , وكالحديث الذي يقول معناه ” تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تظلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ” , وفي رواية مناقضة للحديث تقول ما معناه ” تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تظلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانهم لن يفترقوا عن الحق حتى يردوا على الحوض” أو بما معناه , وهو ما عرف بحديث الثقلين. ولما كان موضوع ” السنة النبوية” أو الأحاديث ومكانتها ودورها وحجيتها من أكثر المواضيع , ذات الطبيعة الدينية , حساسية  وخطورة وتشعبا , وتحاشياً للإسهاب والتوهان في دروبه ومسالكه ودهاليزه المتشعبة والمتداخلة في تناوله , فإننا نفضل تسجيل أهم الملاحظات والرؤى التي نراها ازاءه في نقاط رئيسية وذلك على النحو التالي : 1-    ان موضوع الأحاديث أو السنة ومكانتها من الدين وحجيتها ووظائفها ليس موضوعاً أثير حديثاً , بل كان مثار جدل وخلاف وتباين في وجهات النظر حوله منذ قرون طويلة من الزمن , وبالتحديد منذ بدأت ارهاصات تدوين الحديث وخلال وبعد تدوينه وحتى اليوم , مما يضفي عليه أهمية كبرى في الفكر والتراث الاسلامي كله , ولهذا فان الخوض فيه والادلاء فيه بدلو الرأي ووجهات النظر مطلوبة بل وواجبة باعتبارها قضية تهم كل مسلم بتعاقب الأجيال , ويجب أن تتم في أجواء ومناخات ملائمة وصحية ومفتوحة دون ارهاب أو تكفير أو تفسيق , وسواء أصابت أم أخطأت. 2-    ان كتابة الحديث وتدوينه مسألة نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً مسبباً وقاطعاً لا لبس فيه ولا غموض , وعلى منهج النهي القاطع هذا سار الخلفاء الراشدون من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام , ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالى والزمنا بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام … ” فما آتاكم فخذوه وما نهاكم فانتهوا” . 3-    ان الاحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم أو ما اصطلح على تسميتها بـ” السنة” , ظلت منذ بداية عصر تدوينها الرسمي , بل ومن قبله بفترة وكذلك من بعده , محل خلاف شديد وواسع  للغاية بين الفقهاء والرواة والعلماء المسلمين , من حيث عددها الإجمالي والفاظها التي روتها الروايات المختلفة وكذا حول مضامين نصوصها , وأسانيد رواتها عبر أسلوب ” العنعنة” وحول تقييمها وتصنيفها والحُكم على صحيحها من ضعيفها وصدقها من كذبها ومدى الاجماع أو الاتفاق حولها وغير ذلك من مجالات الخلاف والتباين التي لا حصر لها , وكمثال واحد على ذلك فإننا نعلم بأن الإمام الأكبر ابا الفقه أبو حنيفة النعمان الذي لم تطمئن نفسه الى صحة سوى ستة عشر أو سبعة عشر حديثاً منسوباً الى الرسول عليه الصلاة والسلام , في حين قيل بأن الإمام أحمد بن حنبل جمع الف الف حديث , أي مليون  حديث , والامام البخاري الذي انتقى في صحيحة حوالي اربعة آلاف حديث من اجمالي ستمائة الف حديث درسها وحللها وغربلها ! , واختلفت كتبه المعروفة باسم المسانيد والصحاح والسنن ; مسند الامام ابو حنيفة النعمان (قليل الرواية) وموطأ مالك بن أنس (ت 261هـ) , وسنن أبي داوود السجستاني (ت 275هـ) وسنن الترمذي ( ت 279هـ) وهذه خاصة بالمذاهب السنية , اما كتب الحديث عن الشيعة الذين لا يأخذون بالاحاديث إلا ما كانت مروية عن أئمة آل البيت الذين يعتبرونهم معصومين , وعلى رأسهم الإمام جعفر الصادق , واهم كتب الحديث عندهم كتاب “الكافي” للكليني ( ت 329هـ) وفيه حوالي ستة عشر الف حديث ونيف , وكتاب ” من لا يحضره الفقيه” لمحمد بن علي بن بابوية القمي المعروف بالشيخ الصدوق (ت 381هـ) وفيهما حوالي ستة آلاف حديث , وكتاب “الاستبصار” و “التهذيب” للشيخ محمد الطوسي (ت 460هـ) وفيهما حوالي تسعة عشر ألف حديث ونيف , وهناك كتب أحاديث أخرى لرواة حديث متأخرين عاشوا في القرن السابع عشر الميلادي , وهناك لدى الطرفين كتب أحاديث أخرى اقل تصدراً , وفيهما جميعاً من الاختلافات ما لا يحصى . 4-    ان المشكلة الكبرى والخطيرة تكمن في ان رواة ومدوني “الأحاديث” في كتب مسانيدهم وصححاهم وسننهم , وخاصة ذات المنطلق السني , ركزوا كل فكرهم وجهدهم في جمع ودراسة وتصنيف وغربلة سيل الاحاديث المتدفقة عليهم , على بعد واحد وهو التحري والتدقيق على إسناد الأحاديث من حيث نسبتها الى اشخاص رواة ومدى قبول والاقتناع بمصداقيتهم والثقة الشخصية بهم من حيث الأمانة والصدق , رغم وجود بعض اسماء لرواة غير معروفين , واختاروا لكتبهم الاحاديث التي اقتنعوا بسلامة وامانة الاشخاص الذين رووها , لكنهم لم يقتربوا مطلقاً من متن الحديث ونصه ومعرفة مدى تطابقه وعدم تعارضه مع نصوص واحكام القرآن الكريم , من ناحية , ومدى معقولية النص ومنطقية وسلامة معناه ومبناه مع مبادئ العقل السليم والاخلاق القويمة والكريمة , وربما فعلوا ذلك بسبب ما سبق لهم أن أكدوه وأصلوه ورسخوه من ان الحديث كلام الله جل جلاله اوحى به الى رسوله عليه الصلاة والسلام , تماماً كما أوحي إليه القرآن الكريم !! وبالتالي واستناداً الى هذا الاعتقاد اعتبروا مناقشة وتحليل نصوص الاحاديث وتقويمها من حيث كونه مساساً بكلام الله ووحيه , ولهذا السبب والاعتبار نجد الكثير من الاحاديث المنسوبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام , وخاصة تلك التي تم اختيارها وانتقائها لتتضمنها كتب الصحاح والمسانيد والسنن , تتناقض , تارة , مع بعضها البعض , وتتعارض وتتناقض , تارة ثانية , مع آيات واحكام القرآن الكريم قطعية الدلالة والثبوت , وتسيء اساءة بالغة , تارة ثالثة , لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام , وتحطيم أخلاقه وخُلقه التي شهد له ربه بها في صريح النص القرآني , وتارة رابعة , نراها تدعوا وتشرعن لمفاسد وفواحش ورذائل كاللواط والزنا تحت دعاوى الجهاد وارضاع الشيخ الكبير … الخ , حُرمت بصريح نص القرآن وقطعية دلالته ومقصده , بل ونجد فيها , تارة خامسة , ولعلها الأخيرة , ما يجيز ويشرع للحكام والطغاة ممارسة الظلم والقهر والاستبداد في حق الرعية وتوجب على الرعية بالخضوع والطاعة لهم وان سلبوا حقوقهم وجلدوا ظهورهم وسواء أكانوا بارين أو فجارا !! . وامكن , في ظل هكذا حالة , للكثير مما عرف بـ “الاسرائيليات” , أن تتسلل وتأخذ مكانها وموقعها في كتب الحديث ومن ثم الى الدين الاسلامي , اضافة إلى كتب تفسير القرآن الكريم , بعد أن البست رداء الاسلام ونسبت زوراً وبهتاناً وافتراءً , الى الرسول الكريم واقواله واحاديثه واعتبارها من كلام الله تعالى شأنه وتقدست أسماؤه اوحاه الى رسوله ليبلغه الناس ويأمرهم باتباعه والامتثال له والعمل به كواجب ديني ملزم! 5-    ولم يقف الأمر عن مستوى جعل مئات آلاف الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم من كلام الله الموحى به للرسول فحسب بل تعداه إلى تأكيد وترسيخ ثنائية واضحة وعميقة في دين وايمان المؤمن او المسلم مقتضاها “الله – الرسول” و “القرآن – السنة” بحيث أصبح لله سبحانه وتعالى كتاب وللرسول كتاب , وسقطت بذلك القاعدة الايمانية الرئيسية القاضية بتوحيد ووحدانية الخالق الأوحد الأحد , وصرنا الى “ثنائية” عبادية , كما صار المسيحيون إلى “ثلاثية” ايمانية , وتلك صورة من صور “الشرك” و “الاشراك” بالله من دونه من خلقه وعبيده . 6-    واذا كان صحيح البخاري مثلاً اكتفى بانتقاء واختيار حوالي أربعة ألف حديث من بين ستمائة ألف حديث منسوب لرسول الله عليه الصلاة والسلام وصحيح مُسلم هو الآخر اقتصر على أربعة آلاف حديث من بين مليون حديث منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم , وهكذا الحال في باقي كتب الحديث , مع تعدد واختلاف الروايات والألفاظ النصية لتلك الأحاديث المنتقاه , فان الشيء البديهي والمنطقي والعقلي يقضي بوضع مسألة الأحاديث كلها موضوع التساؤل والتشكك الجدي حول مدى صدقية ووثوقية ووجاهة نسبتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفوق هذا والأكثر أهمية منه أن تُعتبر كلام الله سبحانه وتعالى انزله على رسوله وحياً ليبلغه للناس كدين يتعبد به ؟! ذلك أن الله جل جلاله ذكر كلمات “القرآن” و “الكتاب” و”كتاب” و “الذكر” و “رسالات” مئات المرات في كتابه العزيز “القرآن المجيد” على نحو يدل دلالة صريحة وواضحة على أنه مدون وموثق ومقروء بلفظه ونصه وكلماته وحروفه أي بعبارة أخرى “مكتوب” ليقرأه الناس ويدرسوه ويتدبروا آياته ويتفكروا في اعجازه , وليتعبدوا به بحالة كونه كذلك على اعلى درجة من الدقة والوضوح والتحديد المانع للاختلاط أو الاختلاف أو التباين في نصه ولفظه وكلماته وحروفه ونقاطه وفواصله المكتوبة والموثقة , ولا يمكن مطلقاً ان ينزل الله العلي القدير كتابه أو رسالته المُحكمة والمُفصلة لعباده على رسله وأنبيائه ليعبدوه بها وبأحكامها إلا مكتوبة ولا يتركها لذاكرة الانسانية شفاهة تدخلها عوامل النسيان والزيادة او النقصان مع مرور الزمان وتقدمه , وكثيرة هي الآيات  التي تؤكد ذلك مثل “وابتغوا ما كتب الله لكم” و “ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم” و ” لولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا” و ” قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال” و “ولو انا كتبنا عليهم” و “من أجل ذلك كتبنا علي بني اسرائيل ..” و “كتبنا عليهم فيها – أي التوراة – ان النفس بالنفس ..” و “كتبنا به في الألواح من كل شيء موعظة” و “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر” و “وما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله” و ” ولا تسأموا ان تكتبوه صغيراً أو كبيراً الى أجله” و “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص” و “كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت” و ” وقالوا اساطير الأولين اكتبتها” و” أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب” و ” وكتب عليكم القتال وهو كره لكم” و ” اذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون” و ” لقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل” و ” ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم” و ” قالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ” و ” الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته اولئك يؤمنون به” و ” يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة” و ” الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم” و ” تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً” وكثير من الآيات الأخرى التي تشير بوضوح إلى كتاب يقرأ ويتلى ويرتل هدى للمتقين , ولهذا فإن القائلين بان الأحاديث أي السنة هي من عند الله ومن كلامه وأن ايمان المرء واسلامه لا يصح إلا بالايمان والالتزام بها الى جانب القرآن الكريم , ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام , نهياً قاطعاً جازماً مسبباً عن كتابة وتدوين الأحاديث ؟ والأهم من ذلك هو لماذا لم يقم الرسول بكتابتها وتدوينها كما فعل بالقرآن ؟ ان كانت كما – يقولون- كلام الله الموحى به لنبيه؟! 7-    وتصل المأساة ذروتها عندما اجاز بعض الفقهاء والمحدثين لأنفسهم أن يضللوا الناس بجعلهم السنة كتاباً الهياً الى جانب القرآن بل ووصل بهم الأمر الى حد القول بنسخ الحديث لآيات من آيات كتاب الله القرآن العظيم وجعلهم السنة في بعض الاحيان حاكمة على القرآن ومهيمنة عليه وليس العكس كما فعل الإمام الشافعي . وتعالوا وانظروا ما قاله البعض في هذا الصدد:           يقول الامام ابو الحسن البربهاري في كتابه شرح السنة: “اعلم ان الاسلام هو السنة , والسنة هي الاسلام , ولا يقوم أحدهما بالآخر” ويقول الامام الاوزاعي في كتاب مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة: “السنة جاءت قاضية على الكتاب ولم يجيء الكتاب قاضياً على السنة”. ويقول الخطيب البغدادي في كتاب شرف اصحاب الحديث: “رأى رجل يزيد بن هارون (المحدث) بعد موته في المنام , فقال له: ما فعل ربك بك؟ قال: أباحني الجنة , قال: بالقرآن؟ قال: لا , قال: فبماذا؟ قال” بالحديث.” وتروى احاديث أخرى تنتقص من عظمة القرآن وتقلل من شأنه ومنها , مثلاً , القول بأن القرآن حمَّال أوجه , حيث ينسب للامام علي عليه السلام قوله لعبدالله بن عباس وهو سائر لمحاججة الخوارج: “لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمَّال ذو وجوه , تقول ويقولون , ولكن حاجهم بالسنة , فانهم لن يجدوا عنها محيص” , وفي شرح هذا القول يقول ابن ابي الحديد: “ذلك أن القرآن كثير الاشتباه , فيه مواضع يظن في الظاهر انها متناقضة ومتنافية”. وقول الامام علي عليه السلام هذا في القرآن يشكك في مصداقية نسبته اليه امور عدة واهمها: أ‌-       ان الامام علي رضي الله عنه وارضاه كان من ابرز الذين يزجرون الناس عند رواية الحديث وينهاهم عن ذلك فيما ثبت من وقائع تاريخية. ب‌-  ان مصطلح “السنة” المعني بها الاحاديث المنسوبة الى رسول الله عليه الصلاة والسلام , كما بينا ذلك سالفاً , لم يكن معروفاً ولا مستخدماً في ذلك العصر , وانما ظهر الى الوجود أبان الدولة العباسية تحديداً , وقبل هذه الفترة كان مصطلح “السنة” يعني سنة الله في الخلق والوجود فقط , وان الاحاديث كان يطلق عليها “الأثر” أو “السير” . ت‌-  وفي سنن الترمذي يرد الحديث التالي: “عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي (رضي الله عنه) يا أمير المؤمنين , هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة , إلا ما في هذه الصحيفة (صحيفة المدينة) “.          وعلى ضوء ما سبق ذكره يتضح جلياً أن السلاطين والحُكام والقوى والاطراف المتصارعة المتنافسة في العالم الاسلامي خلال الفترة الممتدة من القرن الثاني الى القرن الرابع الهجري , وان عجزوا عن التلاعب بالقرآن وتحريفه بما يخدم أهوائهم ومصالحهم , إلا أنهم نجحوا الى حد كبير في ترسيخ “ثنائية” ايمانية تقوم على الله- الرسول والقرآن- السنة , ومنها واستناداً اليها استطاعوا ايجاد دين مواز لدين الله القويم الواحد وافرغ القرآن من تعاليمه وقيمه ومبادئه الأصيلة المشرقة وحل محله أو في احسن الأحوال مهيمناً وحاكماً عليه , واصبح هناك في عالم الاسلام دينين متوازيين , دين الرحمن القائم على القرآن الكريم , ودين السلطان القائم على مئات الآف الأحاديث المنسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام ,وافتراء في الغالبية الساحقة منها , على حد تعبير السيد نيازي عز الدين وغيره من الباحثين , حيث ازيح الأول عن حياة المسلمين وشئونهم العامة , وفرض الثاني بقوة السلطان وجبروته وإكراهه وقهره كدين يخدم مصالح وأهواء وأطماع السلاطين والمتنفذين ، ومن هناك بدأ الانحراف الديني الذي لاتزال مفاعيله وآثاره وكوارثه تعم أرجاء بلاد المسلمين وتعصف بحياتهم وحاضرهم ومستقبلهم الرازح في براثن الضعف والتخلف والجهل والضياع حتى اليوم ، وستظل أوضاعهم كذلك الى ان تتحقق لديهم الصحوة الكبرى ويعودوا مجدداً الى دينهم الحق دين الرحمن ودين القرآن بقيمه ومبادئه وتعاليمه السامية العظيمة.             والواقع ان القوى واصحاب النفوذ الطامحين الى اقامة دولة وملك عظيم يحيطهم بالهيلمان والسطوة والابهة ويضمن لهم السيطرة وحرية التصرف بالممتلكات والاموال والثروات العامة دون عائق أو رقيب أو حسيب , ويعيطيهم الحق والمشروعية في اضطهاد العباد وتصفية كل خصومهم ومناوئيهم ومنافسيهم , ما كان دين الله القويم كما بينه كتاب الله العزيز – القرآن العظيم – ليتحقق لهم كل مطامحهم واهوائهم ونزعات التجبر والتأله في الأرض أبداً , بل على العكس من ذلك تماماً كان يحرم عليهم كل تلك الأفعال والممارسات والنزعات التسلطية والقمعية ويحرض الناس المؤمنين على الوقوف في وجهها والتصدي لها ومقاومتها كواجب ديني شرعي ملزم , ولهذا , ولاستحالة وعدم امكانية تحريف وتطويع القرآن الكريم لأهوائهم ومطامعهم ومطامحهم , رغم المحاولات العديدة التي بذلت من قبلهم في المرحلة الأولى لفجر الاسلام , بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقد كان المخرج الوحيد والخبيث المتاح أمامهم , الاستعانة بمسيرة الديانة اليهودية ومحاكاتها والسير على نهجها من حيث التأسيس لدين موازٍ لدين الله وكتاب مقابل لكتاب الله سبحانه , يقوم على “ثنائية” شركية صارخة تنسف قاعدة الايمان الحق القائم على واحدية الخالق وتوحيده وتنزيهه عن الشريك والشركاء , وإفراد العبودية والتعبد له وحده سبحانه وتعالى لا شريك له ولا ند ولا مكافئ , وافسح المجال واسعاً أمام تدفق سيول جارفة من الأحاديث التي رويت بواسطة مئات وربما آلاف الرواة المحدثين وحبكت لها عملية أسانيد أو مسانيد من نسب لهم رواياتها من خلال اسلوب “العنعنة” قال وقال عن فلان وعلان نقلاً عن أبيه أو غيره حدثنا وخبرنا فلان عن علام وصولاً الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما يقارب القرنين من زمان انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام الى رحاب ربه , ولفترات زمنية أخرى بعدها , وليشجع الحكام والسلاطين والقوى والجماعات المتنافسة والمتصارعة على ضرورة وجوب تدوين الأحاديث وكتابتها وتوثيقها كمسألة دينية الزامية ، رغم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام , كما بينا ذلك آنفاً , غضب غضباً شديداً حين رأى بعض من الناس يعكفون على كتابة ما وصفوها بأقواله وأحاديثه , زاجراً وناهياً لهم وما يقومون به زجراً ونهياً مسبباً وقاطعاً , موجهاً لهم سؤالاً استنكارياً قوياً أكتاب الى جانب كتاب الله؟ وهل تريدون الافتراء على رسولكم كما افترى بنو اسرائيل على نبيهم من قبل , وأمر الجميع بمحو كل ما كتبوه عنه غير القرآن الكريم وحده , وان لا يكتبوا عنه سواء آيات القرآن الكريم …الخ , ومع ذلك , وبعد مرور ما يقارب القرنين من الزمان من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام , عادوا الى ما نهاهم عنه الرسول الكريم , ضاربين بنهيه عرض الحائط , وبشكل أكثر تصميماً وعناداً , وبلغت أعداد الأحاديث والأقوال التي نسبوها للرسول عليه الصلاة والسلام , بحسب كتب الأحاديث نفسها الى ارقام فلكية مهولة , غير معقوله ولا منطقية , حجماً تراوح ما بين المليون والستمائة ألف حديث!! واستطاع الحكام والملوك ومعها – كرد فعل طبيعي –  كل القوى والجماعات والفرق والملل والنحل المتناحرة والمتصارعة فيما بينها، ان تثبت وترسخ وتفرض الثنائية الغريبة والمستهجنة إسلامياً، ” الله جل جلاله ” – الرسول من ناحية ـ و “القرآن الكريم” كتاب الله العزيز – وكتب الأحاديث –  او ما أٌطلق عليه السنة منسوباً الى الرسول… تماماً وعلى نهج ومسيرة “الديانة” اليهودية من قبل، التي اوجدت ثنائية دينية تقوم على كتاب “التوراة” بأسفاره الخمسة المعروفة، بصرف النظر عمّا لحقها من تحريف، من ناحية، وكتاب “الميشنا” وفيه احاديث وأقوال بني إسرائيل السابقين واللاحقين، وفرضوا قاعدة ثابتة تنص على أن الإنسان اليهودي لا يكون يهودياً مؤمناً اذا آمن بالتوراة وحدها، ويجب عليه الإيمان بالكتابين معا ووحدة واحدة اي “التوراة” و “الميشنا”! وهو ما اخذه مؤسسو “الدين الموازي” أو “الثنائية” الإيمانية من المسلمين عن اليهودية، نصاً وحرفاً عن كتب “الإسرائيليات” ونهجها، وهكذا وجدنا غزواً وتسريباً ممنهجاً ومدروساً ومتعمداً، لما عُرف بالإسرائيليات، في كتب الأحاديث المنسوبة، زوراً وظلماً، الى الرسول الأعظم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وكذا الحال في كتب تفاسير القرآن الكريم القديمة, عبر الاف الأحاديث والروايات القصصية “الإسرائيلية” التي تنشر وترسخ وتثبت أفكار تجسيم وتشبيه الله جل جلاله وتعالى شأنه الذي أكد لنا القرآن الكريم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء؛ أي شيء. وأصبحنا نقرأ في كتب الأحاديث تلك على سبيل المثال كيف ان الله تعالى علوا كبيرا وتنزه عن الشبيه والمثيل، يجلس على باب جهنم ثم يمد احدى رجليه ليسد بها باب جهنم فتقول: “أي جهنم، قز، قز، قز…” او ما شابه، وصوروه، جل وعلا، جالساً على كرسي العرش كأي كرسي من كراسي الملوك، والله سبحانه وتعالى جالس عليه بهيئة بشر تماماً، وكيف ينزل، في ساعات محددة من زمن كل ليلة، الى السماء الدنيا، ويبسط يديه منادياً الراغبين في التوبة والمغفرة، إضافة الى إضفاء صفات ادمية ترابية عليه سبحانه وتعالى علواً كبيراً، كالغضب والنزق والخطأ والقصور وغيرها من المشاعر الآدمية المتقلبة المزاجية أو القول بأن القرآن الكريم “حمّال” أوجه أو ذو أوجه متعددة, رغم قول الله تعالى: “كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير”, نقلاً يكون متطابقاً مع نص من نصوص “المشنا” اليهودي الذي وصف التوراة بأنها حمّالة أوجه ايضاً ويقول النص العبري: “شبعيم فيم هاتوراه” أي سبعين وجه للتوراة!!! وعلى الجانب الآخر  تطعن وتسيء وتشوه الصورة المنزهة للرسول الكريم الذي جعله ربه على خلق عظيم وتغمز من قناة اخلاقه وممارساته لإظهاره عليه الصلاة والسلام بمظهر من يقدم على انحرافات أخلاقية مشينة وبذيئة، شهد اعداءه قبل اتباعه ببراءته وتنزهه عنها، سواء قبل تلقيه رسالة ربه وجعله رسولاً ونبياً، او من بعدها, تكراراً لما ورد في الكتب الدينية اليهودية ومنها التوراة أو العهد القديم من قصص تنسب الى رسل وانبياء الله قصص، مفتراة، عن ممارساتهم للزنا واللواط وخاصة مع محارمهم والعياذ بالله. هذا إضافة الى مئات الاحاديث النبوية المنسوبة اليه، بدافع التنصيص السياسي، لإضفاء مشروعية او قداسة دينية مسبقة لهذا الطرف او تلك القوة او الجماعة المتصارعة او المتنافسة بعضها ضد بعض، وخلق صفات ومزايا وخصائص تفصيلية تمييزية لأشخاص او بلدان او مدن او جهات بعينها، وهي في معظمها، إن لم يكن جميعها، شهدت احداثاً وحروباً رهيبة بين المتصارعين والمتنافسين فيما بعد! والواقع ان هناك اعداداً كبيرة من الأحاديث التي حشيت بها كتب الحديث، تناقض بعضها بعضا من ناحية، وتتصادم تصادماً كلياً مع قيم الدين وتعاليمه واحكامه كما نص عليها القرآن الكريم بشكل قطعي الثبوت والدلالة من ناحية ثانية، بل وتتنافر تنافراً صارخاً مع القيم والمثل والسلوكيات الأخلاقية للنظرة الإنسانية، كالنصب والاحتيال والكذب والخداع لأكل أموال الناس بالباطل ونهب حقوقهم، وتبرير وتسويغ الرذائل والفواحش كإباحة الزنا وتقنين الممارسات الجنسية المنحرفة “اللواط” وانتهاك حرمات وآدمية النساء وغيرها من الرذائل والفواحش القبيحة التي شكلت “اساساً شرعياً” زائفاً وكاذباً لما شهدناه في الآونة الأخيرة من “فتاوى” تجيز الزنا تحت شعار “جهاد النكاح او المناكحة” وما يتصل به من أنواع عدة من الممارسات المنحرفة المحرمة مثل ” زواج فريند ” وتعني زواج الصداقة! أو ” زواج المسيار” او التبرير لتسويغ “فاحشة العلاقات الجنسية المثلية” أي ما عرف باللواط، رغم أني اتحفظ على وصفه باللواط لأن الفعل الخاص بهذه التسمية ينسب ظلما وافتراء الى نبي من انبياء الله الكرام عليهم الصلاة والسلام وهو النبي لوط عليه السلام! ويعلم الله سبحانه وتعالى وحده ماذا سيطلع علينا “مشائخ الفتاوى” الذين نراهم يمرقون من الدين – اليوم- كما يمرق السهم من الرمية، من تقليعات ومنكرات وفواحش جديدة في قادم الزمن وفي كل هذه البدع والموبقات، وغيرها، لا يجدون في كتاب الله “القرآن المجيد” الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، سنداً او دليلاً على الإطلاق، ولهذا نراها كلها تجد لها فقط من كتب “الأحاديث” أو ما سميت بالسنة النبوية، ظلماً وزوراً، سنداً ودليلا، ونصا!! ليس هذا فحسب، بل ان كل المؤلفات والكتب التي الفت ونشرت، ماضيا وحاضراً، في الغرب والشرق، بهدف وقصد تشويه الإسلام الدين واستهدافه او الإساءة المتعمدة لشخص رسول الله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام واخلاقه وقيمه وسلوكه واظهاره بمظهر شائن وغير لائق، كل تلك المؤلفات والكتب المسيئة استندت في حملاتها العدائية وارتكزت، في الغالب، على احاديث منسوبة للرسول في كتب الأحاديث والسنة وكتب تفاسير القرآن والسير والتاريخ الاسلامية المعتمدة والمعترف بها، عامة، ومن قبل المسلمين ومرجعياتهم، باعتبارها، في معظمها، كتب دينية إسلامية مقدسة!! ثم تتعالى الصيحات والاحتجاجات ويسقط مئات الضحايا المساكين الأبرياء من المسلمين قتلى، ونلوم الأخرين واعداء الإسلام، في حين لم يتجه المسلمون، علماء ومرجعيات دينية، الى تنقية وتصفية وغربلة ما اعتبرناها كتب مقدسة من كتب الأحاديث او السنة او تفاسير القرآن او كتب السير التي تحكي عن تاريخ الإسلام والمسلمين، وكل موروثاتنا الفقهية والمذهبية والتاريخية مما علق بها وشابهها من مضامين تتضمنها، وهي كثيرة جدا، تسيء الينا وتشوه ديننا وتاريخنا قبل الآخرين من غير المسلمين.   وإذا كانت الأحاديث او ما سميت ” السنة النبوية ” واعتبارها كلام الله الموحى به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تماماً كالقرآن او متممة ومكملة له، على حد قول البعض، وانها حاكمة على الكتاب ” القرآن الكريم” الذي قيل عنه “حمّال أوجه”، ومهيمنة عليه وانها محكمة على نحو ادق واكثر من القرآن المجيد، قد خلقت واسست لثنائية ايمانية- شركية – طغت على الإيمان القويم بتوحيد الخالق الأعظم وتنزيهه عن أي شريك او مثيل، وجعلت لله سبحانه وتعالى كتاب يتعبد به من قبل الخلق، وللرسول كتاب آخر، لا يقبل اسلام المسلم الا اذا امن بالكتابين معا، وبهذا الانحراف الأول بالغ الخطورة اصبح للمسلمين دينان، الأول دين الله سبحانه وتعالى والآخر مواز له ومهيمن عليه هو دين الرسول صلى الله عليه وسلم تحت مسمى السنة، فإن نشوء وتأسيس المذاهب الفقهية على ايدي أئمة وفقهاء بارزين وسميت بأسمائهم كالمذهب الفقهي “الحنفي” و”المالكي” و”الشافعي” والحنبلي” هذا بالنسبة لأهل “السنة”، وكذلك المذاهب “الجعفرية” و”الزيدية” و”الإسماعيلية”، مع ملاحظة ان ما اطلق عليه “المذهب الإسماعيلي” يستحق منّا وقفة خاصة لأهميته، ليس هنا مجاله، وإن كنّا سنتحدث عنه بشكل عام لاحقا، هذا بالنسبة لأهل “الشيعة”، وهناك مذهب فقهي آخر له أهميته وهو “المذهب الإباضي” المنسوب لما اطلق عليهم قديماً بالخوارج، نقول بأن تلك المذاهب الفقهية التي تأسست وبرزت في فترة متزامنة، تقريباً، من تدوين وكتابة كتب “الأحاديث” او “السنة”، وبشكل ادق في زمن سابق قليلا ككتب “الأحاديث”  وخلاله وبعده بقليل، قد ساهمت، هي الأخرى، بشكل او بآخر، في تأكيد واضفاء شرعية دينية ” فقهية” تبرز وتسوغ “الثنائية الدينية” أو خلق دين مواز ومساو لدين الله الخالق وكتابه العزيز “القرآن الكريم” وأحياناً حاكماً ومهيمناً عليه!. اوضحنا -آنفاً- مدى تصادمه وتعارضه وتنافره مع دين الله الحق ومشوها ومحرفاً له، وساهمت تلك المذاهب، مع اختلاف النسبة والمدى في الإساءة والضرر بالدين من عدة وجوه لعل أهمها:   1.     قبولها وشرعنتها للثنائية الإيمانية – الشركية؛ الله – الرسول؛ القرآن السنة؛ وعنايتها القصوى والكبرى بالأحاديث – السنة على نحو أكبر واوسع من كتاب الله العزيز “القرآن الكريم”، بل وجنوح البعض منها الى القول بأن السنة محكمة اكثر من القرآن وانها لذلك السبب ينبغي ان تكون حاكمة لآيات ونصوص واحكام القرآن ومهيمنة عليه، ووصلوا الى حد إجازة نسخ الحديث لآيات قرآنية وليس العكس، تحت دعاوى اتهام “القرآن الكريم” الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، على انه “حمّال أوجه” كما بينّا ذلك في سياق سابق. 2.     خضوعها – على نحو او آخر، وتلاؤمها مع ضغوطات وتأثيرات واملاءات اهواء ومصالح ومطامع ورغبات الحاكم من حيث تبرير وشرعنة افعاله وسياساته وتجاوزاته في ظلم وقمع المواطنين واضطهاد وتصفية وقتل خصومه ومناوئيه ومناهضيه القائمين والمحتملين، وفي الاستحواذ واحتكار أموال ومقدرات الأمة واطلاق يديه في التصرف بها دون ضابط أو رادع أو حسيب من دين أو ضمير أو اخلاق، ومساهماتها في تصوير أي انتقاد او خروج او عصيان لجور الحكام ومفاسدهم من الأفعال المحرمة شرعاً! وأن الامتثال للحاكم وطاعته واجب وملزمة شرعاً سواء أكان عادلاً أم جائراً أو كان برّاً او فاجراً، وهكذا فعلت الأطراف والجماعات والقوى المتصارعة والمتنافسة والمتناحرة كل عمل من جهته وبأسلوبه في اختلاف ورواية الأحاديث التي تدعم موقفه وتشرعنه في مواجهة خصومه، فكانت المذاهب الفقهية المختلفة مرآة تعكس واقف واحداث الصراعات والحروب الدامية الرهيبة بين المسلمين بعضهم ضد بعض.   3.     ومع تصاعد واتساع رقعة وميادين الصراعات والحروب والفتن بين المسلمين، عملت السلطات الحاكمة بكافة السبل والوسائل، مستخدمة وموظفة سلطات الدولة القاهرة، على تجميد وإيقاف الاجتهادات الفقهية والفكرية حول المسائل والقضايا او الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل ما يتصل بمصالح وهموم وتطلعات الانسان والمجتمع المسلم ويعالج دوره وحقوقه، واقتصرت الاجتهادات المسموح بها والمكافئ عليها، فقط على مجالات العبادات والوضوء والحيض والنفاس وقليل بما يتصل بالبيع والشراء والمكاييل والمقاييس، او ما يتجه الى تأكيد وترسيخ وضمان جعل سلطة الحاكم ومكانته مطلقة ومتحررة من أي قيود او ضوابط باعتباره ممثلا لسلطة الله سبحانه وتعالى وظله في الأرض وبالتالي جعله –أي الحاكم- فوق المجتمع والدين والشرع واعتبار اية مساءلة له او مساس به او التمرد عليه خروجاً على الله سبحانه وتعالى وعصيانه له.   4.     محاربة السلطات الحاكمة لكل عالم او فقيه له آراء واجتهادات فقهيه او فكرية سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها مما لا ترضي الحاكم ولا تجاريه في اصواته وظلمه وتجبر أو يشتم منها خطراً او تهديداً مباشراً او غريباً للحاكم ودولته وقمعه او تصفيته أو اصدار مراسيم سلطانية تلزم الناس عدم الاستماع عليه او الاخذ عنه، ووضع فيما يشبه الإقامة الجبرية التي تمنعه عن الالتقاء بالناس وتمنع الناس عن الالتقاء به. أو الزج به في غيابات السجون المظلمة الرهيبة او نفيه الى مناطق معزولة نائية، وبالمقابل تشجيع الآخرين الذين يسلكون السبيل المرضي للحكام ومصالحهم والاعتناء بهم وتعزيز مكانتهم في المجتمع وجعلهم من المقربين وأصحاب الحظوة والثقة وإلزام الناس بالتعلم منهم والأخذ عنهم في آرائهم واجتهاداتهم. 5.     قفل باب الاجتهاد، بشكل شبه كلي، وتثبيت وقصر المذاهب الفقهية على تلك المذاهب الفقهية الأربعة، المشار اليها، عند اهل السنة، وجعلها أفضل وآخر ما وصل اليه الاجتهاد الفقهي الإسلامي، بأن اعتبرت مذاهب معترف بها ومقرة من قبل الدولة وفرض تعليهما كمتون نهائية، غير قابلة للتعديل والتغيير، واقتصار تعليمها وتعلمها على الشروح وشروح الشروح في حواش على المتن، ومجرد إيضاحات وتفصيلات لها، ولا شك ان اقفال باب الاجتهادات وقصرها على تلك المذاهب الأربعة “عند اهل السنة” قد لعب دوراً رئيسياً  واساسياً ومدمراً للفكر الإسلامي وابداعاته من خلال عزله وعزلته عن مواكبة تطورات الحياة ومستجداتها الدائمة وبالتالي حرمان الفكر والحضارة الإنسانية عن الاجتهادات والابداعات والتجديدات الفكرية والتشريعية والسياسية والاقتصادية للمسلمين، فيما عدا ما شهدته المرحلة المتأخرة للدولة العباسية على عهد “هارون الرشيد” من نهضة شاملة علمية وتنشيط حركة ترجمة التراث الإنساني العالمي وتشجيع الابداعات العلمية والثقافية والفقهية “التشريعية” ومما يتصل بذلك من شئون ومجالات سياسية وفلسفية وغيرها… إن تجميد حركة الاجتهادات الفكرية وقصرها على عدد محدود من المذاهب الفقهية لفترات طويلة، سابقة للمرحلة المتأخرة للدولة العباسية، وايضاً ما أعقب هذه المرحلة من مراحل الانحطاط والتخلف والجمود قد الحق ضررا بالغا ومدمراً لمجمل الفكر الإسلامي وعطاءاته على شتى المجالات، وأدى الى ابعاد “الإسلام” عن حياة وشئون المسلمين ومجمعاتهم، حيث لم يعد مؤهلا ولا قادرا على طرح الحلول والمعالجات النظرية لمختلف مشكلات ووقائع حياة المسلمين وتطوراتها ومستجداتها المتلاحقة، ولقد كان لزاما وضروريا ان تفتح كل أبواب ومنافذ البحث والاجتهاد الحر والنشط امام الفقهاء والمفكرين المسلمين ويتم دعمها وتشجيعها انطلاقا مما يعرفه الجميع بان الإسلام صالح لكل زمان ومكان وبما انه كذلك من خلال نصوص واحكام عامة ورئيسية فقد كان الوضع الطبيعي الشروع في حركة واسعة مفتوحة نشطة وفعالة للاجتهادات والتجديد، حتى يكون الاجتهاد حلا ومعالجة طبيعية ومنطقية لإشكالية تناهي وثبات النص مع تنامي وتجدد وقائع الحياة بشكل مستمر ولا متنناه، ولو فعل المسلمون هذا ونحو هذا المنحى الإيجابي لما اقتصرنا على مذاهب فقهية أربعة او سبعة او ثمانية فحسب بل بلغ مخزوننا الفكري المتراكم مئات المذاهب الفقهية والنظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والعلمية، ولكانت في تزايد مستمر حتى الأن، ولكان حالنا واوضاعنا في العالم المحيط بنا اكثر تطوراً وتقدماً ونهضة على سائر شعوب وامم العالم.   6.       واخيراً فأن تلك المذاهب الفقهية المحدودة للغاية والمحرومة من التجديد والتجدد والتطوير والتحديث والتي نشأت وصيغت كلها في وقت متزامن، قبل ما يقارب الالف وثلاثمائة عام مضى كانت هي، بحكم ظروف زمانها ومشكلاته وخصوصياته، اول من أصل وشرع ونظر لعقلية التعصب والتطرف والغلو والإرهاب ونفي الآخر واعدامه بحجة الخروج عن الدين او الكفر بالله، وعلى وجه الخصوص من المسلمين المخالفين وايضاً من اتباع الديانات والمعتقدات الأخرى غير الإسلامية، بالاستناد، كما قلنا آنفا، الى تلك الاحاديث التي نسبت للرسول عليه الصلاة والسلام وسميت بالسنة النبوية، وافرطوا في تسويغ قتل النفس الإنسانية لأسباب ومبررات واهية ومتهافتة كالحديث القائل مثلا “مَنْ شقَّ عصا الجماعةِ فاقلتوه” و “من قطعَ عليكَ الصلاةَ بالمرور من أمامك للمرة الأولى والثانية فاقتله في الثالثة”، وقتل اتباع المعتقدات الدينية الأخرى بالجملة استناداً الى حديث  يقول ما معناه “امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله ومحمد رسول الله” او “من قال اشهد أن لا إله الا الله فقد عصم عني دمه وماله وعرضه” او بما معناه, وغير هذه الاحاديث كثير ومنها شرعوا وقعدوا لأحكام تفرض على اهل الديانات الأخرى غير الإسلامية كافة وتلزمهم أوضاعا وحياة تمييزية وتحقيريه مهينة هي الى العبودية اقرب كثيرا من الآدمية، رغم تعارضها وتناقضها الصريح مع آيات واحكام القرآن الكريم على نحو ما ذكرناه واشرنا اله في سياق الباب الأول من هذا الكتاب، وفرضوا على المسلم الذي يتبع واحدة من تلك المذاهب التقيد الكامل بكل مضامين واحكام المذهب دون انتقاء وحرموا عليه الاطلاع على المذاهب الفقهية الأخرى او ان يختار ويستحسن أي حكم او اجتهاد منها يوافق فكره وقناعته وينال استحسانه تحت مبرر عدم جواز ما اسموه “اسقاط الرخص” واعتبروا مثل هذا الاختيار الحر كفرا وخروجاً عن الدين كله، رغم انها كلها مذاهب فقهي مستندة الى الدين الإسلامي او بالأصح نصوص القرآن تتعدد اجتهاداتها ورؤاها البشرية وفهمها للنصوص والآيات القرآنية وغيرها!! وللأسف الشديد فأن ما ورد في ثنايا تلك المذاهب هو الذي شكل اساساً ومرجعاً لما نشهده اليوم من نمو الحركات والجماعات الإرهابية الإجرامية البشعة المنتمية، كذباً وزوراً، للدين الإسلامي الحنيف وشريعته السمحاء، التي تمتهن وتحترف القتل العشوائي وبالجملة للنفس الإنسانية وسفك الدماء وترويع الآمنين وتدمير المنشئات والمصالح العامة للجميع، مسلمين وغير مسلمين، وان كانت الوقائع تؤكد ان استهداف المسلمين من قبل تلك العصابات الاجرامية الدموية البشعة أكثر من استهداف غير المسلمين!! ولعل أشد ما يؤلم الانفس ويمضها ان تلك المذاهب الفقهية الإسلامية بكل ما تتضمنه من احكام ودعاوى تكفيرية وتشجيع القتل وسفك الدماء ومعاملة غير المسلمين معاملة عنصرية مهينة تحقيرية وامتهان واحتقار المرأة عموما وغير ذلك من القيم المتخلفة والمنافية لروح الإسلام ومقاصده العظيمة، لا تزال تدرس وتلقن لأجيال متعاقبة من الشاب إضافة الى تعارضها وتنافرها مع آيات واحكام القرآن من ناحية، فإنها وبعد ما يقارب الألف وثلاثمائة سنة من صياغتها لم تعد تتلاءم مع روح العصر وتطور الإنسانية ورقيها في نظمها وقيمها واخلاقياتها السائدة والمعمول بها في الوقت الراهن والتي باتت في معظمها قيم إنسانية عامة اقرتها ووافقت عليها الدول العربية والإسلامية كافة!!       والأكثر بشاعة وتقززا ان تستند التنظيمات والجماعات الإرهابية الى مثل تلك الأحاديث والاقوال المنسوبة زورا الى الرسول صلى الله عليه وسلم، لتبرير وشرعنة وتسويق اعمالها وجرائمها البشعة والهمجية في القتل الفردي والجماعي والعشوائي للناس، مسلمين وغير مسلمين، اطفالاً ونساءً وشيوخاً، عزّل ومسالمين آمنين، وسفك دمائهم وتدمير منشآتهم وبث الرعب والفزع في حياتهم، وتصوير كل الجرائم والأفعال البشعة وكأنها واجد ديني مقدس ومشروع مستندين ومبررين لها بحديث من تلك الأحاديث ينسبونه  او يجدونه في كتب الأحاديث صحاحاً او غير صحاحاً، ذلك الحديث الذي يقول فيه الرسول الأعظم مخاطبا قريش بما معناه يا معشر قريشً لقد جئتكم بالذبح، أي وكأن الله ارسله للعالمين رسولاً ونبياً مبشرا بدينه بالذبح!! وهذا الحديث، تحديداً، هو الناموس الأبرز للجماعات والتنظيمات الإرهابية الإجرامية، مدعية الاسلام، الذي تبرر به وتشرعن لعملية قتل الناس البشر ذبحاً كما تذبح المواشي والنعاج، والتي أصبحت الإرهابيين القتلة في الآونة الأخيرة! مع انه من الواضح واليقيني بأن مثل هذا الحديث يناقض القرآن الكريم في صريح آيات واحكامه وقيمه مناقضة مطلقة وكلية. كقوله تعالى: ((ادعُ إلى سَبيلِ ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)), وقوله: ((وما ارسلناك الا رحمة للعالمين)), وقوله سبحانه: ((فبما رحمة من ربك لنت لهم لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)), وتوجيهه جل وعلا لرسوله في ((لا اكراه في الدين)), ((افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)), ((وما ارسلناك عليهم وكيلا)), ((ما عليك من هداهم من شيء)), ((ان عليك الا البلاغ وعلينا الحساب)), ((ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)), وقوله: ((ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين)), ((ولو شاء الله ما اشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا)) وغيرها كثر من الآيات القرآنية الصريحة والواضحة، بل ان القرآن الكريم بكامله قائم على الحجة والإقناع والامتناع والإيمان القبلي بالغيب وحرية الاختيار الإنساني بعيداً عن الإكراه والعنف والقهر والإرهاب إعمالاً لسنة الله تعالى في خلق البشر والكون على الاختلاف والتدافع وان الناس يستحيل ان يكونوا نسخة واحدة متطابقة الا اذا افسدت الحياة.   ان جنوح المسلمين وانخراطهم الممنهج والمسنود من الحكّام والقوى والأطراف المتصارعة سياسياً، وخاصة خلال الفترة الزمنية الممتدة ما بين القرن الثاني والرابع الهجري، الى تأليف ووضع وتدوين الاحاديث وخلق مسمى “السنة” النبوية واعتبارها كلام الله جل جلاله انزله الله على رسوله وحياً كالقرآن الكريم، واعتبار الكتابين فقد سيم يتعبد بهما لا يصح ايمان المؤمن الا بالإيمان والالتزام بهما وجعل “السنة” حاكمة ومهيمنة على “القرآن الكريم” كما فصلنا ذلك انفاً، قد وجه ضربة عميقة لدين التوحيد والوحدانية لله الواحد الأحد بإدخال عقيدة الشرك القائمة على الثنائية الايمانية التعبدية بدلا عن وحدانية الله سبحانه وتنزيهه المطلق عن الشرك والشريك عبر الأخذ والاستعارة والنقل الحرفي، احياناً، لمئات بل والاف الروايات والمعتقدات والأفكار اليهودية او ما عرفت باسم “الإسرائيليات” الواردة في كتبهم “المقدسة” العهد القديم أو التوراة. وكتاب “الميشنا” و”الجمارا” التي جمعت كلها في الكتاب المقدس لديهم والمسمى بـ”التلمود”، قد دفع ببعض الكتاب والباحثين المتخصصين في مجال مقارنة الأديان في العالم، الى وصف الدين الإسلامي على انه مجرد نسخة منتحلة او مكررة، مع بعض التغييرات غير الجوهرية، لليهودية، مستندين في رؤيتهم ووصفهم هذا على استشهادات مما ورد في كتب الاحاديث او السنة اساساً، إضافة لدى المسلمين وبيان مدى تطابقها وتوافقها مع مثيلاتها الواردة في الكتب المقدسة المعتمدة لدى اليهود “العهد القديم – الميشنا – الجمارا” المجمعين في كتاب “التلمود” الجامع لها جميعا، ورغم ان الجميع يعلم بأن رسالة التوراة بما فيها الالواح التي انزلها الله جل جلاله، او كتبها، لنبيه ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام، ضاعت او فقدت او اخفيتـ، إضافة الى ما اوحي به لسائر انبياء بني إسرائيل، وظلت كلها محفوظة وتروى شفاهة من قبل كهنة واحبار اليهود من بعد موسى –عليه السلام- الى ان قام احبار او علماء بني إسرائيل بإعادة كتابة وتدوين التوراة التي اطلق عليها كتاب “العهد القديم” بأسفاره الخمسة المعروفة واصحاحاتها العديدة إضافة الى اعمال رسل أو انبياء بني إسرائيل “الرئوية” أي “الرؤى “، وشروحاتها التي تضمنتها كتاب “الميشنا” او الثاني باعتباره “سنة موسوية” من كلام الله سبحانه وتعالى، وكتاب “الجمارا” وهو أيضا يتضمن آراء وشروحات واقوال فقهائهم واحبارهم، كل ذلك ثم ابان فترة ما عرف ب”السبي البابلي” او تحديداً حوالي أوائل واواسط القرن الميلادي السادس، أي بعد قرون عديدة من وفاة موسى وهارون، ولهذا فقد كان من الطبيعي والمتوقع تعرض رسالة “التوراة” الى سلسلة من التحريفات من تغيير وابدال وتزييد وحذف، الخ… وهكذا الحال حدث مع رسالة الإنجيل تماماً، كما حدث للتوراة من قبلها، حيث ضاعت او فقدت او اخفيت، الى ان قام “الحواريون” وهم المعروفين بأنهم “تلاميذ” عيسى عليه السلام بإعادة كتابة وتدوين رسالة “الإنجيل” التي انزلت على عيسى عليه السلام، عبر عدد من الاناجيل سمّي كل واحد منها باسم مدونها وراويها من الحواريين، والتي تم اعتماد أربعة او خمسة منها فقط، وتحريم “اناجيل” أخرى عديدة وهي التي عرفت ب”الايوكارفيا” على عهد الإمبراطور الروماني “قسطنطين” وعلى يد مجمع “نيفيا” المقدس الذي عقد لهذا الغرض، ولما كان الدين الحق عند الله تعالى واحداً انطلاقاً من الايمان بان الخالق واحد وبالتالي يستحيل ان تعدد الأديان لخالق واحد، وعلى الطريق العام لدين الله الواحد، بعث الله جل وعلا الرسل والانبياء تترى وانزل اليهم رسالاته وكتبه، في ظروف وأوضاع متعلقة كل منها بمراحل متعددة ومختلفة من مراحل التطور التاريخي للبشرية ومنها كتب ورسالات “التوراة” و”الزبور” و”الانجيل” و”القرآن” وما انزل على سائر الأنبياء والرسل منذ آدم وحتى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها كتب ورسالات تتعلق بالظرف الزماني والمكاني والموضوعي لكل مرحلة تاريخية على حدة، الى ان تكاملت تلك الكتب والرسالات بكتاب ورسالة “القرآن” التي اعتبرت الرسالة الخاتمة او النهائية، وكلها جميعا صادرة عن الله سبحانه الخالق الأعظم على طريق دين الله الواحد الأحد غير قابل التعدد والاختلاف منطقياً وبديهياً، ولهذا اعتبرت رسالة “القرآن” الخاتمة والمكملة والمتممة لدين الله الواحد متضمنة لأحكام الدين وتعاليمه وقيمه ومثله على الصورة والصيغة النهائية والصحيحة، مصححة ومقومة لما تعرضت له كتب ورسالات الدين الواحد السابقة من تحريفات او تشويهات وتغيير وتبديل وغير ذلك سواء في مجالات العقائد الإيمانية او تكامل واكتمال الاحكام والقيم والتعاليم السامية او في مجال قصص الخلق والأمم البشرية المتعاقبة وسير وحياة الرسل والانبياء وادوارهم المنزلين بها.. وعلى ضوء ما سبق ذكره فأننا قد نتفهم ونلتمس عذراً لأولئك الكتاب والباحثين الذين اوصلتهم كتبهم وابحاثهم الى القول بان “الإسلام” لم يأت بجديد للبشرية وانه لا يعد وكونه مجرد رجع صدى او نسخة مكررة او منتحلة عن الديانة اليهودية، وذلك لأن وقعوا في خطأ منهجي حين نظروا الى “الإسلام” وحللوه ودرسوه استناداً واعتمادا على كتب الأحاديث او ما سميت بـ”السنة” منسوبة الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي اعتبرها فقهاء  المسلمين الأوائل، وكذا الحال للمسلمين عموماً حتى زماننا الراهن للأسف الشديد، كلام الله جل وعلا منزل على رسوله وبالتالي اعتبرت كتاباً مقدساً كالقرآن الكريم تماماً واحياناً حاكمة ومهيمنة عليه وفوقه! مضافاً اليها كتب تفاسير القرآن وكتب الفقه القديمة والمعتمدة والمقدسة لدى المسلمين، وايضاً كتب السير التاريخية الإسلامية، بالحجم الهائل والضخم من “الاسرائيليات” والآراء والاقاويل والروايات والقصص والاحكام والقيم والاخلاقيات التي تسربت اليها وقام المسلمون، في عهود الإسلام الأولى، باقتباسها او انتحالها او نقلها من الكتب اليهودية المقدسة، وفي مقدمتها كتاب “التلمود” بتوراته المقصورة وبسنته الموسوية وباقي انبياء بني إسرائيل واحبارهم وعلمائهم المسماة “الميشناة” وكتاب “الجمارا” ايضاً، ونسبتها جميعاً الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال مئات الاف الاحاديث والروايات والاقوال، كذبا وزوراً واختلاقاً، ولو ان أولئك الكتاب والباحثين نظروا الى “الإسلام” وحللوه ودرسوه استناداً واعتماداً على كتاب الله “القرآن الكريم” الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الكتاب الذي احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، الكتاب الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بالقول: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء))، لاختلفت رؤيتهم وتغيرت نظرتهم للإسلام جذرياً,, ويبدو ان عقلية الشرك لدى البعض من فقهاء ومحدثي المسلمين الأوائل، إضافة الى اهواء وضغوطات الحكام المتسلطين آنذاك، وتأثيرات القوى والأطراف المتصارعة والمتنافسة في المجتمع الإسلامي الأول، جعلهم غير قادرين على ادراك واستيعاب عظمة وجسامة الدور والمهمة الكبرى التي القاها الله تعالى شأنه على كاهل رسوله الأمين في حمل رسالة القرآن التي انزلها الله جل جلاله عليه ليقوم بإبلاغها للناس كافة والايمان بها والالتزام بتعاليمها واحكامها وقيمها ومثلها واخلاقياتها السامية، فاستصغروا الدور وقللوا او استهانوا بعظمة وجسامة المهمة، ونظروا الى ان الرسول لا يمكن ان يكون مجرد ناقل او ساعي بريد يوصل رسالة ربه!! باعتبار ذلك مسألة هامشية او سطحية او حتى “هايفة”، فراحوا، ضاربين عرض الحائط ومتجاوزين أمر الرسول ونهيه القاطع، يختلقون له وباسمه كتاباً الى جانب كتاب الله يتمتع بذات القدسية الايمانية لكتاب الله العزيز واحياناً يعلو عليه، كما بينا ذلك سابقاً، وهكذا أسسوا وبنوا صرحاً عالياً لخلق ثنائية ايمانية بالغة الخطورة، اذ صار الرسول عليه افضل الصلاة والسلام ليس عبداً لله ومبلغاً عنه، بل اصبح شريكاً لله جل شأنه، وأصبحت ما سميت ب”السنة” كتاباً مع كتاب الله سبحانه وتعالى، واوجدنا بذلك ديناً اخر موازياً ومقترناً بدين الله الحق المبين، وللأسف الشديد رسخت هذه القناعة وانتشرت بين المسلمين في مختلف المراحل والازمان وحتى زماننا هذا، معتبرين إياها معتقداً دينياً يستحيل اخضاعه للبحث والتحليل العقلاني المنطقي على ضوء “القرآن الكريم” والتزاماً بهديه وبيانه… ويغفل هؤلاء جميعاً، او تغافلوا، عن تأمل وتدبر آيات “القرآن” البينات الواضحات التي تصف كتاب الله “القرآن الكريم” بأبلغ وأوضح الأوصاف القطعية ومنها: “لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ۞ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون” الحشر (21) “ولو ان قرآناً سيرت به الجبال او قطعت به الأرض ۞ او كلّم به الموتى ۞ بل لله الأمر جميعاً” “وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً.” الاسراء (106) “وكذلك اوحينا اليك قرآنا عربياً لتنذر ام القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه” الشورى (7) “لا تحرك به لسانك لتعجل به ۞ انا علينا جمعه وقرآنه ۞ فاذا قرأناه فاتبع قرآنه۞ ثم انا علينا بيانه” القيامة 16-19 “ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ۞ ولا يأمركم ان تتخذوا والملائكة والنبيين اربابا ۞ أيأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون” آل عمران (79-80) “واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخره واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون” الزمر (45) “فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ۞ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكتبون” البقرة (79) “ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان اكثر شيئا جدلاً” الكهف (54) “واذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا او بدله، قل ما يكون لي ان ابدله من تلقاي نفسي ۞ ان اتبع الا ما يوحى الي ۞ اني أخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم” يونس (15) “لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ۞ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعا” النساء (172) فهل يدرك المسلمون –اليوم- ان الرسالة الخاتمة “القرآن الكريم” وتنزيلها من لدن الله العليم الخبير على رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام وتكليفه بحملها وتبليغها للناس، ليست بالأمر البسيط او السهل او العادي، بل هي مهمة ودور من اعظم واكبر واجل المهام والادوار وان الله سبحانه وتعالى قد اختار بعلمه وقدرته واصطفى من بين خلقه وعباده رسلاً وانبياء واعدهم واهّلهم وانعم عليهم بصفات ومميزات وقدرات وملكات عظيمة ورفيعة تجعلهم قادرين، دون غيرهم من خلق الله وعبيده، على حملها وادائها على اكمل وجه واحسنه، وان “القرآن العظيم” لو انزله الله على جبل لرأيته خاشعاً متصدعا من خشية الله، وان اصطفاء الله الخالق الأعظم لرسوله الأمين عليه الصلاة والسلام هو اعلى وارفع واشرف مراتب الفضل والتكريم التي انعم بها وتفضل بها على رسوله ونبيه المختار، وفوق هذا وذاك، كيف يمكن لمؤمن عادي ان يتوهم للحظة واحده ان حملها من قبل الرسول وتبليغها للناس يمكن ان تعتبر انتقاصاً او استصغاراً للمكانة السامية والقدر الرفيع والدور العظيم للرسول الأمين، ما بالكم ان يتوهم مثل ذلك الوهم المضل عالم وفقيه، واذا كان الرسل والانبياء وقبلهم الملائكة المقربين وخلق الله اجمعين لا يمكن لهم، ان يستنكفوا، للحظة واحدة، ان يكونوا عبيداً لله خاضعين له بالعبادة، فكيف يجوز لنا ان نهون من قدرهم او نستنقص من مكانتهم ودورهم وفضلهم اذا هم حُملوا رسالات ربهم ونهضوا بعبء مهمة ابلاغها للناس وانذارهم بها؟! ولو ذهبنا من اجل اعلاء شأنهم وتعظيم مكانتهم، الى جعلهم شركاء لله تقدست اسماؤه وعز ذكره في تفرده ووحدانيته واختلقنا لهم وباسمهم كتاب الى جانب كتاب الله وديناً الى جانب دين الله، لكنّا من المشركين الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة: “وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون” يوسف 106 لقد ارتكب مسلمون، ولا يزالون حتى اليوم، اكبر جناية في حق وحدانية الله سبحانه في العبادة وواحدية دينه الواحد المبين وافراد العبودية لله وحده لا شريك له، والحقنا بالدين افدح الأضرار واخطر الاساءات والتشويهات واخطر الانحرافات، حين استبدلنا وحدانية وواحدية الله سبحانه ودينه وكتبه أي دين التوحيد الخالص، بثنائية ايمانية شركية مقيتة، وآن لنا ان نسارع الى تدارك كل ذلك بالعودة – مجدداً – الى توحيد الخالق والعبادة والخضوع لدينه الواحد القويم، والإيمان والالتزام بكتب الله ورسالاته المنزلة على انبيائه ورسله، اهتداء وتقيداً بالقرآن العظيم وحده واحكامه وتعاليمه وقيمه العظيمة السامية، وازاحة كل ما علق بديننا من عوالق وشوائب الشرك والضلال والانحراف. ومن ناحية أخرى فان وصف “الإسلام” الدين بانه لم يقدم أي جديد للبشرية، وانه عبارة عن نسخة مكررة للديانة اليهودية او انه انتُحل انتحالاً منها، لمجرد وجود بعض التشابهات العامة والخطوط العريضة بين اليهودية والإسلام يحمل قدراً كبيراً من التعسف ومجانبة الحقيقة، ذلك اننا لو أجرينا عملية استعراض مقارنة للمعتقدات الدينية الموغلة في القدم وكتب دياناتها المقدسة وأيضا الكتب المقدسة للديانات الكبرى؛ اليهودية والمسيحية والإسلامية ، لوجدنا بينها مشتركات عامة ومتشابهة في الجوهر برغم اختلافات التفاصيل والجزئيات الواردة في كل منها، كالبوذية والزرادتشية والهندوسية والكونفوشيوسية، وديانات حضارات الشرق القديم كالبابلية والآشورية وحضارات بلاد الشام واليمن والفرعونية، وكتب “العهد القديم” المنسوبة الى النبي موسى و”العهد الجديد” المنسوب الى النبي عيسى عليهما وعلى جميع رسل الله وانبيائه الصلاة والسلام، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، عندما نقرأ ملحمة “جلجامش” وملحمة “اناماليس” وشريعة “حمورابي” في حضارات الرافدين، نجد ان “العهد القديم” او التوراة  وخاصة في “سفرة التكوين” قد اخذ كثيراً من ملحمة “جلجامش” و”الوصايا العشر” التي انزلت على نبي الله موسى عليه السلام تجد لها تشابها واسعاً مع قوانين “حمورابي” وكذا الحال في كتب شرق آسيا كالبوذية والكونفوشيوسية والطاوية والهندوسية والزرادشتية، سواء فيما يتعلق بمسألة الخلق وبداياته وتكوناته او من حيث مكارم الأخلاق والآداب العامة، وكذا الحال بالنسبة لكتاب الانجيل المسيحي الذي اخذ عقيدة الأقاليم الثلاثة او ما عرف بعقيدة التثليث؛ الأب والابن والروح القدس، وايضاً ما يتعلق بعقيدة حلول “اللاهوت” في “الناسوت” في شخص المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والتي بنيت عليها مسألة “الوهية” السيد المسيح عند المسيحيين، فأنها مأخوذة ومقتبسة “اساساً” من كتب الديانة الفرعونية وكتاب “الموتى” المقدس عند الفراعنة، وهي كتب قالت، في زمن سابق على مجيء السيد المسيح بفترات طويلة، عن عقيدة التثليث “اوزيريس – ايزيس – حورس” وأيضاً فيما يتعلق بالإيمان بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ومسألة البعث والحساب والعقاب للناس يوم القيامة والمرور على الصراط المستقيم … الخ. هذه المشتركات المتشابهة، ورسالة القرآن الكريم بما نزلت وقد تضمنت ذكرا لبعضها او تصحيحاً للبعض الآخر، وتنزيهاً وتبرئة لرسل الله من تهم واساءات تمس شخصياتهم واخلاقهم وسلوكياتهم في كتب المعتقدات الدينية واليهودية على وجه الخصوص. وفي اعتقادنا، بناء على ما ذكره القرآن الكريم، بأن من الرسل والأنبياء من ذكرهم الله في القرآن واخرين لم يذكرهم” منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص” ولما كان فهمنا للدين، كما اوضحناه في سياقات سابقة من هذا الكتاب، يقوم على ان الدين المنزل والصادر عن الله سبحانه وتعالى الخالق الأعظم لا يمكن الا ان يكون واحداً وإن تعددت رسالاته وكتبه على انبياء ورسل كثر على اختلاف وتعدد المراحل التاريخية والأزمان والظروف، اكتمل وتم وتكامل برسالة “القرآن” وعبر رسل الله سيدنا محمد عليه وعلى جميع رسل الله وانبيائه الصلاة والسلام، وهي رسالة الدين الخاتمة التي أُرسيت فيه وتوضحت تعاليم الدين وقيمه ومقاصده بوضوح وثبات غير قابلة للتحريف او التلاعب، فإن ما يلاحظ من مشتركات مماثلة او قضايا متشابهة هو امر طبيعي طالما مصدر الجميع واحد.                 الباب الثالث الدين ورؤيته للسياسة والدولة وما يتصل بهما     تمهيد: يعتبر هذا الباب اكثر أهمية وحساسية وتعقيداً وتشعباً من سائر أبواب هذا الكتاب، بالنظر الى صلته وارتباطه بأخطر القضايا والجوانب التي واجهت المسلمين ومفكريهم وفقهائهم وفلاسفتهم عبر التاريخ الإسلامي كله، قديمة وحديثة، والتي كانت محور صراعات وحروب وفتن دامية ومأساوية ومدمرة راح ضحيتها مئات الالاف من الضحايا وانهار من الدماء التي سالت وحجم هائل من المآسي والمعاناة الرهيبة وتسببت في احداث قدر كبير من الفرقة والانقسام والتمزق بين المسلمين ومجتمعاتهم عبر مختلف مراحل تاريخهم الممتد، ولا تزال كذلك حتى وقتنا الراهن، ويبدو انها ستظل كذلك لمرحلة تاريخية قادمة قد تطول او تقصر بحسب التطور الفكري والسياسي في حياة المسلمين وفكرهم ووعيهم العام. ولقد لعبت السياسة، بمفهومها الواسع، وما يتعلق ويتصل بها من مسائل الدولة والحكم والخلافة والامامة والأسس الشرعية دينية وغير دينية المؤسسة عليها والمستندة لقواعدها، دوراً محورياً في كل تلك الصراعات والحروب الدامية والانقسامات والتمزقات الناجمة عنها، في كافة مراحل التاريخ الإسلامي، منذ فجر بزوعه الأول وحتى الآن، ولعل مما زاد في حدتها وتفاقمها وشراستها استغلال كل الأطراف والقوى المتصارعة والمتنافسة للدين والزج به وتوظيفه على نحو يخدم ويدعم مصالح وتطلعات ومواقف كل واحدة منها على حدة في مواجهتها وصراعها مع الأطراف والقوى الأخرى، ولاشك ان إضفاء الطابع الديني على تلك الحروب والصراعات والفتن والانقسامات كان له الأثر الأكبر والأعمق في جعلها اشد ضراوة وشراسة واطول مدى واعمق تأثيراً وافدح كلفة على نحو مريع. وبناء على كل تلك الاعتبارات فإننا سنحرص على تناول موضوعات هذا الباب بالغ الخطورة والحساسية، بأقصى قدر مستطاع من التأني والحصافة وبشيء من الموضوعية، دون الخوض في التفاصيل اللانهائية من روايات التاريخ والمؤرخين وعوامل الصراع ودوافعه ومبرراته، باعتبار ان ذلك لا يدخل ضمن نطاق هدفنا من وراء الكتاب، وذلك على النحو التالي:     اولاً: طبيعة الدين ومقاصده وغاياته:  رغم اننا تناولنا هذا الجانب بشيء من التفصيل في سياق الباب الأول من هذا الكتاب الذي تحدثنا فيه عن طبيعة الدين ومقاصده وغاياته استناداً الى الآيات القرآنية قطعية الدلالة والثبوت في هذا الصدد وكذا منهج وطبيعة الدعوة اليه مقتصرين فقط على آيات “القرآن الكريم”، الا اننا لا نرى بأساً من إعادة تأكيد ما سبق بشكل موجز ومركز، بهدف اتساق موضوعات هذا الباب وجزائه، فنقول بأن: الدين هو باختصار منظومات متكاملة من القيم والمثل والتعاليم الأخلاقية والسلوكية ومن الأوامر والنواهي الهادفة الى هداية الانسان الى الطريق القويم والارتقاء به الى اعلى مكانة سامية، تضمنتها رسالات الله جل جلاله التي انزلها الى خلقه من البشر في مراحل تاريخية متعددة على ايدي رجال من البشر اختارهم واصطفاهم واعدهم لتبليغ تلك الرسالات للناس في مجتمعاتهم، وجميع تلك الرسالات والرسل الكرام تعبر عن الدين الواحد الذي وضعه الله الخالق الواحد الأحد للناس على اختلاف المراحل والعصور وعلى تعدد الرسالات والرسل. يقول الله جل جلاله: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” الشورى (21) ويقول سبحانه وتعالى : “قولوا امنا بالله وما انزل الينا وانزل الى إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما اتوتي موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثلما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيهم الله وهو السميع العليم” البقرة (136 – 137) وحدد الله جل وجلاله الغاية الكبرى لانزال دينه الحق، بتعدد رسالاته ورسله، لإقامة حياة الناس على الأرض بموازين القسط بمفهومه العالم والشامل, قال تعالى: ” لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا عليهم الكتاب والميزات ليقوم الناس بالقسط” الحديد 26. فالدين بكافة رسالاته  ورسله هدفه الاستراتيجي إقامة الحياة المثلى للناس وبالناس كافة على اختلاف معتقداتهم واعرافهم وألسنتهم والوانهم بدون استثناء. وفي اطار ذلك الهدف الاستراتيجي للدين أوضح الله جل جلاله اهدافاً مكملة للدين في آيات كثيرة من القرآن الكريم نختار منها: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون” النحل “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون ۞ ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن حتى يبلغ اشده واوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً الا وسعها واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله اوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ۞ وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون” الانعام 151-153 “يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم” “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب” “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم” “وإذ اخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وانتم تشهدون.” “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين” اذاً فإن الدين يهدف اساساً الى إقامة حياة القسط للناس ويهم تلك الحياة التي يسودها العدل والإحسان في كل شيء والتكافل الاجتماعي ورعاية الوالدين بأحسن ما تكون الرعاية والفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل، وإقامة الحياة الاقتصادية بالعدالة والاستقامة والصدق والوفاء بالعهود والمواثيق والنهى الحازم عن إتيان الفواحش والانحرافات والنواحي الأخلاقية المقيتة بكافة اشكالها والتعاون الإيجابي والتكاثف والمحبة ونبذ الآثام ونوازع الشر والعدوان والتعامل الحسن مع الجيران في النطاق الاضيق والنطاق الاوسع للفرد في المجتمع الى آخر هذه القواعد والاسس الراقية والايجابية التي تعزز أوامر الوحدة والمحبة والسلام داخل المجتمع كله وتحرم القتل والعدوان وسفك الدماء المطلق الا ما كان قصاصا عادلا من قاتل النفس ظلما وعدواناً مالم يعفو ولي دم المقتول، وكراهية التعالي والتمييز العنصري والاجتماعي من حيث جعل الله قيمة الانسان، أي انسان، مرهونة بتقوى الله والعمل الصالح في المجتمع… وركز دين الله الحق على تكوين الإنسان القويم الراقي اخلاقياً وسلوكياً فالزمه، الى جانب الوفاء بالعهود والعقود والمواثيق، بقول كلمة وشهادة الحق والصدق وعدم كتم الشهادة وقول الحق ولو كان ذلك على نفسه او والديه واقاربه وعدم التأثر بمظاهر القوة والجبروت في إقامة العدل والحق حتى مع من اساءوا اليه وظلموه وجعل لكل من يشهد الزور عقوبة قاسية بأن لا تقبل لهم أي شهادة ابداً طول حياتهم، وحث الانسان على انفاق أمواله ابتغاء مرضاة خالقه للفقراء والمساكين واليتامى والغارمين وطلاب العلم وابن السبيل وفي تحرير العبيد ان وجدوا وفي كافة مجالات الخير والبر والإحسان ، وامره بإقامة الصلوات وايتاء الزكاة وبالمسئولية التضامنية للقادر تجاه عدم القادرين من افراد اسرته واقاربه واوجب عليه الحفاظ على أوامر التضامن والوحدة بين افراد مجتمعة  وتجنب عوامل وأسباب الفرقة والانقسام والصراع والتمزق، كما اوجب عليه نصرة المظلوم واغاثة الملهوف وتأمين الخائف والعمل في استتباب الأمن والسلام والأمان للجميع، وغير ذلك من القيم ومكارم الأخلاق للسلوكيات وجعل الله مبدأ الثواب والعقاب مرهوناً ومتعلقاً بمدى التزام الانسان بكل تلك القيم والمثل والتعاليم الإنسانية الراقية او عدم التزامه.. اذ يقول سبحانه وتعالى: “وهل تجزون الا ما كنتم تعملون” هذا هو دين الله في أهدافه ومقاصده وهو موجه للإنسان الفرد فالمسؤولية في الدين فردية ولا يؤخذ فيه انسان بجريرة غيره قال تعال “ولا تزر وازرة وزر أخرى” وان الانسان في يوم الحساب سيأتي الرحمن فرداً، ومعلوم ان استقامة الفرد اخلاقياً وسلوكياً يقود، في المحصلة النهائية، الى استقامة المجتمع اخلاقياً وسلوكياً.     ثانيا: الدين والسياسة والدولة: عرفنا فيما سبق طبيعة الدين واهدافه ومقاصده والآن نحاول معرفة ماهيته السياسية وأهدافها. إن علم السياسة المعروف هو العلم الذي يبحث في تطور الفكر السياسي ونشؤ الدول وتطورها عبر التاريخ من جميع النواحي، أي باختصار يبحث في تطور الفكر السياسي ونشؤ الدول وتطورها عبر التاريخ ويدخل ضمن ذلك فلسفة نشؤها ووسائل بنائها والقوى المكونة لها وعوامل وأسباب سيطرتها وتحكمها وادارتها للدولة ان بالسبل العسكرية او الاجتماعية او عبر الوسائل والأدوات المدنية السلمية … الخ، ويدخل ضمن ذلك، في العصر الحديث، الأحزاب السياسية والنقابات الاجتماعية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني، وإرادة الشعوب وتأثيرها من خلال الانتخابات او المظاهرات والاحتجاجات والعصيان الى آخر هذه الأدوات التي تعبر بها الشعوب عن ارادتها. ومعلوم ان علم السياسة كعلم اكاديمي بحثي نظري يختلف عن ممارسة السياسة التي تمارسها أحزاب ونقابات ومنظمات وكذلك شركات رأسمالية كبرى او من خلال سلطة الحكم الفعلي القائمة، والذي يعنينا هنا هو الممارسة العملية في المجتمعات ويمكن القول باختصار ان السياسة كممارسة هي مسألة خلافية تقوم على التنافس والصراع والمناورات والصفقات والتكتلات بين القوى السياسية سواء أحزاب او نقابات او قوى اجتماعية او عسكرية او شركات رأسماليه نافذه تملك قوة تأثير مالي واسع، والمحرك الرئيسي لتلك الصراعات والتنافسات وما يحيط بهما ويتخللهما من وسائل وأساليب لا تتسم دائما بالمصداقية والشرف والأخلاق والمبادئ القويمة، هو دائما الوصول الى الحكم والسيطرة على الجولة بمختلف السبل والوسائل الأخلاقية او غير الأخلاقية ويتحكم بها صراع المصالح ونوازع الاستئثار والسيطرة لدى كل قوة من تلك القوى والمكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتكون منها عادة أي مجتمع من المجتمعات والدولة ينظر اليها غالباً على انها الأداة القائمة على قاعدة التراضي والوفاق بين قوى المجتمع ومكوناته من اجل إقامة قدر من التوازن بين تلك القوى والمكونات ورعاية الحدود المعقولة لمصالحها وتطلعاتها وضبط حركتها ونشاطاتها بما يضمن الى حد ما الحيلولة دون طغيان وتعول احداها على نحو مفرط على باقي القوى والمكونات وعلى حساب مصالحها ومكاسبها.. وفكرة الدولة قامت قديماً على قوة قاهرة تفرض سيطرتها على الحكم بالقوة او بادعاء الحق والتفويض الإلهي، لكن الدولة في العصر الحديث قامت على صياغة عقد اجتماعي في الغالب بين قوى ومكونات المجتمع تتوافق وتتنازل كل واحده منها طوعاً عن جزء من حقوقها ومصالحها لصالح الدولة باعتبارها الأداة القادرة على ضمان توازن قوى ومصالح المجتمع وتلجم الطغيان وتعول احداها على الآخرين وتحرص على تماسك ووحدة المجتمع وتحقيق الآمن والاستقرار والطمأنينة العامة وتهيئة الأضواء والشروط اللازمة لدفع عجلة التنمية والتقدم والازدهار العام. بهذا المفهوم للسياسة والدولة والحكم، نلاحظ ان الدين، على تعدد رسالاته ورسله المنزلة الى الناس، لم يحدد او يرسم معالم ومضامين نموذج سياسي محدد الشكل وطبيعة ومضمون الدولة والنظام السياسي للحكم او الملك.. بل ترك امرها للناس يقيمونها بالتوافق والتراضي فيما بينهم بحسب طبيعة الظروف الموضوعية السائدة في كل مرحلة تاريخية على حدة وبحسب ما تقتضيه الحاجات والضرورات السائدة، ربما لأنها مسألة خلافيه ومتطورة وفقاً لتطور الظروف والمراحل التاريخية، على أساس قاعدة عامة تؤكد على مبدأ ” وأمرهم شورى بينهم”، وأوجب الطاعة لولاة الأمور “واطيعوا الله واطيعوا الرسول اولي الأمر منكم” أي طاعة من تولوهم الأمر منكم، ومنكم هنا تتضمن في معناها الذين يتولون الأمر باختياركم وتراضيكم وموافقتكم، ولو كان المقصود طاعة من يتولى الأمر أي الحكم كيف وبأي طريقة تولى لما نصت الآية على “أولى الأمر منكم” هذا جانب، من جانت آخر فان الآية التي تنص “وامرهم شورى بينهم” أي ان كل ما يتعلق بشئون المجتمع وقضاياه وملماته كلها تخضع لمبدأ الشورى بين افراد المجتمع… وعلى هذا الأساس قيل بان الدولة والحكم او الملك مسألة مدنية تخضع لإرادة الناس وتراضيهم وتوافقهم وليست مسألة دينية على الاطلاق.. ولهذا فأن الشعار الذي أطلقه بعض الأحزاب والجماعات التي تدعي تعبيرها او تمثيلها للدين والقائل “الإسلام دين ودولة” ليس له أي صله بالدين ولا يصح اعتباره من الدين ولو انهم قالوا بأن “الإسلام دين ومجتمع” وليس دين ودولة لكان اقرب الى اهداف الدين ومقاصده من حيث ان الدين يتمحور حول هدف بناء الانسان الفرد أخلاقيا وسلوكيا على مكارم الاخلاق والممارسة الصائبة والمجتمع وبناء الانسان الفرد تبني الجماعة او المجتمع.. ويؤكد هذه الرؤية ويؤيدها ما فعله سيدنا رسول الله عليه افضل صلاة وسلام وعلى اله الطيبين واصحابه الصادقين في المدينة المنورة حين صاغ كتاب او وثيقة بين قوى ومكونات مجتمع المدينة سميت “صحيفة المدينة” وهي في محتوياتها واحكامها تعتبر عقداً اجتماعياً ووثيقة دستورية لإدارة وتنظيم شئون ومحاولات حياة مجتمع المدينة توافق عليها وارتضاها والتزم وافرتها كل قوى ومكونات مجتمع المدينة المتعدد الأعراف والديانات، وهي وثيقة عقد اجتماعي لا يشير في الفاظه وأحكامه الى دولة او حكم على الاطلاق بل تركز حول إدارة وتنظيم شؤون وحياة المجتمع والعلاقات بين مكوناته واطرافه المتعددة وفي كل الأحوال فإنه لم يشر الى وجوب قيام دولة او حكم ولا الى عدم وجوبها. بل ترك الأمر مفتوحاً امام قوى ومكونات المجتمع المتعدد الأطراف والديانات الذي توافقت وتراضت وأقرت صحيفة المدينة المنظمة لشؤون وعلاقات المتجمع ان تتوافق وتتراضى وتقر بنفس الطريقة والمنهج، عقداً اجتماعياً جديداً بإنشاء دولة او سلطة حكم وفقاً لضرورات ومقتضيات وحاجات تطور الحياة والاحداث. والواقع ان صحيفة المدينة كانت بمثابة التطبيق العملي الحياتي لأهداف ومقاصد الدين الذي تولاه الرسول (ص) بنفسه، وللعلم, فإن صحيفة المدينة تأتي مباشرة بعد النص القرآني التي يتفق عليها المسلمون على اختلافهم من حيث نصها والفاظها لأنها كانت مكتوبة … ونظراً للأهمية البالغة التي تكتسبها صحيفة المدينة بعد كتاب الله القرآن الكريم، من حيث مدلولاتها وابعادها ومغازيها والدروس التي تتضمنها، فلا بد ان نقف ازائها لنستخلص من مضامينها اهم المعالم والقوانين التي اكدتها ورسختها كقواعد تنظم شؤون المجتمع المتعاقد، وعلاقاته الداخلية بين مكوناته وفئاته  بينها وبين الكيانات والقوى الخارجية، والاسس والقواعد العامة التي يقوم عليها المجتمع والمُتراضى والمُتوافق عليها بين مكوناته والحقوق والواجبات للأفراد والمكونات الاجتماعية والسياسية المتعاقدة وذلك على النحو التالي: 1.     ان إقامة المجتمع وبناء وتحديد اسسه ومقوماته وقواعد تنظيم شئونه وضبط علاقاته الداخلية البينية والخارجية بغيره من الكيانات والقوى الأخرى، هو في جوهره عمل مدني وسياسي واتفاق تعاقدي بين الأطراف والمكونات المؤسسة له والمكونة له قائم على المبدأ الأساسي والاكبر وهو الشورى ويؤسس على قاعدة “التراضي” و”التوافق” و”الإقرار” الجمعي العام بين رموز وكبار ممثلي تلك الأطراف والمكونات المتعاقدة او المتعاهدة على ما تم الاتفاق والتراضي حوله من أسس ومقومات وآليات تنظيم شئون المجتمع وضبط علاقاته الداخلية والخارجية والشروط الواجب احترامها في بناء وتنظيم شؤون المجتمع وعلاقاته والالتزام بها قور الاقرار بها والتوقيع عليها, وتصبح إطاراً ونموذجاً وخارطة طريق هادية لأي تحديات أو تطويرات تقتضيها ظروف وحاجات الارتقاء بالمجتمع الى شكل أرقى ومن ضمن ذلك اقامة دولة أو كيان سياسي أو نظام حكم تفرض تطور الظروف والأوضاع الداخلية والمحيطة والحاجات الضرورات الملحة اجراءها وانفاذها لصالح المجتمع ويخضع ذلك التطوير والتحديث التي تقتضيه الحاجات والضرورات الذاتية والموضوعية لتلك الأسس والمقومات والشروط التي حكمت، ابتداء، إقامة المجتمع البسيط وبنائه في طوره الأول، أي الشورى والتراضي والتوافق المجتمعي العام وليس بقرار علوي يفرض على المجتمع من خارجه او بغيابه ، وهذا ما يؤكد النص الذي استهلت به “صحيفة المدينة” صياغتها معرفة وموضحة “ماهية” الصحيفة  وطبيعتها. “هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش واهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.” انهم امة واحدة من قريش واهل يثرب بمكنوناتها الاثنية والقبلية والدينية، وهي مفتوحة لكل من تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم في المستقبل وقبل واقر بما حوته الصحيفة او الوثيقة، حيث توافقوا وارتضوا جميعا انهم “امة واحدة” من دون الناس، هنا تأسس ونشأ مجتمع او كيان واحد وموحد “انهم امة واحدة من دون الناس” وهي امة متعددة الأعراق والأصول والديانات كما نعرف بأن اهل يثرب هم قبائل الاوس والخزرج واليهود ولحق بهم النصارى في معاهدات منفصلة لاحقة. 2.     ان الأساس الذي اقام عليه رسول الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام المجتمع الواحد او الأمة الواحدة من دون الناس في المدينة يثرب في العام الثالث او الرابع للهجرة الشريفة هو أساس “المواطنة” الشاملة لكافة المكونات والاعراض والديانات المتعددة، وليس على أساس الدين، وان تنظيم وتسيير شؤون المجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية والشروط والضوابط الحاكمة لحركته وانشطته، نظمته وحددته “وثيقة تعاقدية او تعاهدية” او بوصف معاصر “دستور” صيغ على اختلاف وتعدد اصولهم الاثنية والقبلية والدينية، وهو ما يوصف باللغة المعاصرة بمدنية المجتمع او الدولة، ان جاز التعبير، وفقاً لآراء ومصالح وتطلعات مكوناتها او مكوناته وفئاتها المتعددة والمختلفة حيث تتخلى او تتنازل كل فئة عن جزء من حقوقها ومصالحها لصالح شكل سياسي اكثر تطوراً واتساعاً عن قناعة بينهم على ان هذا الشكل المتوافق عليه يخدم مصالح الجميع ويحقق التوازن والانسجام والتكامل فيما بينها جميعاً وضمان عدم طغيان او تغول احداها على باقي المكونات والفئات. 3.     ان صحيفة المدينة “من حيث هي اول واقدم وثيقة دستورية” في التاريخ قدمت نموذجاً عملياً مطبقاً بالفعل على ارض الواقع من خلال وعبر تأسيس وبناء كيان اجتماعي – سياسي، الى حد ما، واحد وموحد، على اختلاف وتعدد اعراقه ودياناته، تسود فيه قيم ومبادئ القبول بالآخر والعيش والتعاون المشترك والايجابي والمثمر بين جميع مكوناته وفئاته وافراده بمعزل عن الهويات والمعتقدات العرقية والقبلية والدينية، وبما يحقق خير وقوة المجتمع – الوطن وصالحه العام الذي تعود منافعه ومكاسبه، بالنتيجة، إيجابياً على مصالح افراده ومكوناته وفئاته كلها من واقع الحقيقة القائلة بان قوة المجتمع – الوطن وتقدمه وازدهاره وعزته هي قوة وتقدم وازدهار وعزة افراده ومكوناته وفئاته جميعاً ان سادت فيه قيم ومبادئ العدالة والتكافل الاجتماعي والمساواة والانصاف، ان مجتمع المدينة ذاك استطاع، بجدارة، ان يقدم نموذجا راقيا وناجحا في كيفية واسس ومقومات ووسائل التعايش السلمي والتعاون والتكافل الإيجابي والوحدة الصحيحة لمجتمع تتعدد وتختلف اعراقه ودياناته، متقدما وسابقاً لعصره ومرحلته التاريخية لقرون عديدة من الزمن. 4.     ان صحيفة المدينة، المجتمع الذي اسسته وانشأته، قد استلهمت وتمثلت قيم واخلاق واعراف المجتمع السائدة والايجابية، وكذا القيم والمبادئ الأساسية والعامة التي تضمنتها وحثت عليها كتب الله تعالى ورسالاته التي انزلها الى رسله وانبيائه الكرام ليبلغوها للناس كافة في إطار دين الله الواحد القويم، ما في ذلك شك، وفيها تحريم الظلم والطغيان والقهر والاستبداد وحماية حرية الانسان وكرامته من خلال الحث على إقامة العدل والقسط والتعاون والتكافل بين الناس، والتحذير من الفرقة والصراع والتمزق، حيث ادرك الرسول عليه الصلاة والسلام المقصد الرئيسي لدين الله القويم الذي يتجه الى الحيلولة دون تجميع السلطات او تركزها في ايدي فرد او جماعة محدودة بعينها عند قمة السلطة والقوة حتى لا يفضي ذلك الى ممارسة الطغيان والجبروت والتغول على الناس والمجتمع وممارسة القمع والاستبداد والقهر ضدهم، حيث حرص الرسول (ص) على ترسيخها وتحويلها اليات وقواعد عملية تمارس في تنظيم وتسيير شئون وعلاقات وحركة مجتمع المدينة حديث النشأة، حيث يظهر لنا بوضوح تام ان صحيفة المدينة في جميع بنودها وقواعدها واحكامها لم تقم أي سلطة قهرية فوقية حاكمة في قمة هرم المجتمع تحتل وتسيطر على كل وسائل وأدوات السلطة والقوة والثروة وتجمعها في يدها وتحت امرتها فتطغى وتتغول وتستبد  بحكم طبائع الأشياء والنفس الإنسانية، وحتى محمد نفسه، وهو رسول الله ونبيه وهو في نفس الوقت قائد المجتمع بدون منازع، لم يجعل او يرتب لنفسة سلطة حاكمة قهرية فوقيه، واكتفى لنفسه بدور المرجع او الحكم الذي يرجع اليه في حالة الخلاف  او التشاجر الذي قد يفضي في الفساد والتصارع الداخلي وفي حالة الضرورة القصوى، وبالمقابل حرصت الصحيفة على تكريس السلطة الفعلية والحكم للقاعدة الشعبية التحتية التي تمارسها المكونات والفئات المكونة للمجتمع، كل في نطاق جماعته وربعه، وذلك من خلال الاحكام والبنود الرئيسية التي نختار منها، أهمها على النحو التالي:           ‌أ-          اكدت الصحيفة في مستهلها على ذكر المكونات الكبرى كقريش واهل يثرب وفروعهم وبطونهم بالاسم مفردة لكل واحدة منها بنداً خاصاً باسمها: “المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف وبنو الحارث (من الخزرج) وبنو سعادة وبنو جشم وبنو النجار وبنو عمرو بن عوف وبنو الاوس (كل واحد منهم ببند خاص) يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي بجانبها بالمعروف والقسط بين المؤمنين” وان “المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم ان يعطوه بالمعروف في فداء او تحمل وان لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه”        ‌ب-       “وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده الى الله والى محمد” “وانه ما كان بين اهل هذه الصحيفة من حدث او اشتجار يخاف فساده فإن مرده الى الله والى محمد رسول الله”. وكذا يتضح بأن صحيفة المدينة تناغمت وطبقت عملياً مقاصد دين الله القويم في الحد من تركز السلطات كلها في يد واحدة عن قمة هرم المجتمع وحرصت على اضعاف مركزية الحكم منع تغوله وجبروته وطغيانه، بان انزلت السلطة الفعلية ووزعتها قاعدياً تمارسها المكونات الكبرى وفروعها وبطونها الأصغر كل في نطاقه، بما يشبه الى حد ما نظام الإدارة والتسيير الذاتي في الزمن المعاصر او الحكم اللامركزي بأوسع نطاق ممكن، وذلك ترتيب فعّال للغاية يضمن انتقاء أسباب وعوامل الديكتاتورية والتسلط والقهر والظلم.         ‌ج-        والملاحظة المدهشة والجديرة بالاهتمام ان الصحيفة حرصت على الفصل والتمييز بين ما توافق عليه اهل الصحيفة من بنود واحكام وقواعد وارتضوها لأنفسهم، وبين تنزيه الله وتعظيمه واعتباره فوق كل ما تواضع عليه البشر واتفقوا عليه، حيث ذكرت الصحيفة في أكثر من موضع عبارات مثل “وإن الله على اتقى ما في هذه الصحيفة وابرّه” ومثل “وان الله على اصدق ما في هذه الصحيفة وابرّه” وذلك، فيما يبدو، إضافة الى تنزيه الخالق وتعظيمه، فإنه يوجب التمييز والتفريق بين ما هو إلهي وبشري، وبين المطلق والمحدود وبين الثابت والمتحول، وحتى لا يحمل الله تعالى شأنه وينسب اليه أي قصور او خطأ في آراء البشر واجتهاداتهم، ويبقى الدين “الإسلام” كما حدد ورسم وبين في كتاب الله العزيز القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ذلك الكتاب الذي احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، المثل الأعلى والنموذج الارقى المتعالي والمنزه عن الخطأ والقصور الذي جعله الله العلي العليم مرشداً وهادياً لحياة الانسان والمجتمع الإنساني، على اختلاف الظروف والازمان والمراحل، للتي هي أقوم وافضل، يأخذ منها الناس ما يقيم شئونهم وحياتهم الأقوم والأفضل والأحسن على نحو ما يتلاءم مع زمانهم وظروفهم ومرحلة نموهم وتطورهم التاريخي، وفق ما تؤهلهم وتمكنهم  قاعدة علومهم ومعرفتهم من فهم واستكناه معاني النصوص والاحكام والمقاصد التي تتضمنها نصوص وآيات واحكام آيات القرآن الكريم والتي تختلف، بلا شك، من مرحلة الى أخرى ومن زمن الى آخر على ضوء التطور العلمي والمعرفي في كل مرحلة وزمن وظروفهما السائدة، على شرط التزام الانسان والعلماء والفقهاء والمفكرين بضرورة التفريق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكتابه المبين الذي ينبغي اعلائه وتنزيهه عن الخطأ والقصور والزلل دائماً وبين فهم البشر له ولنصوصه ومقاصده وأهدافه واستنباطاتهم عنه واجتهاداتهم في تحليل وتصور معانيه والفاظه واحكامه وطرحها كاجتهادات بشرية قابلة للصواب والخطأ والقصور والمحدودية دائماً.. واخيراً فان التعمق والتأمل لألفاظ ومعاني الآية الكريمة والتي يقول الله تعالى فيها على لسان حكماء بني إسرائيل ونبيهم: “الم تر الى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى اذ قالو لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم ان كتب عليكم القتال الا تقاتلوا قالوا ومالنا الا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا الا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين ۞ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً…” البقرة (246-247) ولعل مدلولات ومعاني الفاظ هذه الآيات ومقاصدها يشير ويؤكد على ضرورة الفصل او التفريق او التمييز بين ما هو ديني يختص به الله سبحانه وتعالى ونبيه المرسل، وبين ما هو دنيوي سياسي يتصل ويتعلق بالملك والحكم والسلطة او بقيادة الدولة، ان جازت التسمي، فكبراؤهم طلبوا من نبيهم ان يبعث لهم ملكاً ليقود قتالهم في سبيل الله بعد ان اخرجوا او طردوا او شردوا من ديارهم وابنائهم  وذرياتهم، ولو لم يكن متعارفاً عليه بينهم وسائداً لديهم من ضرورة التفريق بين ما هو ديني وما هو دنيوي لكانوا اكتفوا باعتبار نبيهم قائداً او مليكا لهم يتولى قيادة شئونهم وقتالهم في سبيل الله، ولما طلبوا الى نبيهم ان يبعث او يختار لهم ملكاً بمعنى حاكماً وقائداً! هذا ما فهمته وأدركته من معاني وكلمات ونص الآيتين الكريمتين ومقاصدهما والله اعلم، ويعزز ويدعم هذا المنحى في الفهم والاستنتاج ما فعله رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام من جمع رموز وممثلي أطياف ومكونات مجتمع المدينة المنورة كافة، على تنوع وتعدد اعراقهم ومتعقداتهم الدينية، ودفعهم الى التوافق والاتفاق على قواعد وآليات واسس تنظيم شؤون مجتمعهم وعلاقاتهم بالقوى والأطراف الخارجية المحيطة بهم وحقوق وواجبات كل فيهم على حده والتراضي وعلاقاتهم بالقوى والأطراف الخارجية المحيطة بهم وحقوق وواجبات كل فيهم  على حدة والتراضي وحولها وإقرارها في وثيقة “شبه دستورية” تحكمهم جميعاً وتنظم شئونهم في جميع المجالات، وكتابة الرسول (ص) لها, ومع ذلك لم تتضمن آية إشارة الى دور ومكانة الرسول عليه الصلاة والسلام كحاكم او قائد اعلى لهذا المجتمع حديث النشأة، بل واقتصر دوره كمرجع يرجع اليه في ما قد ينشب من خلاف كبير بينهم يهدد وحده المجتمع وفي حالة الضرورة للفصل في المختلف عليه بينهم، وفيما عدا ذلك فالرسول (ص) ظل دوره دينياً كرسول ونبي فيما هو ديني أو قيادة المجتمع في حالة تعرضه للعدوان الذي يستهدف الدين الوليد بالدرجة الأولى وكدفاع مشروع عن النفس ينتهي بانتهاء العدوان وصده وردعه، اما السلطة والإدارة او الحكم فموزعة سلطاته ومهامه على افراد ومكونات المجتمع وفق قاعدة “كل على ربعته” ويتعاقلون معاقلهم الأولى ويفدون عانيهم بالقسط والمعروف بين المؤمنين الى آخر هذه القواعد والآليات المتفق عليها بالتشاور والتراضي الحر فيما بينهم جميعاً، على ان تبقى أمور الدين محصورة بكل مكون ديني على حدة وفق قاعدة “للمسلمين دينهم ولليهود دينهم”. كل ما سبق يؤكد ان الدين من أمر الله واختصاصه، وان شئون السياسة والدولة والحكم مؤسسه ومدارة وفق قاعدة قول الله سبحانه وتعالى “وامرهم شورى بينهم” على وجه الاطلاق والعموم، ولا يخلط الديني بالسياسي ولا السياسي بالديني ولا الديني بالدنيوي ولكل مكانته ودوره ومجاله على نحو ما بيناه انفاً في الباب الأول من هذا الكتاب وفي سياق هذا الباب أي الباب الثالث.       ثالثاً: الدين ورؤية مسألة الأحزاب عموماً والحزب المدعي تمثيله للدين خصوصاً: وعلى ضوء ما اوضحناه وفصلناه في البند الآنف “ثانياً” من رؤية الدين لمسألة السياسة والدولة، واستناداً عليه واستمراراً له، نتحدث في هذا البند عن رؤية الدين وموقفه من مسألة الأحزاب والتنظيمات السياسية وخاصة منها التي تدعي بأن نشأتها وحركتها وممارساتها قائمة ومستندة على الدين او “الاسلام” تحديداً تمثيلاً وتعبيراً عنه ودفاعاً وحماية لوجوده واستمراره الخ… وهي مسألة ليست وليدة زمننا المعاصر، ولكنها قديمة ومتربطة بظهور الإسلام ذاته في فجره الأول، وتمثل مكانة كبرى وبالغة الأهمية في التاريخ السياسي والتشريعي الإسلامي، على مختلف مراحله وعصوره، وترتب عنها وبسببها نتائج وآثار كارثية ومدمرة ومأساوية مست المسلمين والإسلام في صميمه وعمقه، من حيث ارتباطها الوثيق بالسياسة والدولة وإدارة الحكم، او بعبارة أخرى بمسألة “الامامة” عموماً في الإسلام، في جانب، والدين في تعاليمه وقيمه في جانب آخر، وجرت على الأمة ويلات وكوارث رهيبة وضحايا لا يحصى عددهم ودماء سالت انهاراً، على نحو ما اشرنا اليه في بنود سابقة من هذا الكتاب، ولعل ابلغ ما قيل في هذا الصدد .. وصدق الشهرستاني في التنويه الى هلاك الدين بالسياسة اذ يقول: “ما سُل سيف في الإسلام، على قاعدة دينية، مثل ما سُل على الامامة في كل زمان.” كتاب الملل والنحل للشهرستاني. ومن قبله اشار “اخوان الصفا” الى عقم خلاف الامامة بالقول: “اعلم ان مسألة الامامة، هي ايضاً، من احدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء، فقد تاه فيها الخائضون الى حجج شتى، واكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائفين العداوات والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وابيحت بسببها الأموال والدماء، وهي باقية الى يومنا هذا لم تنفصل، بل كل يوم يزداد الخائفون المختلفون فيها خلافاً على خلاف، وتتشعب فيها ومنها آراء ومذاهب، حتى لا يكاد يحصي عددها الا الله.” اخوان الصفا، الرسائل 3 ص492 -الرسالة 42 الأولى في الآراء والديانات. وهي لا تزال، حتى يومنا هذا، اشد خلافاً واعمق صراعا وافدح ضرراً ودماراً وهلاكاً من ذي قبل، والسبب في هذا الواقع المأساوي المرير والاطول امداً في التاريخ، تقريباً، يكمن في اقحام الدين وتوظيفه واستغلاله في تغذية ذلك الصراع الدامي الرهيب وتأبيد وادامة معاركه وحروبه وفتنه، في حين تبين لنا من استعراضنا الآنف بأن مسألة الامامة وما يرتبط ويتصل بها من شئون الدولة والحكم والملك وغيرها، هي مسألة سياسية بامتياز ذات طبيعة خلافية تتعلق بمصالح ومطامع وتطلعات فئات المجتمع ومكوناته واطرافه المتعددة، تدار وتحل اشكالاتها على قاعدة “وامرهم شورى بينهم” ووفق مبدأ التراضي والتوافق والاتفاق السلمي فيما بينهم، على غرار النهج والنموذج الذي اسسته “صحيفة المدينة” الوثيقة التي رعاها وصاغها سيدنا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلامـ على ما تراضى عليه اطراف ومكونات مجتمع المدينة المنورة المتعدد الأعراق والديانات، والتي تحاشت وتعمدت، عن ادراك ووعي تامين، عدم اقحام الدين وتوظيفه واستغلاله في مسائل وشئون المجتمع الإنساني وآليات ادارته سواء اكانت عبر دولة او ما دون ذلك من صيغ ونظم الإدارة والحكم. وبناء على هذا المنهج والنموذج الإيجابي والمشرق الذي اسسته ورسخته “صحيفة المدينة” في العهد النبوي الزاهر، واهتداء بمضامينه ومقاصده الرئيسية، سنناقش في هذا البند رؤية الدين وموقفه من مسألة الأحزاب والتنظيمات والمنظمات السياسية والمدنية عموماً وجماعات الإسلام الحزبي السياسي خصوصاً.   1.     الدين ونظرته للأحزاب والتنظيمات السياسية عموماً: قبل البدء نجد لزاماً توضيح حقيقة تاريخي وهي ان فكرة الحزب السياسي او الأحزاب السياسية، هي فكرة نشأت مع بروز عصر النهضة والثورة الفرنسية والثورة الألمانية وانطلاق الثورة الصناعية في أوروبا، والولايات المتحدة الامريكية واليابان، وظهور النظرية الليبرالية والرأسمالية كجانب اقتصادي لها، خلال الفترة الممتدة ما بين القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، وفكرة الأحزاب السياسية نشأت في بيئتها الأولى الأوروبية وتبلورت مع التطور الصناعي الكبير لهذه البلدان والنهضة العلمية والتعليمية الواسعة وعصر التنوير الفكري، وتشكل ونضح تلك المجتمعات ومن الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية وأيضا التعليمية والمعرفية حيث نشأ وتبلور نظام الطبقات الاجتماعية، بفعل حركة التصنيع واسع النطاق، الذي أدى الى تشكل وتبلور الطبقة الرأسمالية ونتيجتها الطبيعية الطبقة العاملة، من صراعاتهما برزت الطبقة الوسطى التي تقف في وسط الهرم الاجتماعي بين الطبقة الرأسمالية والعمالية، وفي اطار كل من تلك الطبقات تأتي فئات الفلاحين والمثقفين والطلاب والفئات المهمشة اجتماعياً، وبناء على ما سبق، يتضح ان فكرة الحزب السياسي او الأحزاب السياسية هي فكرة حديثة من حيث الزمن، وبرزت في اطار عملية تطور تاريخي فكري سياسي اقتصادي اجتماعي في مجتمعات غربية متكونة من طبقات اجتماعية واضحة القسمات والملامح والحدود، وهي طبقات متصارعة بفعل التباين والهوة الواسعة بين مصالح ومطالب وتطلعات كل منها، واقتضى ذلك الوضع التاريخي ضرورة قيام فكرة الاحزاب السياسية حتى يكون لكل طبقة اجتماعية, متبلورة وناضجة ومتكاملة، حزب هو بمثابة الاطار او الأداة المنظمة المعبرة، سياسياً، عن مصالح وتطلعات واهداف الطبقة الاجتماعية التي يمثلها ويعبر عنها في رؤيته الفكرية وبرنامجه السياسي وفي حركته ونضاله الميداني في خدمة طبقته.. وفي واقعنا السياسي، العربي، خصوصاً، والعالم ثالثي، عموماً، حيث التشكل والفرز الطبقي الاجتماعي لم يتبلور ويتشكل تماماً بشكل واضح وحدود صارمة، بفعل أوضاع التخلف الاقتصادي الصناعي المعرفي، أقيمت أحزاب سياسية عديدة في كل بلد من بلداننا، ولكن دون ان تستند الى أساس طبقي اجتماعي محدد ومتبلور فتكون بمثابة الاطار او الأداة السياسية الممثلة والمعبرة عن طبقة من الطبقات الاجتماعية، وذلك لأن واقع التخلف المريع الذي يعيشه مجتمعنا لم يكن مؤهلاً ولا قادراً على إتمام عملية التطور التاريخي والفرز الاجتماعي الطبقي الطبيعي التي لا تتم، كما اشرنا انفا، الا في ظل تطور اقتصادي صناعي معرفي واسع النطاق وعميق الجذور يعكس مؤثراته ونتائجه في كافة مجالات الحياة وخاصة التعليم والثقافة المعرفية والشاملة للفرد والمجتمع بما في ذلك تعمق ثقافة الفرد والمجتمع ووعيه وادراكه وتشبعه بثقافة الحقوق الفردية والعامة والحريات العامة والخاصة التي تختصر في المبدأ الديمقراطي العام بمفهومه الواسع ومجالاته العديدة، ولهذا، وبسبب هذه الوضعية الخاصة لمجتمعاتنا، نشأت أحزاب كثيرة وكلها اما مدعية التمثيل والتعبير عن طبقة اجتماعية معينة، هي في الواقع غائبة او غير موجودة في الواقع الميداني، كطبقة اجتماعية مفرزة ومتبلورة وناضجة اجتماعياً واقتصادياً او مدعية تمثيل الشعب كله بمختلف فئاته ومكونات ومعبرة عنه ومناضلة من اجل الانتصار لقضاياه وأهدافه!! وحتى تلك الأحزاب ذات التوجه اليساري الراديكالي والتي أطلق عليها أحزاب “شيوعية” رفعت شعار تمثيلها وتعبيرها والتزامها بالطبقة العاملة “البروليتاريا”، التي هي، كما يفترض او يقال في الفكر اليساري عامة، الوليدة الشرعية لأعلى مراحل التطور الصناعي للمجتمع بقيادة وسيطرة الطبقة الرأسمالية العليا، في حين ان هيئاتها وتشكيلاتها وقياداتها وبنيتها التنظيمية، كلها تتكون من أناس يصنفون، اجتماعياً وطبقيا، من طبقات أخرى: رأسمالية احياناً، وبرجوازية وسطى وصغرى في الغالب. أي ان النضال والعمل من اجل “طبقة عاملة” او “بروليتاريا” والانتصار لمصالحها وأهدافها، تتم بواسطة فئات او طبقات اجتماعية غير “عمالية” بالوكالة او النيابة عنها في حين انها لا تزال غائبة وفي رحم الغيب… ولا نريد هنا، ولا هو من مقاصد هذا الكتاب، ان نخوض في تفاصيل وتعقيدات القضايا النظرية الفكرية الايديولوجية حول عملية التطور والتبلور والتشكيل الاجتماعي الطبقي وما يرتبط به من أفكار وأدوات، ولكن اردنا فقط ان نبين، على السريع، البيئة التاريخية ومرحلة تطورها وظروفها الموضوعية، التي نشأت في ظلها ووفق مقتضياتها فكرة الأحزاب السياسية وسياقها التاريخي… تحاشياً لاختلاط الرؤية وخطأ عملية التقويم. غير ان ذلك لا يعني بأن المجتمعات المتخلفة، ونحن هنا نقتصر في حديثنا عن المجتمعات العربية والاسلامية خاصة، قد عاشت في حالة من الركود التام والغياب الكلي عن مسيرة الحراك والتطور التاريخي الإنساني وتفاعلاته واحداثه ووقائعه المختلفة، بل على العكس من ذلك شهدت، قبل الإسلام وبعده، حراكاً وتفاعلاً كبيراً عبرت عنه من خلال قوى متصارعة وجماعات منظمة وفرق وتشكيلات عبرت، بأشكال متعددة، عن رؤى فكرية وسياسية ودينية ومذهبية وفلسفية اضافة الى مصالح واهداف وتطلعات تمثل فئات وقطاعات وشرائح في المجتمع في تبايناتها وتعارضاتها المختلفة، وهي في المحصلة النهائية، لا تختلف عن فكرة الأحزاب وغايتها الكبرى، من حيث انها جميعاً جماعات وتنظيمات وقوى رؤى او فكر او مصالح، وان اختلفت عن فكرة وغاية الأحزاب الحديثة بأنها لم تكن مستندة على معاير طبقية اجتماعية اقتصادية… ولعل النظام القبلي – العشائري القائم على مبدأ “العصبية” الاجتماعية، بمنظومة اعرافه وتقاليده الراسخة والتي ينتظم في اطارها وتحت مظلتها جميع افراد القبيلة او العشيرة على اختلاف مكانتهم وتصنيفاتهم الاجتماعية، باعتبارهما بمثابة الاسرة الواسعة او الممتدة، وان عصبيتهم تستند الى رابطة الدم او العرق او الجد الأكبر الواحد، وكان هذا النظام، ولا يزال بصورة او باخرى، محققاً للمسؤولية التضامنية الكاملة بين افراده في السراء والضراء التي تحقق لجميع الافراد والفئات في القبيلة والعشيرة مواجهة كافة التحديات والمخاطر المحيطة بهم وحفظ البقاء والوجود والتشكل والفرز الاجتماعي الاقتصادي والسياسي ايضاً… نجد بواكيره في صراعات الممالك والامارات السياسية العصبوية وفي التشكيلات الاجتماعية كحلف الفضول او حزب الفضول، وتكتلات الموالي او العبيد والمهمشين اجتماعياً، قبل الإسلام، وبهد الاسلاك، نراه في كيانات ذات طابع اجتماعي سياسي كالمهاجرين والانصار والهاشميين والقرشيين وقريش وغيرها من القبائل العربية، ثم العصبية العربية والفارسية وحركات التمرد الاجتماعي السياسي كحركة الزنج وغيرها إضافة الى الجماعات والفرق ذات المنحى الفلسفي – الفكري كالمعتزلة والاشاعرة والمرجئة والخوارج والحركات الشعوبية ناهيك عن المذاهب الفقهية وتحولها الى صراعات دامية بسبب روح التعصب والانغلاق التي أحاطت نفسها ومذاهبها بسياجه، وهناك ايضاً تكتلات أصحاب الحرف والمهن المختلفة. كل هذه الحقائق التي اشرنا اليها، وغيرها كثير، تدل على ان التكتلات والجماعات والتشكيلات المختلفة المشارب والغايات والمصالح، تعتبر سنة رئيسية من سنن الحياة الإنسانية والدافعة والمحرضة الأكبر التي تحفز التطور والفاعلية والتفاعل الإيجابي للمجتمعات الإنسانية عموماً، وتعتبر فكرة الأحزاب والتكتلات السياسية المنظمة الحديثة بمثابة الشكل الأكثر حداثة وتطوراً من حيث الشكل والمضمون لتلك التي كانت سائدة وقائمة في مختلف مراحل التاريخ القديم والوسيط، ولا يوجد تناقض او تنافر بينهما في الأسلوب والغاية الا من حيث الوسائل والأدوات وأساليب الأداء على نحو او آخر، تماشياً وتكيفاْ مع تطورات الحياة وتجدد قضاياها وأساليب عملها، فما “الحزب” في مفهومه الحديث والمعاصر الا اطار او أداة عمل سياسي جماعي منظم، يقوم اساساً على فكرة او قضبة او هدف معين يفصله برنامج فكري سياسي يحدد منطلقات الحزب وأهدافه ووسائل عمله وحركته وتنظيم أسس العلاقات بين هيئاته ومستوياته التنظيمية المختلفة الخ، وينظم اليه ويتنظم في اطاره وكيانه وعضويته مجموعة من المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية الاقتصادية، تحقق لديهم الايمان والقناعة بأن برنامج الحزب وما يمثله يحظى برضاها ويعبر عن قناعتها وأهدافها وتطلعاتها فتنضم اليه وتناضل ضمن اطاره وحركته انتصاراً او سعياً الى الانتصار لأهدافه وغايته المعلنة، وهكذا فإن الحزب، أي حزب، هو في الأول والأخير اطار سياسي لعمل جماعي منظم ومنسق ومتكامل بين مكوناته واعضائه وصولاً الى تحقيق أهدافه وغاياته المحددة والمعلنة.. ومثلما لم تكن التكتلات والجماعات والتشكيلات والتنظيمات القديمة، سابق الإشارة لهاـ في عهود ما قبل الإسلام، وما بعد الإسلام وفي ظله، محل استهجان ورفض وتحريم سياسي مجتمعي او ديني، فمن باب أولى ان لا تكون الأحزاب السياسية المعاصرة محلا لرفض او تحريم ديني على أي نحو او صورة، ما دامت فكرتها وطبيعتها وغاياتها لا تتعارض بل تتفق مع مثيلاتها القديمة من حيث الطبيعة والفكرة والغاية وان تطورت الأخيرة في اساليبها ووسائلها وأدوات في العمل والحركة لا اكبر ولا اقل، لا، بل انها تتوافق وتنسجك وتعمل بمقتضى التوجيه والأمر الإلهي الموجه لمجتمع المؤمنين الذي يجب ان يتأسس وفق القاعدة الكبرى المحددة بقوله جل وجلاله “وامرهم شورى بينهم” وامرهم الوارد بالآية القرآنية وقد ورد بصيغة النكرة يفيد الاطلاق والعموم لكل ما يتصل ويتعلق بأمور الناس والمجتمع، وممارسة واجب الشورى الملزم موجه للأفراد والجماعات على حد سواء، والحال كذلك ايضاً فيما يتعلق بالتوجيه والأمر الإلهي بقوله تعالى: “ولتكم منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون”، والشرط الوحيد لممارسة الانسان الفرد او الجماعات وأداء تلك المهام والمسؤوليات التي امر الله تعالى بها ان تكون بعيدة تماماً وخالية من كافة اشكال اللجوء الى القوة والسلاح والعنف والقهر والترويع والبطش انطلاقاً وامتثالاً للأوامر الالهية القطعية بالتزام الدعوة السلمية بالحكمة والموعظة الحسنة وضمان حرية الانسان في اختيار افعاله وتقرير أفكاره دون اجبار او ترهيب وان لا اكراه للناس لا في أمور الدين ولا في أمور الدنيا، واعتبار كل صراع يفضي الى قتل الناس وازهاق ارواحهم وسفك دمائهم وتخريب مساكنهم وتدمير منشئاتهم وافزاع حياتهم وتخويفهم، محرم من وجهة نظر الدين بالمطلق الا فيما يخص القصاص الشرعي والدفاع عن النفس ورد العدوان المهدد للسلام العام، ذلك فيما يتعلق بموقف الدين ورؤيته حول مسألة الأحزاب والتنظيمات السياسية وكذا ايضاً المدنية والنقابية والمهنية الخ، فما عن موقف الدين من قيام أحزاب تدعي انها قامت على الدين او انها معبرة عنه وممثلة له وناطقة باسمه؟؟   2.     موقف الدين من الأحزاب المدعية للدين واتخاذه مطية لأغراضها: الواقع ان قيام “أحزاب” تدعي لنفسها صفة “الإسلام” وتعطي لنفسها الحق بإعلان تمثيل الدين الإسلامي والتعبير عنه وأنها الناطقة باسمه, هي في حقيقة الأمر “بدعة” محدثة لم يعرف بها المسلمون، عموماً، الا في النصف الأول من القرن العشرين، ولم تكن لها سابقة مماثلة طول التاريخ الإسلامي منذ ظهوره قبل خمسة عشر قرن من الزمان، ومما زاد الأمر ريبة واستهجاناً ان اعلان قيام تلك الأحزاب أو بالأدق الحزب المدعي “الإسلام” وتمثيلة والتعبير عنه والنطق باسمه او بالنيابة عنه، جاء مقترنا بصفتين رئيسيتين لازمتا قيامه وحكمتا وتحكمتا بحركته ومساره، حتى يومنا هذه، أي منذ ما يقارب التسعين عاماً من الزمن، وهاتان الصفتان هما: ·        السرية المطلقة لحركته ونشاطه ودوره وفعالياته في كافة هيئاته ومستوياته. ·        الطابع العسكري المسلح الذي واكبه ولازمه منذ لحظة الميلاد وعلى مختلف مراحل حياته. وما نتج عن هاتين الصفتين من اعمال اغتيالات وتصفيات دموية ومحاولات تفجيرات تخريبية للمنشئات والمرافق العامة، وما تولد عن ذلك من انطباع بأن هذا الحزب، وبطبيعته واسلوبه وتركيبه، انما يسعى لفرض آرائه وخياراته السياسية والفكرية على كامل المجتمع، بقوة السلاح والعنف والإرهاب لإسكات وفرض اراءه وخياراته السياسية والفكرية على كامل المجتمع، بقوة السلاح والعنف والإرهاب لإسكات واقصاء وتصفية كل خصومه ومناوئيه والمختلفين معه، إضافة الى الشكوك والشبهات العديدة بارتباط هذا الحزب بدوائر استخبارات عالمية كبرى لها استراتيجيات واجندات ومصالح إقليمية مخيفة بالنسبة لعالمنا الإقليمي العربي والإسلامي خصوصاً ضمن استراتيجياتها الكونية الاشمل… واستناداً الى مناقشتنا، آنفاً، في البند “ثانياً” من الباب الثالث، حول مسألة الدين والسياسة والدولة، واستمراراً لها، نناقش هنا، مسألة موقف ورأي الدين من قيام أحزاب بتلك الصفات تدعي الإسلام وتمثيله والتعبير عنه والنطق باسمه وحجم الضرر البالغ الذي يلحق بالدين وطبيعته وغاياته ومقاصده السامية، مع محاولتنا تحاشي تكرار ما سبق مناقشته في سياق هذا الكتاب ما امكن، وفي هذا الصدد فإننا نرى بأن اخطر ما يلحق ضرراً بالغاً وهدّاماً بسبب وبفعل إقامة أحزاب وتنظيمات وجماعات تتخذ من الدين او الإسلام “تكية” او “مطية” لها ولأغراضها واهوائها ومصالحها الدنيوية المصلحية بادعاء قيامها على أساس الإسلام وتمثيله والتعبير عنه وفوق ذلك احاطته بسياج رهيب من السرية المطلقة والعمل والحركة من تحت الأرض وداخل سراديب ودهاليز مظلمة قاتمة، واقتران نشوئه بالطابع العسكري المسلح واقترافه لأعمال القتل والاغتيالات السرية والتخريب والتدمير، على نحو يجعل اقرب كثيراً من طبيعة وأساليب “العصابات المافوية الاجرامية” منه الى طابع منهجي وطبيعة الدعوة الى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتذكير والوعظ والنصيحة وبالتي هي احسن، نقول ان اخطر واكثر ما يلحق الضرر البالغ والمدمر بالدين وسمو غاياته ومقاصده النبيلة من وراء إقامة مثل تلك الأحزاب والتنظيمات والجماعات مدعية الإسلام، انه يخلط ويوجد على نحو متعسف وخاطئ بين متناقضات لا لقاء بينها ولا تماثل على الاطلاق، اذ يخلط بين الله الخالق جل جلاله الحق المبين وبين شخص المرشد او القائد او غير ذلك من المسميات وهو من البشر مخلوق يخطئ ويصيب، وبين “دين الله” وهو المنزه المتسامي عن الخطأ والقصور، وبين “رؤى” واجتهادات الجماعة او قيادتها وهي مجللة بالخطأ والقصور، ويخلط ويوحد ايضاً بين “المطلق” و”النسبي” وبين “المقدس” و”المدني” وبين “الثابت الإلهي” و”المتحول البشري”، وهكذا، ومع المدى، يتركز الاهتمام والذكر على القائد والحزب ويقل الاهتمام بالله جل جلاله ودينه حين يصبح القرآن الكريم، كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه من خلفه، مهجوراً ووراء الظهور، ولن يكون هذا التحول الخطير والكبير صعباً او غير ممكن، فإن الذين قالوا، من قبل، ان السنة هي الحاكمة والمهيمنة والناسخة للقرآن، وانها محكمة ودقيقة على عكس القرآن الكريم الذي يعلمون الناس، في برامجهم ودعاياتهم، انه حمّال أوجه و”متشابه”، لن يجدوا أي صعوبة في جعل القرآن وراء ظهورهم مهجوراً تماماً في قادم الأيام وحين يتم لهم “التمكين” والتمكن بالسيطرة على كافة مقاليد الأمور ويجعل كل أسباب القوة في أيديهم، ومن عارض ذلك او اعترض عليه سرعان ما بصموه بالكفر والردّة وقتلوه بدم بارد! ثم ان الله تعالت قدرته وحكمته علواً كبيراً قد جعل القرآن الكريم الحامل والمتضمن لدينه الحق المبين، هادياً ومرشداً “للتي هي أقوم” وصرف فيه للناس “من كل مثل” و”تبياناً لكل شيء”. وهو بهذا صالح ومناسب لكل زمان ومكان الى يوم الدين، في احكامه وقوانينه وسننه الكلية والعامة والتي تتميز بالمرونة الكاملة التي تجعلها قادرة على استيعاب تطورات الحياة وتجدداتها الدائمة والتعامل معها، وهو الكتاب الذي احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ولم يعط الحق لأحد من خلقه، بمن فيهم رسله وانبيائه الكرام، في وضع تفسير نهائي لاحكامه او تأويله مدعياً او مقرراً بأن ذلك التفسير او التأويل هو تفسير الله تعالى وتأويله الذي خص نفسه به جل جلاله وحده بحق تفسيره وتأويله، قال تعالى: “هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبغون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله الا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر الا اولو الالباب” وقال سبحانه: “هل ينظرون الا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا او نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، قد خسروا انفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون” وقال: “ان هو الا ذكر العالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين” والمسلم الحق هو الذي يؤمن بكتاب الله القرآن الكريم بكل ما ورد وذكر فيه باعتباره كل من عند ربنا، والله سبحانه وتعالى هو الذي سيفسره ويؤوله للمؤمنين من خلال عبادته اختصهم برحمته وعلم مدلوله، حيث يؤكد الله سبحانه وتعالى: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق.” ولو اقتضت المشيئة الإلهية السامية ان يكون للقرآن الكريم تفسيراً وتأويلاً واحداً موحداً لفسره واوله سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه، لكن ذلك يتناقض مع طبيعة القرآن وحكمته وصلاحيته في كل زمان ومكان ومسألة تفسير مقاصده وتأويل آياته وفهمها مرتبطة بظروف كل مرحلة من مراحل التاريخ وبظرف الزمان والمكان لكل مرحلة على حدة وفقاً لتطور القاعدة المعرفية للإنسان والاكتشافات والتطورات في الحياة والكون الى ان تقوم الساعة، ان الذين يصفون كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأنه “متشابه” مع الخطأ الشنيع  في فهم المعنى والمقصود بالمتشابه والآيات المتشابهات، ويقولون عن القرآن بأنه حمّال أوجه، انما يقعون في اثم التقوّل على الله سبحانه ما لا يعلمون ويقعون تحت طائلة الافتراء والكذب على الله عز وجل…”وما قدروا الله حق قدره”… واخيراً، وكما قلنا في البند “ثانياً” من الباب الثالث حول الدين والسياسة والدولة، بأن الدين مطلق ثابت منزه متسامٍ فوق الواقع، والسياسة، من حيث متعلقه بشئون حياة البشر وعلاقاتهم ومصالحهم وغير ذلك من الأمور الدنيوية، هي مسألة خلافية تدار وتنظم وتبنى على أساس توافق واتفاق وتراضي افراد المجتمع وفئاته ومكوناته على قاعدة الشورى والتشاور والتفاهم وانفاذ ما يتفق عليه بينهم بشأنها، ولا ينبغي انزال “المطلق الديني” المنزه والمتسامي واقحامه واستغلاله لمقتضيات مصالح واهواء وتطلعات فئة او جماعة او حزب او طائفة، وانما الاهتداء والاسترشاد بقيمه وتعاليمه وقوانينه وسننه العامة الكلية بأقصى قدر ممكن باعتبار الدين “يهدي للتي هي أقوم” دائماً وحقاً، دون محاولات تعسفها ولي اعناقها وتكييفها لمصالح واهواء اطراف وقوى بعينها… ومسألة اقحام الدين وتوظيفه واستغلاله كمطية لصالح حزب او جماعة سياسية، سيؤدي حتماً الى بروز أحزاب وتنظيمات وجماعات تستخدم الدين هي الأخرى كما استخدمته التي من قبلها، لكن على نحو اكثر تطرف ومزايدة وادعاء وهكذا تثور الفتن وتتفجر الصراعات والحروب التي يكون ضحيتها افراد المجتمع الإسلامي الأبرياء المسالمين الآمنين… قال تعالى: ” إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاُ لست منهم في شيء” وقال ” ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون” وقال جل وعلا: “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم. وقال عظم شأنه: “ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله”… فالتفرق والتمزق والانقسام والصراع المنهي عنه، دينيا، هو المتعلق بالدين وبالأمور الدينية فقط الذي ينبغي ان يسود فيه روح التفاهم والود والاخاء والتسامح ضماناً لوحدة وتماسك المجتمع المؤمن فالصراع والانقسام والتمزق في الدين محرم شرعاً. لكن الاختلاف والصراع والتدافع في أمور السياسة والشؤون الدنيوية فذلك منسجم مع سنة الله تعالت قدرته في خلق البشر والحياة والكون القائم على الاختلاف والتنوع والتعدد والتدافع والتنافس الذي يدفع بالحياة نحو النمو والتطور والتقدم دائماً، وهو مطلوب دائماً كمحرك للتاريخ شريطة ان لا تسفك الدماء وتزهق الأرواح ويحترف العدوان والعنف والطغيان والاكراه بقوة السلاح والإرهاب. اذن يبدو جلياً من مجمل السياق السابق، ان قيام أحزاب وتنظيمات وجماعات تدعي قيامها على أساس الدين او تمثيله او التعبير عنه او احتكاره وتوظيفه بأي شكل من الأشكال موبقة كبرى اساءت الى الإسلام وشوهت صورته الى اقصى الحدود، وهي بدعة مستحدثة لا أساس لها من الدين بل تتناقض وتتصادم مع جوهره ومقاصده وتفتري على الله الكذب وتدخل في نطاق المنهيات الدينية القطعية بتزكية النفس والمن على الله بادعاء اسلامهم، والتستر خلف الدين لقمع الخصوم والمنافسين وتصفيتهم باسم الدين وادعائه، وهو شكل من اشكال “الشرك بالله” ان جعلوا من انفسهم شركاء لله في دينه ووحدانيته المتفردة والله تعالت حكمته يقول في محكم كتابه العزيز “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين كله لله” ولله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له ولا مشارك.. وليكن الصراع والتنافس والتدافع السلمي البعيد عن السلاح والعنف والاكراه بين أحزاب وتنظيمات وجماعات سياسية صرفه لها برامجها ورؤاها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وكل مجالات الحياة لمعالجة كل مشكلات وازمات وهموم الناس ولندع الدين للناس كافة دون ادعاء او احتكار او استغلال من أحد او فئة او حزب أيا كان، ليكون الدين كله لله موجهاً لكل فرد من خلقه وعباده على قدم المساواة دون ادعاء او تزكية النفس وادعائه واحتكاره بأي شكل من الاشكال… وقول الله جل جلاله في الآية الكريمة: “الم تر الى الذين يزكون انفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ۞ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به اثما مبينا” (النساء 49-50) والآية واضحة وضوح الشمس بان ادعاء أي شخص، أياً يكون، انه مسلم ومؤمن، وغيره من عباد الله مطعون في اسلامهم وايمانهم، يندرج ضمن اطار “تزكية النفس” المنهي عنها بالآية الكريمة هذه قطعية الدلالة والثبوت، لأن الله تعالى وحدة لا شريك له من يزكي من يشاء من عباده ولا يظلمهم ولو ذرة من سعيهم، ولافتاً الأنظار والعقول والقلوب الى ان الجنوح نحو “تزكية النفس” هو افتراء على الله الكذب الكافي لاعتباره اثماً مبيناً! والأخطر من ذلك كله والأكثر خروجاً عن صحيح الايمان بالله ووحدانيته ومطلق قوته الكلية، أن الأمر لم يتوقف عند مستوى إقحام دين الله في السياسية وقضاياها وشئونها وتوظيف الدين واستغلاله وتسخيره لمقتضيات السياسة والاهداف والمصالح السياسية، ولم يقتصر على إقامة أحزاب وتنظيمات وتشكيلات سرية عسكرية مسلحة وادعاء استنادها الى الإسلام والتعبير عنه وتمثيله، بل وصل التمادي الى حد التأكيد والإصرار على ان مبرر وسبب اقامتها ووجودها انما كان لحماية الدين والدفاء عنه ضد اعدائه المتآمرين عليه وضمان استمراره وبقائه وهدم سقوطه وتصفيته واجتثاثه جذرياً ونهائياً!! وصولاً الى تعميق وترسيخ انطباع وقناعة في اذهان عامة الناس ان دين الله الحق المبين بدون قيام حزب يمثله ويحميه زائل، وان بقاءه واستمراره وانتصاره مرهون بقيام مثل ذلك الحزب القوي والقادر على مصارعة وصرع اعداءه واعلاء رايته! وبديهي ان مثل هذا الطرح يعتبر من اخطر أساليب الاضلال والتضليل والزيف والمغالطة والبهتان المبين، فبدلاً من الايمان المطلق بأن الله جل جلاله على كل شيء قدير وان امره اذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ولا يعجزه شيء في السماوات والأرض، حيث تؤكد الآية الكريمة من سورة الزمر: “وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطوية بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون” وبدلاً من ان يتولى الله تعالى المؤمنين ويدافع عنهم وينصرهم: “ان الله يدافع عن الذين آمنوا” وقوله تعالى “انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد” غافر (50). وقوله “ان ينصركم الله فلا غالب لكم.” وقوله “ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز” الحج (40). وقوله: “فمن ينصرني من الله ان عصيته” هود (30) وقوله تعالى “انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون” الحجر (9) وقوله عز وجل ” ان ينصركم الله فلا غالب لكم” آل عمران (16). وقوله “والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون” يوسف (21)، وغيرها من الآيات الكريمات تسير على ذات السياق بأن الناس هم الفقراء الى الله وانهم جميعاً قائمون به مالك السماوات والأرض وما بينهما، وبدلاً عن الله سبحانه وقوته وقدرته المطلقة ومشيئته التي لا معقب لها ولا رادع، راح أولئك الذين يستغلون الدين لمآربهم السياسية والشخصية يقيمون الأحزاب السياسية المريبة باسم الدين وادعائه يصورون لعامة الناس ان الحزب هو المدافع عن الله جل جلاله والحامي لدينه والمدافع عن بقائه وان الدين بدون الحزب القوي والقادر ضائع! فأصبحوا هم وحزبهم وكأنهم اقوى من الله تعالى والأقدر والأكفأ كمه والعياذ بالله! وذلك انحراف خطير عن منطق الايمان وتوحيد الخالق من حيث صوروا، بعلم او بدون علم، وكأن الخالق معتمد في بقائه عليهم وليسوا هم من يعتمد على الله وينشد نصره ودفاعه وحمايته! ثم ذهبوا الى ابعد من ذلك حين ربطوا، في نشراتهم وخطاباتهم التثقيفية، بين اسلام المسلم وايمانه والحزب السري المسلح مدعي الإسلام والدين، وحكموا بأن اسلام المسلم وايمانه لا يكتمل ولا يصح تماماً الا حين يكتسب عضوية الحزب باعتبار الحزب هو الدين والدين هو الحزب، مستندين الى مخرجات الدين او الإسلام الموازر والمتناقض، في غالبيته الساحقة، مع دين الله الحق والإسلام الصحيح المحدد في كتاب الله “القرآن الكريم”، معتمدين على روايات تلك الاحاديث المنسوبة بالباطل في مجملها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا معنى لها ولا ذكر في كتاب الله، وخاصة ذلك “الحديث” المأثور لديهم والذي يتحدث في معناه بأن كل من مات وفي رقبته بيعة مات ميتة جاهلية! وبديهي انه  يفسرون البيعة هنا بأنها اعلان الولاء والمبايعة لأمام او جماعة او حزب، مهما كان ذلك الانسان مقيم الصلاة ومحافظاً على الفرائض وملتزماً بأوامر الدين ومبتعداً عن نواهيه مستقيماً اميناً داعياً الى الخير وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر الخ، كل ذلك، في عرفهم وفكرهم المعوج، لا يشفع له ولا يغنيه الا اذا “أدى البيعة” واعلن الولاء والطاعة لإمام الحزب وقيادته وتعاليمه حتى وان قصر في فرائض وعبادات سنها الله تعالى لعباده لأن انضمامه للحزب معناه ممارسته للجهاد الذي هو سنام الإسلام والجهاد يكفر عنه ما قد  يقع فيه من سيئات وافعال لا يقرها الدين! ومع المدى يصبح “إمام” الحزب او “المرشد الأعلى” أولى بالطاعة من الله، والحزب مقدم على الدين، وهكذا يتحمل الدين ويلصق به، زوراً وبهتاناً وظلماً، أخطاء وموبقات وجرائم وانحرافات ممارسة الحزب وقيادته للشأن السياسي ومؤامراته ولا اخلاقيته في غالب الأحيان، ومع تزايد وكثرة اعداد الأحزاب والتنظيمات والجماعات السرية المسلحة التي تنشأ وتتوالد بعضها من رحم البعض وكل واحد منها يدعي شرعية وصحة تمثيله وتعبيره عن الدين وكل لا يعوزه ولا يعجزه الاستناد الى نصوص، يعتبرها دينية ومقدسة، ومعظمها، إن لم يكن جميعها، مأخوذة ومقتبسة من كتب “الاحاديث” المعبرة عن الدين الموازي سواء اكانت مدونة في “الصحاح” او “السنن” أو غيرها مما هو معروف وغير معروف وعلى اختلاف مستويات صحتها او فسادها، لا يهم طالما تلبي حاجات تلك الأحزاب والتنظيمات والجماعات والفرص في تأسيس شرعية ومسوغ “ديني” لقيامها ووجودها وحركتها، وما تلبث دعاوى الاتهام والتفسيق والتكفير ان تثور ضد بعضها البعض، بالإضافة الى سائر الأحزاب والقوى الأخرى في المجتمع غير الدينية، ويصبح الكل يكفر الكل، ليس هذا فحسب، بل يتعداه الى تفجير الصراعات الدامية والحروب الفظيعة التي تذهب بالآلاف وعشرات الآلاف بل ومئات آلاف الأرواح وتسيل انهار من الدماء وتنشأ دوامات عاصفة من البغضاء والكراهية والمعاناة والعذابات الهائلة التي لا يقتصر اثرها عليها فحسب، بل تمتد مآسيها وكوارثها لتشمل افراد وطوائف وفئات المجتمع كله… وكل واحد منها يشحن اتباعه ويعبئهم ويغسل ادمغتهم بأنهم هم وحدهم المعبرين عن صحيح الدين وان قتلاهم على الحق وشهداء في الجنة مع “الحور العين” والآخرين جميعاً على باطل وضلال وارتداد وان قتلاهم في النار مع الكفار!! ومع اتساع نطاق وتصاعد حدة المآسي والكوارث المروعة واهوالها التي لا يحتملها بشر، بسبب تلك الفتن والصراعات والحروب والدمار يتساءل الانسان المسلم العادي، مشدوهاً وهلعاً، هل هذه هي غاية الإسلام ومقاصده؟؟ وأين الإسلام الحق وسط دوامة تلك العواصف الرهيبة؟ وتصل المأساة ذروتها المريرة لتولد حالة واسعة من القنوط والإحباط لدى عامة المسلمين، بل وحتى صفواتهم، شكاً وريبة وعدم يقين، تدفع اعداد متزايدة منهم، يوماً بعد يوم، الى الشعور بالخروج من الإسلام والابتعاد عنه لأنه بدا وكأنه داعي ومحرض الى تلك الفتن والحروب والصراعات الدامية المهلكة وحلقتها المفرغة وعبثيتها الغبية ومسبباً لها، والإسلام المقصود هنا هو اسلام الدين الموازي المنحرف وليس دين الله والإسلام العظيم الذي بعثه الله سبحانه للعالمين وحدد معالمه واسسه ومضامينه وقيمه وتعاليمه واخلاقياته الرفيقة السامية في كتاب الله العزيز القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الدين الذي انزله الله تعالى شأنه رحمة للعالمين وشفاء وهدى يهدي للتي هي أقوم وينشر الأمن والأمان والسلام والعدل والاخاء والتسامح والخير الإنساني العام على الأرض. وهكذا نجد بأن الانحرافات المتراكمة والقديمة عن الدين التي خلقتها المذاهب المتعصبة وخلق دين مواز مناقض لدين الله عبر ما عرف بتدوين “الحديث” او “السنة”، والتي استندت عليها، في زماننا، الأحزاب والتنظيمات والجماعات السرية المسلحة المدعية التعبير عن الإسلام وتمثيله، قد ارتكبت اكبر واخطر جناية بل جريمة في حق دين الله الحق المبين الإسلام، واصبح عامة المسلمين، من غير المتحزبين، وهم يقرأون سورة النصر: “اذا جاء نصر الله والفتح ۞ ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجاً ۞ فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان تواباً” النصر. يشعرون بخوف ووجل ان يأتي على المسلمين حين من الدهر، ليس ببعيد، يرون الناس فيه يخرجون من دين الله افواجاً، بسبب وتحت ضغط هذا الواقع المأساوي الرهيب الذي بات يعصف بهم وحياتهم ومستقبلهم ومستقبل اجيالهم القادمة عصفاً مدمراً، لا ترى فيه الا دوامة القتل وسفك الدماء والفتن والبغضاء والدمار والخوف والفزع والهلع التي لا تتوقف عجلتها المروعة بل تزداد طحناً وعصفاً وبلوى، كل ذلك بفعل وبسبب اقحام الدين في السياسة ونشؤ الأحزاب والتنظيمات والجماعات والتشكيلات السرية المسلحة الدموية الإرهابية التي تدعي تمثيلها للإسلام وقيمه وتعاليمه وهي على النقيض تماماً منه ومن غاياته ومقاصده السامية العظيمة المشرفة. ذلك الا ان تتدارك الناس رحمة من بهم وغوثاً يكشف به همهم وغمهم ويفرج عن الكرب العظيم الذي يطحنهم، ويدفعهم الى الانطلاق نحو التغيير الإيجابي والفعال لواقعهم المرير وبالغ السوء ويغيروا ما بأنفسهم وعقولهم بالعودة الكاملة الى واحة دين الله القويم وكتابه العزيز القرآن الكريم حتى يغير الله ما بهم، وما ذلك على الله بعزيز…                   الباب الرابع الدين ورؤيته لبعض المفاهيم والقضايا السائدة المنسوبة اليه       تمهيد: سنحاول في هذا الباب التطرق لبعض القضايا والمفاهيم الخاطئة التي انتشرت وترسخت في كتب التراث الفقهي والسياسي الإسلامي عبر مراحل تاريخية طويلة، ونسبت الى الدين بل واعتبر من ضرورات ومقتضيات الايمان الديني التي توجب على المسلم التسليم والايمان بها والا صار ايمانه ناقصاً، واحياناً يخرجونه عن الملّة، وهي مفاهيم وقضايا أصبحت، بحكم التكرار والتراكم الهائل والمستمر لها، متجذره وعميقه وراسخة في عقلية المسلم ومعتقده، وكل اقتراب منها او مساس بها، ولو بالبحث والدراسة والمناقشة والمحاججة العقلية المستندة الى القرآن الكريم، رجس وفسوق وتزندق وكفر يجب محاربته بكل قوة وعلى الفور، وكل محاولة جادة وصادقة لنبذ ودحض مثل تلك المفاهيم والقضايا، تجابه بصعوبات جمة وتعترضها مخاطر مهلكة، بفعل قوة وترسخ ما اعتاد عليه عامة المسلمين وما بات مألوفاً وحاسماً لا يقبل النقاش والمحاججة لديهم، بمن فيهم فقهاء وعلماء دين ومتعلمين، تشربوا ورضعوا وشبّوا على مثل تلك القضايا والمفاهيم المغلوطة والمتعارضة مع صحيح الدين كما يبينه القرآن الكريم ويفصله، وليس بالمهمة السهلة ولا المأمونة العواقب اخراجهم من دائرة “انا وجدنا اباءنا لها عالقون”! وفي هذا السياق فأننا لن نتطرق بالتفنيد لكل المفاهيم والقضايا الدينية المغلوطة كلها حصراً، فذلك فوق طاقتنا، وانما سنكتفي بالتطرق الى بعض من أهمها وأبرزها مما يحضرنا هنا، وهي تمثل نموذجا ومعياراً لكلها اجمالاً، وذلك على النحو التالي:   أولاً: الإفتاء والمفتي والإمام والشيخ والفقيه: ان أخطر معول لعب دوراً رئيسياً في هدم الإسلام وتشويهه بل وتحريفه عن مقاصده وغاياته التي حددها واوضحها “القرآن الكريم”، تمثل بالفتوى والافتاء من خلال مفتيين وائمة فقه ومشائخ وعلماء او فقهاء الدين، منذ مرحلة الإسلام الأولى، التي تلت العهد النبوي الشريف والخلافة الراشدة، وحتى يومنا هذا، وازدادت نشاطاً ونفوذاً وسطوة في عصرنا الحديث والراهن وصارت أقرب ما تكون الى “المهنة” او “الصنعة” الرائجة والواسعة الانتشار بما تدره على ممتهنيها والقائمين عليها من أموال ومصالح وجاه ومكانة مرموقة من قبل السلطان والحكام وقوي النفوذ والهيمنة المتعددة التي تستفيد منها وتوظفها وتستغلها لخدمة أهدافها وسياساتها ومصالح وصراعاتها وحروبها مع الغير عبر كل مراحل التاريخ الإسلامي… والشاهد انه عندما بدأت عملية الانحراف عن دين الله القويم من خلال إقامة ما يشبه الدين الموازي او المقابل للدين الحق، على نحو ما شرحناه فيما سبق من أبواب هذا الكتاب، عمد السلاطين والحكام الذين سيطروا على الحكم وفق قانون الغلبة والقوة، نصبوا دعاة وفقهاء ومحدثين بأوامر سلطانية واجبة الطاعة والتنفيذ واسكتوا اخرين ممن يرون انهم غير قابلين للتطويع والعمل وفق رغبات ومصالح السلطان، والزموا عامة المسلمين بعدم الأخذ منهم او الاستماع اليهم فيما يتصل بأمور دينهم ودنياهم التي باتت مقصورة وحكراً على فقهاء وعلماء بعينهم حددهم الحاكم واصطفاهم، وبهم ومن خلالهم تأسست مقومات ومداميك الانحراف عن الدين الحق وافراغه من مضامينه ومقاصده وغاياته الإيجابية العظيمة، ولقد جرت هذه العملية الرهيبة بأساليب وخطوات ووسائل متقنة ومخطط لها جيداً وعلى نحو منظم ومدروس ضماناً لتحقيق الأهداف والغايات المرجوة منها على أكمل وجه ممكن، حيث احيط هؤلاء بهالات من التقديس الديني ومظاهر التبجيل والاحترام والطاعة المطلقة، وخلقت عليهم، بأشكال متعددة وكثيرة صفة العصمة عن الخطأ والزلل والقصور الإنساني الطبيعي، من خلال وبواسطة سلسلة من الروايات والاقوال والاحاديث المنسوبة، ظلماً وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحابته الطيبين الطاهرين، المصممة خصيصاً لإحاطتهم بتلك الهالات من القداسة والعصمة، كتلك التي تقول بأن “العلماء ورثة الأنبياء” وعند البعض انهم افضل مكانة ودور من الأنبياء، وتم التعسف في فهم الآية الكريمة رقم 59 من سورة النساء “يا أيها الذين ءامنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم” لتنصرف الى الطاعة العمياء والمطلقة سواء للحاكم او فقهاء وعلماء الدين، بل وصلت العملية حداً تجعل هالة القداسة لهم، في بعض الحالات، تفوق قداسة الله جل وعلا ورسله وانبيائه، ولطالما سمعنا، منذ طفولتنا الأولى، ولا نزال كذلك الى يومنا، اثناء صلاة الجمعة وخطبتيها، اقاويل وممارسات، تقال وتمارس قبل قيام “الامام” او “الخطيب” بالصعود الى المنبر لإلقاء خطبتي الجمعة، فمثلاً، اول ما يصعد الى المنبر ويلقي على المصلين تحية السلام، ويقعد جالساً، يصدح بالأذان! وبعد انتهاء المؤذن من رفع الأذان يذكر المصلين بأقوال وأحاديث يشير معناها اعلموا ان الكلام محرم حال الخطبتين فاذا صعد الخطيب على المنبر “فاسمعوا له وأنصتوا ولا تكلموا ومن تكلم فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له”!! هذا الكلام واضح تماماً بأن الكلام محرم حال الخطبتين فقط وحال صعود الخطيب على المنبر لإلقائهما وان الكلام حال القاء الامام او الخطيب للخبطتين يعتبر لغواً يبطل الصلاة! ويجب ان يسمعوا له وينصتوا، ولم يرد في هذه الأحاديث ما يشير الى تحريم الكلام واعتباره لغوا يبطل الصلاة ووجوب الاستماع والانصات اثناء الصلاة او قراءة القرآن مثلاً!! لأن المطلوب والهدف الأساسي كان إضفاء طابع القداسة والعصمة على الامام الخطيب من ناحية، واقتصار دور جموع المصلين على مجرد الاستماع والانصات لكلامه في الخطبة من ناحية أخرى حيث أي كلام، خلالها، محرم ولغو يبطل الصلاة، وبالتالي تقبل كلامه كتلقين واجب الطاعة والامتثال دون اعتراض او نقاش او استفهام، وهو امر يناقض ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده حيث كان من المصلين من يقاطع الخطيب الامام، في خطب صلاة الجمعة او خطب الصلوات الجامعة، ويستفسر ويناقش ويعترض سواء كان رجلاً او امرأة، كما هو مأثور في كتب السير! وترى جموع المصلين المسلمين في المساجد اثناء صلاة الجمعة وخطبتيها، مطأطئي رؤوسهم وكاتمي انفاسهم يستمعون كلام الخطيب او الامام بخضوع وخنوع تامين، وهكذا تتم عملية غسيل الادمغة وإعادة تشكيل المنظومة الفكرية والثقافية بالكامل وفقاً للأسس والمضامين الدينية التي يريدون بثها وتعميقها لدى المسلمين في ظل غياب الروح النقدية والعقلية الفاحصة المدققة بالاستناد والاهتداء بكتاب الله القرآن المجيد وامتثالاً للتوجيه الهي الواضح “ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً” ولكن، وعلى ضوء ما اوضحنا آنفاً، ما هو أصل وطبيعة الفتوى وما يتفرع عنها من الإفتاء والاستفتاء والمفتي والشيخ والفقيه من منظار القرآن الكريم؟ الواقع ان كلمة الاستفتاء ومشتقاتها وردت في كتاب الله العزيز القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وكلها تحدد معناها على انها عبارة عن تساؤل او استفسار عن رأي او حكم او موضوع بغرض الاستيضاح والعلم به ومعرفة جوانبه لإنهاء حالة عدم المعرفة او الجهل به من كل جوانبه او البعض منها، وفي كل المواضع التي وردت نلحظ انها على مستويات ثلاثة رئيسية: المستوى الأول: ديني: ويتعلق بالاستفتاء والسؤال حول الدين واحكامه الملزم بها المسلم، أي واجبة الطاعة والتنفيذ دون نقاش، وعن هذا المستوى نبرز الآيات التالية: –         “ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكن فيهن” النساء 127 –         “ويستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة” النساء 176 –         “وإذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعان” البقرة 186 –         “يسألك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى اكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة” النساء 152 –         “يسألك الناس عن الساعة قل انما علمها عند الله” الأحزاب 63 –         “يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج” البقرة 189 –         “يسألونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فان الله به عليم” البقرة 215 –         “يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل” البقرة 217 –         “يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما” البقرة 219 –         “يسألونك ماذا ينفقون قل العفو” البقرة 219 –         “ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير” البقرة 220 –         “ويسألونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فاذا تطهرن فاتوهن من حيث امركم الله ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين” البقرة 222 –         “يسألونك ماذا احل لهم قل احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهم مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسن الله عليه واتقوا الله ان الله سريع الحساب” المائدة 4 –         “يسألونك عن الساعة ايان مرساها قل انما علمها عند ربي يسألونك كأنك حفيٌ عنها قل انما علمها عند الله” الأعراف 187 –         “يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول” الانفال 1 –         “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ما اوتيتم من العلم الا قليلاً” الاسراء 85 –         “ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا” الكهف 83 –         “ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً” طه 105   من هذه الآيات الكريمات يتبين ان المستوى الديني من الاستفتاء او السؤال يتعلق بجلاء مسائل الدين واحكامه وفيها كلها يورد الموضوع محل الاستفتاء او السؤال الموجه لرسوله ونبيه عليه الصلاة والسلام من الناس، ثم يوجه الأمر مباشرة للرسول “قل” ثم يورد الجواب او الحكم، ان الله جل جلاله في هذه الآيات المتضمنة التوجيه الإلهي للرسول بأن يقول للناس حكم الله سبحانه وجوابه، حاصراً الحق في الفتيا والاجابات عن أسئلة ومواضيع الاستفتاء بذاته وحده جل وعلا علواً كبيراً وكأنه فيما يتعلق بأمور الدين واحكامه وآيات وآيات الله في الخلث والكون، لا يكون لأحد الحث في الإفتاء وإصدار الفتاوى بمن في ذلك الأنبياء والرسل انفسهم الا الله العليم وحده لا شريك له. ويمكن الاستنتاج، من السياق الآنف الذكر، ان إقدام البعض على اصدار فتاوى في الأمور والاحكام الدينية واطلاق لقب او صفة مفتي ديني هي “بدعة” مستحدثة في أمور الدين أدت آثارها ونتائجها وتداعياتها الى الحاق افدح الضرر بالإسلامـ وحملته كماً هائلاً من التشويهات والاساءات من حيث نسبة تلك الفتاوى الى الدين على نحو يتصادم او يتعارض في مجمله مع مقاصده وغاياته النبيلة العظيمة. المستوى الثاني؛ خليط من ديني وآيات الخلق والكون: وهو مستوى يتعلق بخليط متجانس ومترابط من قضايا الدين ومسائل آيات الخلق والكون، والآيات القرآنية المرتبطة بهذا المستوى اقل كثيراً من المستوى الأول من حيث ورود الكلمة ومشتقاتها، وان كان هناك الكثير من الآيات التي تتحدث حول ذات القضايا والمضامين ولكن ومن غير ورود كلمة الاستفتاء او السؤال ومشتقاتهما وفي هذا المستوى نلحظ الآيات الكريمة التالية: “ولا تستفتي فيهم منهم احداً” الكهف 22 وتتعلق بالمعجزة الخاصة بأهل الكهف. “فاستفتهم أهم اشد خلقاً ام من خلقنا” الصافات 11. “فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون” الصافات 149. وفي هذا المستوى نجد ان الآيات الكريمة تشير بوضوح الى توجيه الهي للرسول (ص) بأن يستفتي الناس ويسألهم، على نحو استنكاري – استفهامي، عن آيات الله الكبرى في الخلق والوجود، ووفقاً لذلك يمكننا الاستنتاج بان الله سبحانه وتعالى يحث الناس على التدبر والتأمل والتفكير من مثل هذه الآيات الكبرى لمعرفة قدرة الله تعالى وعظمته، تعزز استنتاجنا هذا آيات قرآنية وخاصة الآية: “افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم” يوسف 109. والآية: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” العنكبوت 20. وكثيرة هي الآيات التي تطالب الناس وتحثهم على التفكر والتدبر وإعمال العقل في النظر في ملكوت الله وخلقه في السماوات والأرض وما خلق الله من مخلوقات شتى والدقة المتناهية والمعجزة التي يسير عليها نظام الكون والحياة لتعزيز وتقوية ايمانهم بالله الخالق الأعظم والقائل “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق.”   المستوى الثالث؛ دنيوي يتعلق بحياة الناس وعلاقاتهم وشؤونهم: وهو مستوى عام وعادي يتعلق بسؤال الناس لبعضهم بعضاً بغرض الاستعلام عن شيء مجهول او غير معروف والانباء حول بعض القضايا الغامضة وطلب المساعدة والرأي والمشورة من قبل اهل العلم والمعرفة والدراسة بشأنها لتحقيق علم ومعرفة افضل بها، وهذا المستوى هو الشائع بين الناس والمعتاد عليه، ونعتقد بأن مجالات العلوم والمعارف والبحوث والدراسات بكافة أنواعها ومجالاتها أي مجالات التعليم والتعلم بمختلف مستوياته وتخصصاته وفروعه، تدخل ضمن اطار هذا المستوى الثالث، ونجد الكثير من الآيات القرآنية الدالة على هذا المستوى بوضوح وجلاء ونكتفي باقتباس وايراد أهمها على النحو التالي: –         “يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان…” يوسف 46 –         “يا أيها الملأ افتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون” يوسف 43 –         “قالت يا أيها الملأ افتوني في امري” النمل 32 –         “قضي الامر الذي فيه تستفتيان” يوسف 41 –         “فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون” الأنبياء 7 –         “قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك” النمل 40 –         “انما يخشى الله من عباده العلماء” فاطر 28 –         “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” الزمر 9 وواضح ان هذا المستوى من الاستفتاء والاستعلام والسؤال يتعلق بالشؤون والأمور الحياتية والعلاقات الاجتماعية والمعاملات بين البشر، ويدخل في نطاقه كافة مجالات العلوم والمعارف والدراسات والبحوث والتعليم والتعلم ومسارات التاريخ الإنساني، وهو امر مطلوب وضروري ويحث الدين عليه ويشجعه ويوجبه. وفيما عدا المستويين الثاني والثالث، فإن مسألة الفتوى والافتاء في قضايا الدين الكبرى واحكامه الموضحة في المستوى الأول آنف الذكر، لا تجوز وتعتبر بدعة مستهدفة ومدمرة للدين ومشوهة ومسيئة الى احكامه ومقاصده وغاياته، لان الفتوى في مسائل الدين هي لله تعالى وحده لا شريك له كما تشير الآيات القرآنية الواردة آنفاً وتوضح وضوحا لا لبس فيه، وهي غير جائزة ومناقضة لصريح الدين واحكامه سواء أصدرت كـ”فتوى” من مفتي حول قضية من قضايا الدين واحكامه، او جاءت الدين واحكامه سواء أصدرت ك”فتوى” من قبل أو جاءت من قبل امام  او فقيه على شكل احكام واجتهادات واوامر ونواهي تدعي انها دينية او إسلامية، سواء كانت مذاهب فقهية او مدارس وفرق فكرية وفلسفية، وهناك حديث، ان صحت روايته عن سيدنا رسول الله (ص) بليغ وحاسم يقول في ما معناه أجرأكم على الفتوى أجراكم على النار. على ان ذلك لا يعني مطلقاً، اقفال الباب امام النظر والتفكر والتدبر والبحث والدراسة في قضايا الدين واحكامه، بل على العكس من ذلك تماماً فكل ذلك مطلوب وضروري بشرط تجنب إطلاق صفة او اسم الفتوى او “المفتي” لما يخلقه ذلك من تداخل والتباس ديني، وبالمثل عدم الخلط بين المذاهب والاجتهادات الفقهية والفكرية والفلسفية وبين الدين وعدم تعمد الايهام والقطع بالتطابق بينها وبين الدين بحيث يتمم التأكيد والتوضيح الكاملين انها جميعاً اجتهادات وآراء ووجهات نظر بشرية قد تصيب وقد تخطئ في فهم الدين واحكامه ومقاصده وغاياته النبيلة العظيمة الموضحة في القرآن الكريم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى لا يحمل الدين ويلصق به أخطاء وقصور وهفوات الاجتهادات والآراء ووجهات النظر البشرية وبما يحفظ لدين الله الحق المكانة السامية اللائقة به التي تنزهه تنزيها تاماً ومطلقاً وتسمو به بعيداً عن قصور البشر واهوائهم ومصالحهم الدنيوية المتغيرة والزائلة، وما يجعل من كل تلك الاجتهادات ووجهات النظر والآراء التي تصدر عن الفقهاء والعلماء والدعاة نسبية وغير مطلقة ولا ملزمة ولا واجبة الاتباع الا لمن اقتنع بها وآمن ولا يوصم بالكفر والفسوق الارتداد من لم يقتنع بها ولم يؤمن، فالملزم والواجب الاتباع والطاعة والامتثال لا يكون الا لله سبحانه وتعالى ودينه القويم المبين في كتابه العزيز القرآن الكريم فقط التزاماً بأمر الله جل جلاله وخضوعاً لتوجيهه. ذلك ان ايهام عامة المسلمين وتزييف وعيهم وتحريفه بادعاء أصحاب “الفتاوى” والمذاهب والاجتهادات والآراء ووجهات النظر تطابقها مع الإسلام واحكامه ومقاصده وغاياته وان كل واحدة منها هي الدين والدين هي، قد اشاع وعياً زائفاً ومنحرفاً وشكل عقليات متنافرة ومتصادمة مع الدين وجوهره الحقيقي، حين حلت الفتوى محل امر الله تعالى وبات المذهب هو المعتمد والمعمول به بدل دين الله الواحد واعتبر الامام او الشيخ في مكانة أرفع وأكبر من انبياء الله ورسله فهو المرجع والمتبع وواجب الطاعة والخضوع، وبات الله وكتاب الله ورسول الله وراء ظهورنا مهجورين وشبه مغيبين والعياذ بالله… واذا ذكرتهم بقول الله سبحانه وتعالى قالوا المذهب او الامام او الشيخ يقول كذا وكذا، وان قلت لهم آمنوا بالله ورسله وكتبه واتبعوه واخلصوا له العبادة، ردوا بأن المذهب والامام والشيخ هم الهداة والادلاء الموصلين لنا الى الله تعالى ودينهـ فإن أوضحت لهم أوجه من التعارض بين ما يقوله مذهبهم وإمامهم وشيخهم وبين صحيح الدين واحكامه ومقاصده ردوا بأن كتاب الله كتاب متشابه وحمّال أوجه وما بقوله المذهب والامام دين صحيح ومحكم ودقيق وله الأولوية! فهل هناك ضلال وانحراف عن الله جل وجلاله أكثر من هذا؟! والحقيقة ان الله جل جلاله أمر بضرورة انشغال بعض الأشخاص وانصرافهم الى التفقه في الدين بهدف انذار قومهم او مجتمعهم، حين عودتهم من أعمالهم ومهامهم، حتى يتجنبوا الوقوع من حيث لا يدرون في الخطأ او الزلل ان أرادوا ذلك بعد ان يبين ويوضح لهم ماذا يقول الدين في مختلف القضايا، يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: “وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون” التوبة 122, وهذه الآية الكريمة توجه مجتمع المؤمنين ان لا يذهبوا جميعا الى الحرب والقتال، في حال التعبئة العامة، بل يفرز عدد من المؤهلين العارفين، من كل فرقة من فرق المؤمنين، أي مكوناتهم الاجتماعية، وهم معفيون من النفرة او المشاركة في القتال والحرب اذا فرض على المؤمنين، بل يبقون في ديارهم لدراسة الدين، أي كتاب الله العزيز “القرآن المجيد”، وتدبر آياته واحكامه ومقاصده وغاياته والتفقه فيها، بما يشبه، في زماننا الحالي، نظام “تفرغ العلمي”، ليبينوا ويوضحوا لقومهم، اذا ما رجعوا من القتال والحرب، لعل ذلك يجعلهم منتبهين وحذرين من الوقوع في الخطأ والزلل المخالف لتعاليم واوامر ونواهي الدين ولعل هذا الدور الذي تحدده الآية الكريمة للأشخاص الذين تقرر تفرغهم للنفقة في الدين، مقصورة من سياق الآية ومدلولاتها على أوقات التعبئة العسكرية والتوجه للحرب والقتال فقط، وما يثير في اذهاننا التفكر والتدبر والتأمل في ذلك وفي مقاصد قصر المهمة والدور لمن يتفقهون في الدين على أوقات التعبئة العامة والحرب والقتال، وذلك اذا اخذنا، في اعتبارنا، الدراسات النفسية والاجتماعية والطبية الحديثة، حول التأثيرات العميقة والتغييرات النفسية والسلوكية والعقلية التي تصيب الجنود المقاتلين في ساحات المعارك الدامية,  وكيف تحرص الدول، المتقدمة خاصة، وتعد العدة لإخضاع المقاتلين المحاربين الذين يشتركون مباشرة في المعارك المحتدمة والساخنة المتلاحمة، لعملية إعادة تأهيلهم وبنائهم نفسياً واجتماعياً ومعنوياً وعقلياً، بما يزيل من اذهانهم وعقلياتهم تلك الذكريات والانطباعات المؤلمة والمأساوية الفظيعة للقتل وسفك الدماء المخيف وانعكاساتها على عقلية وسلوك المحارب، وبما يحقق استبدالها بعقلية وسلوك إيجابي ومحب للحياة ومفعمة بالتفاؤل والامل، وفي هذه العملية السيكولوجية، يحتل الدين وقيمه ومثله واخلاقياته الإيجابية المشرقة دوراً مهماً وفعالاً في نتائج عملية إعادة التأهيل تلك، ولهذا فربما نفهم من سياق ومضمون ودلالة الآية الكريمة وقصرها على زمن الحروب ودور من يتفرغوا لمهمة النفقة في الدين وانذار قومهم، اذا رجعوا اليهم من ساحات المعارك والقتال، لعلهم يحذرون… والحذر هنا التبين والحيطة من الوقوع في الزلل والخطأ والمخالفة لأحكام وقيم الدين، تحت تأثير الانعكاسات السلبية لأجواء الحروب واهوالها النفسية والعقلية والسلوكية وكأن أولئك الذين اختاروا، واختيروا لمهمة “التفرغ العلمي” للنفقة في الدين، يماثل دورهم ومهمتهم ذات دور مراكز وعيادات إعادة تأهيل المحاربين وفروع وادارات التوجيه المعنوي والسياسي في الجيوش الحديثة بعد ان تضع الحرب اوزارها في عصرنا الحديث… واذا ما سلمنا بناء على الآية الكريمة بأن دور أولئك الذين يتفرغون لعملية النفقة في الدين بحيث يقوموا بدور النذير، لينذروا قومهم اذا عادوا الى ديارهم بعد ان تضع الحرب اوزارها، لعلهم يحذرون، فإننا لا نعتقد بأن واجب ومهمة الدعوة الى الله تعالى ودينه الحق المبين بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي احسن والتذكير والتبشير والانذار والتبين والتوضيح لأمور الدين مقصورة على أوقات التعبئة والحرب والقتال، ذلك لأننا نعتقد ان مهمة ودور التفرغ المؤقت للتفقة في الدين وانذار قومهم، حين رجوعهم من ساحات القتال، تندرج ضمن الاطار الواسع للدعوة العامة بمختلف صورها ومجالاتها المشار اليها آنفاـ اندراج الخاص في العام، ونستند في هذا الاعتقاد الى عدد كبير من الآيات القرآنية الكريمة التي تحث الرسل ومجتمع المؤمنين القيام بالدور “التوعوي” العام، من مثل: “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن” و”ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” و”انا ارسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً الى الحق وسراجاً منيراً.”، “ان عليك الا البلاغ وعلينا الحساب” وأيضا: “فبما رحمة من  ربك لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين.” و “رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل” و”ابلغكم رسالات ربي وانصح لكم” و “ان هو الا ذكر للعالمين ۞ لمن شاء منكم ان يستقيم” و “ما على الرسول الا البلاغ” و”فهل على الرسل الا البلاغ المبين” وكذلك الآية “فإن اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظاً” فالتبشير والدعوة والنذير والبلاغ والتذكير كل ذلك هو هدف رسل الله وانبيائه والناس من بعدهم بعيداً عن الاكراه والفرض والإرهاب والقمع، المهم إيصال الدعوة ودين الله تعالى الى الناس “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” وعلى الله جل جلاله الحساب والعقاب يوم القيامة… وعلى ضوء ما سبق يتضح امامنا ان الدعوة الى الله والتذكير والانذار والتبشير لا تكون ابداً الا بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن وبالقول الحسن والحسنى بعيداً عن كافة اشكال ووسائل الإكراه والعنف والترهيب والقمع، وكل فتوى او رأي صادر عمّن يسمون أنفسهم “مفتيين” او “فقهاء” وغير ذلك من المسميات تدعو وتشجع وتوجب قتل النفس التي حرم الله وازهاق الأرواح وسفك الدماء تحت دعاوى رمي الناس بالتكفير والتفسيق والمروق عن الدين وغير ذلك، انما هو خروج صريح وصارخ عن دين الله تعالى واحكامه واوامره ونواهيه وتعاليمه، بل وعدواناً صريحاً عليه وهدماً له، واشراك بالله الواحد القهار في حكمه وسلطانه وما اختص به جل جلاله لذاته فقط لا شريك له، حيث لا نجد في كتاب الله العزيز “القرآن المجيد” اية إشارة، صريحة او ضمنية، على الأطلاق يعطي فيها الله تعالى شأنه وتقدست اسماؤه لرسله وانبيائه او سائر خلقه حق قتل النفس وازهاق الأرواح وسفك الدماء بسبب الحكم او اتهام الناس بالكفر والخروج عن الدين وان الحكم في هذا الشأن والعقاب عليه متعلق حصراً وقصراً على الذات الإلهية وحدها، ولم يمنح الخلق صلاحية إيقاع عقوبة قتل النفس الا قصاصاً شرعياً بمقتضى النفس بالنفس، او الفساد العام في الأرض، بمعنى اذا عبر “الكافر” عن “كفره” باللجوء الى القوة والسلاح واصبح “محارباً” للتعبير او الانتصار لكفره عبر الحرب، وهنا ينطبق عليه حكم المحارب المعتدي وفق قوانين الحرب واعراف القتال المتعارف عليها، وفيما عدا هذين الحالين المجيز بين للقتل، قصاصاً وصداً لعدوان مسلح، فأن قتل النفس محرم تحريماً قطعياً في الدين بصرف النظر عن معتقد الانسان او ايمانه، مؤمناً كان ام كافراً…     ثانياً: الجهاد والقتال والحرب والشهادة وحور العين: ان دين الله الواحد الذي أنزله لعباده من البشر, بواسطة أنبياء ورسل كرام اصطفاهم الله واجتباهم وأعدهم وأهلهم, بمختلف الصفات والمواصفات والمقومات النفسية والعقلية والبدنية والأخلاقية, لحمل رسالاته وكتبه والقيام بمهمة عظيمة وجليلة وهي تبليغها وتعليمها للبشر, على اختلاف المراحل والأزمان التاريخية, منذ بدء الخليقة وحتى نزول الرسالة الخاتمة لدين الله الواحد المتمثلة برسالة القرآن بواسطة رسوله ونبيه الخاتم للأنبياء والرسل محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, ختماً وإكمالاً لرسالات الله تعالى وكتبه السابقة عليها بواسطة الرسل والأنبياء السابقين عليه, وخاصة منها “التوراة” التي حملها نبي الله ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام ليبلغ بني اسرائيل بها, ومن بعدها الزبور على يد داوود عليه الصلاة والسلام, ثم “الانجيل” على يد نبي الله ورسوله عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام, لتبليغها “بني اسرائيل” أيضاً.. ان دين الله الخالق الأعظم الواحد والمتعدد في رسالاته وكتبه ورسله وأنبيائه, كان هدفه المحوري, كما بينا وأوضحنا ذلك في الباب الأول من هذا الكتاب, هداية البشر جميعاً إلى صراط الله المستقيم الساعي الى امامة حياة انسانية قويمة كريمة عادلة ليعيشوا فيها وبها تحت ظلها بالقسط, قال تعالى: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”. حياة تكفل للإنسان الكرامة والعدالة والأمن والأمان والتعاون والتكافل والحرية والمساواة, وتنتقي منها أسباب وعوامل الظلم والطغيان والقهر والاستعباد والجور والشرور والمفاسد, هذا هو الهدف الاستراتيجي لدين الله الواحد, بعيداً عن التفاصيل التي اشرنا إلى أهمها في سياق الباب الأول المشار اليه, وهذا الدين الواحد الذي انزله الله الخالق الأعظم, اطلق عليه الله جل جلاله اسم أو صفة “الاسلام” كما توضح آيات القران الكريم, بمعنى أن جميع انبياء ورسل الله وجميع الرسالات التي انزلها الله عليهم جميعاً تندرج ضمن دين الله الواحد اي “الاسلام” وجميع أولئك الانبياء والرسل الكرام هم “مسلمون” , و”الاسلام” يعني من المدلول اللغوي للكلمة أنه التسليم لله وحده والخضوع له بالعبادة وبالعمل بإحكام وتعاليم دينه, ويهني كذلك “السلام” و”السلم” بكل ما يتضمنه من أمن وأمان واستقرار وطمأنينة… الخ, وبغض النظر عن التسمية, التي قد تخلق لبساً والتباساً وسوء فهم, دعونا نتفق على التحدث عبارة بصفة “دين الله الواحد” ليشمل كل رسالاته وكتبه ورسله كافة التي يلزمنا الله سبحانه ويأمرنا بالإيمان بها وبكل الأنبياء والرسل الكرام الذين ارسلهم الله تعالى الى البشر تترى في فترات متباعدة من التاريخ المدون بين نوح ومحمد عليهما وعلى بقية الرسل الكرام الصلاة والسلام… ان الأصل الأول والقاعدة الأساسية في دين الله الواحد, تدور وتتمحور حول نقطة ومحور واحد يقضي ويؤكد على حماية الحياة وقدسية النفس الانسانية والحفاظ عليها بتحريم كافة أشكال انتهاكها وتدميرها إلا في حالات محددة تحمي وتصون النفس الانسانية وتحافظ عليها كعقوبة القصاص الشرعي “النفس بالنفس” وكل قاتل نفس يقتل إلا إذا عفي عنه من قبل أولياء دم المقتول, وأيضاً كالحرب والقتال لصد وايقاف الحروب والقتال العدواني المدمر للحياة العامة والسلام والأمن والأمان والاستقرار, والكف عنه ووقفه اذا انتهى العدوان المسلح وتوقف المعتدي وجنح للسلم والسلام. أو في حالة ثالثة كأن تقوم جماعة أو فئة منحرفة ومتجبرة تعبث في الأرض فساداً أو افساداً مدمراً وشاملاً يهلك الحرث والنسل  ويدمر قواعد وتوازن البيئة والحياة البرية والحيوانية والزراعية وغيرها, بما يهدد بقاء واستمرار الجنس البشري بالقضاء على مقومات وقوانين وشروط بقائه واستمراره ونموه, ففي حالة كهذه تسعى الى التدمير والتخريب الشامل للحياة, فإن مواجهتها وقتالها واجب حياتي الى ان يتوقف الفساد والافساد في الأرض والتخريب والتدمير العشوائي الشامل, وواضح ان الهدف من هنا المحافظة على الحياة والبيئة وتوازن الطبيعة الضرورية لبقاء واستمرار الجنس البشري. وهناك حالة رابعة نتبينها من سياق الآيات القرآنية, وهي وجوب القتال ضد الظلم والطغيان والاستعباد والاضطهاد والتسلط الاجرامي على أية جماعة إنسانية مقهورة ومستضعفة بقوة السلاح وجبروت القوة المعتدية من قبل جماعة انسانية أخرى تملك وتتفوق على الأخرى في أسباب ووسائل القوة والقدرة التي تجعلها تدوس وتضرب بعرض الحيط بكل القيم والقوانين والاعراف الانسانية المتعارف عليها في تجريم العدوان والطغيان والسيطرة على الآخرين واستعبادهم وقهرهم والغاء آدميتهم وحقهم في الحياة الانسانية الكريمة بالحق والعدل, وقد أوجب الله تعالى على المؤمنين بدينه الواحد على أن يهبوا ويقاتلوا الفئة الظالمة القاهرة المعتدية نصرة للمقهورين والمستضعفين والمظلومين الى أن يزاح عن كاهلهم وحياتهم القهر والاستعباد والظلم والطغيان ويستعيدوا حياتهم الحرة الكريمة حياة الحق والعدل والسلام, بغض النظر عن جنس وعرق وعقائد اولئك المظلومين المقهورين, وفي هذه الحالة تحديداً فان الآية القرآنية واضحة تمام الوضوح ومحددة وحاسمة اذ تقول موجهة الخطاب والسؤال الاستنكاري بالقول: “فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيما  ۞ ومالكم لا تقاتلوا في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً نصيراً ۞ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفاً ۞” النساء . واضافة الى هذه الحالات الاربع الموجبة للقتل او القتال, هناك حالة خامسة تتعلق أولاً بالسعي الى الصلح بين فئتين متقاتلين من المؤمنين, وبعد الصلح فيجب مقاتلة الفئة الباغية حتى تكف عن بغيها وتوقف عدوانها وحربها ضد الأخرى, فإن كفّت وعادت الى السلام, فاسعوا الى الصلح بينهما بالعدل والقسط, والهدف الواضح في هذه الحالة يتمثل في حفظ السلام والاستقرار والأمن والأمان ووقف الحرب والعدوان, والآية القرآنية المتعلقة بهذه الحالة واضحة, هي الأخرى, تماماً محددة وحاسمة اذ تقول موجهة الخطاب لجماعة المؤمنين: “وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهم فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ان الله يحب المقسطين ۞ انما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون”. وهكذا يتضح أمامنا جلياً ان الحالات الخمس التي استعرضناها آنفاً وهي الحالات التي تشرع وتوجب القتل والقتال, كلها جميعاً توجب القتل والقتال المشروع طريقاً اضطرارياً لحماية الحياة وصيانة النفس الانسانية ونصرة المستضعفين ووقف الحروب والقتال العدواني الغاشم وإزالة الظلم والقهر والاستعباد والطغيان, وكلها تحقق في المحصلة النهائية فرص حالة السلام والامن والأمان والاستقرار باعتبارها موجدة ومحققة للمناخ والبيئة الصحية الملائمة للتطور والتقدم والرقي الانساني عامة. وهذا هو بالتحديد الهدف المحوري الابرز لدين الله القويم والمقصد منه والغاية الكبرى له على الارض, ويتعزز هذا الاستنتاج ويتأكد من خلال وعبر الكثير من الآيات القرآنية ونكتفي, فيما يلي بذكر بعضها: ·        “واذا اخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وانتم تشهدون ۞ ثم انتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم افتأمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ۞ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون” البقرة 84-86. ·        “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان” المائدة 2. ·        “وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي اليه تحشرون” المجادلة 9. ·        “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين” البقرة 90. ·        “ان الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي” النحل 90. ·        “اذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان” المجادلة 9. ·        “القيا في جهنم كل كفار عنيد ۞ مناع للخير معتدٍ مريب” ق 24-25. ·        “قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وابنائنا” البقرة 246. ·        “وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة” التوبة 39. ·        “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير ۞ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله” الحج 39-40. ·        “وجزاء السيئة مثلها فمن عفا واصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين ۞ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ۞ انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق” الشورى 40-42. ·        “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما” النساء 39. ·        “ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله الا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا” الإسراء 33. ·        “من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” المائدة 32. ·        “ولا تقتلوا أولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهم” الأنعام 151. ·        “واقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ۞ فان انتهوا فإن الله غفور رحيم ۞ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فان انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين” البقرة 191-193. ·        “فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم وكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناُ مبيناً” النساء 91. ·        “فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله ان يكف بأس الذين كفروا والله اشد بأساً واشد تنكيلا” النساء 84. ·        “الا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهو بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين” التوبة 13. ·        “والله يدعوا الى دار السلام” يونس 25. ·        “يا ايها الذين آمنوا اذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن القى اليكم السلم لست مؤمناً تتبعون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة” النساء 94. ·        “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ان لكم عدو مبين” البقرة 208. ·        “وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله” الانفال 61. ·        “فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا اليكم السلم فما جعل الله عليهم سبيلا” النساء 90. ·        “يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام” المائدة 16. اذن القاعدة في دين الله الاسلام هو السلام والسلم وتحريم العدوان والاستجابة لداعي السلام دائماً, والاستثناء هو القتال والحرب والجهاد في الحالات الخمس التي ذكرناها آنفاً في هذا السياق. ومع ذلك, ورغم الوضوح التام والتحديد والحسم الكاملين لمئات الآيات القرآنية التي تحث على السلام ومنع الحروب والاقتتال الا بهدف الحفاظ على السلام ذاته, والتي تؤكد على تحريم الاكراه في الدين والنهي عنه من حيث تبين بشكل نهائي طريق الرشد وطريق الغي وان الانسان حر تماماً في اعتقاده ايماناً أو كفراً, كما اوضحناه كثيراً في سياق هذا الكتاب, ونهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن اكراه الناس وحملهم على الايمان خلافاً لمشيئة الله سبحانه وتعالى وسنته في خلقه, رغم كل ذلك ونقضاً له .. فإن الاسلام الدين القيم قد تعرض, على مدى مراحل زمنية طويلة, لحجم هائل ومتراكم من التشويه والاساءة البالغة, بل والتحريف الفاضح, وخاصة ازاء مسائل القتال والحرب والجهاد وحرية الاعتقاد المكفولة للإنسان منن الله سبحانه وتعالى ليتحمل وزر اختياره وتبعاته ثواباً أو عقاباً, وتم تحريف وتشويه ونسف كل هذه الأسس والمقومات التي قام عليها الاسلام برمته وبني عليهما وتمحور حولها, وذلك بشتى الصور والأساليب المدمرة من تأسيس وبناء دين آخر مختلف وموازٍ لدين الله الحق ومتعارض معه بالإجمال فيما سمي ظلماً “السنة النبوية” بتدوين واختلاق مئات الآلاف من الأحاديث والأقوال والمنسوبة للرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام, ومروراً بالتقول على الله جل جلاله وكتابه العزيز “القرآن المجيد” بالادعاء بان مئات الآيات القرآنية المتعلقة بالإكراه في الدين وحرية اختيار واعتقاد الانسان ايماناً أو كفراً, كموجب ومسوّغ منطقي وعادل لما يتحمله او يصيبه جراء اختياره الحر ذاك من ثواب أو عقاب يوم القيامة يوم الحساب الالهي مطلق العدل, بأنها كلها, وهي الآيات كما قلنا آنفاً وخاصة في الباب الثاني من هذا الكتاب, تشكل عمود الدين وقطبه ومحوره الذي يدور حوله الدين كله, قد نسخت بما سموها “آية السيف” التي يقولون بأنها “نسخت لفظاً وبقيت حكماً”! هذا أولاً, وبعده راحوا يكثفون من حملاتهم واصداراتهم وكتبهم وخطابهم التي هدفت الى “اختزال” الدين كله – تقريباً – وحصره بمسألة الجهاد الذي حشروه وفسروه تفسيرات قسرية ومغلوطة بانه يعني الحرب والقتال فقط في سبيل ومن اجل نشر الدعوة الى الدين بحد السيف! ذلك “السيف” الذي قالوا ان آيته القرآنية المنسوخة لفظاً والباقية حكماً قد نسخت الدين والقرآن الكريم في مجمله وجوهره, وجرت عملية تضخيم ومبالغة هائلة لمكانة الجهاد بمعنى القتال والحرب حتى بات يعلو ويسمو  كثيراً على كافة الفرائض الدينية من عبادة الله تعالى صلاةً وذكراً وصياماً وزكاةً وحجاً… الخ, بل وصل الأمر حد اعتبر فيه انخراط “المسلم” في الجهاد, الذي هو القتال والحرب بمختلف صوره وأشكاله, مكفراً له عن سيئاته وذنوبه حتى جرائمه وموبقاته, ليس مكفراً عن ما تقدم من الذنوب وما تأخر فحسب, بل جعلوا الانخراط في ذلك الجهاد مجيزاً لارتكاب “المجاهد” في سبيل الله! افعالاً وممارسات هي من المحرمات المنهي عنها قطعياً في احكام الدين وتعاليمه كالزنا والشذوذ الجنسي تحت مسمى عجيب و غريب وهو “جهاد النكاح” أو “جهاد المناكحة”, حيث صارت كل فتاة من “المسلمات” تبيح نفسها وجسدها في كل مرة, لطابور من المجاهدين يتراوح عددهم ما بين 12-20 “مجاهد” الذين يتعاقبون عليها الواحد تلو الآخر, وعلى هذا المنوال جوز بعض من “مفتيي” الجهاد ان يحشو “المجاهد” دبره بأصبع من المتفجرات ليفجر نفسه وسط جموع من الناس الأبرياء العزل الآمنين وفيهم نساء وأطفال وعجزة, وقال بعضهم انه من حيث “ما لا يتم الواجب الا به فيجب كوجوبه”! ومن اجل توسيع فتحة الدبر فلا بأس للشيخ أن يمارس الفاحشة مع المجاهد الى ان يتوسع دبره بما فيه الكفاية لحشوه بأصبع المتفجرات شديدة الانفجار!! وجوزوا “للمجاهدين” ان ينهبوا أموال الناس ويسرقوها بالقوة باعتبار المجتمع “كافراً” واباحوا القتل واختطاف النساء وممارسة الجنس معهن بالإكراه باعتبارهن من “سبايا” الحرب أو الجهاد!! واباحوا لأنفسهم قتل الناس بعد محاكمة هزلية بدعوى الكفر والخروج عن الدين والارتداد.. الخ!. هذا القتل والتقتيل وازهاق الأرواح وسفك الدماء والارهاب والتدمير والجرائم والموبقات والانحرافات التي تتخلله وتصاحبه, على نحو ما اشرنا, وتحت مسمى “الجهاد في سبيل الله” تنسب, للأسف, الى دين الله جل جلاله وتعاليمه السمحة والعظيمة, ويستندون الى روايات واحاديث واقوال منسوبة, ظلماً وزوراً, للرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام, ويعتبرونها وحياً أوحى به الله سبحانه للرسول تماماً كالقرآن بل وأعظم منه والحاكم عليه, والأمثلة كثيرة عليها نذكر منها حديثاً يقول فيه الرسول (ص) ما معناه: “أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله فان قالوها فقد عصموا عني دماءهم واموالهم”! وحديث آخر يقول ما معناه: “يا معشر قريش لقد ارسلت اليكم بالذبح”! وهو الحديث الذي استند عليه اولئك المجرمون وقادتهم في ذبح الناس من قفاهم كما تذبح النعاج بل واسوأ وابشع من ذبح النعاج! هذا في حين اننا لا نجد – على الاطلاق – في كتاب الله العزيز “القرآن الكريم” ولا مما تواتر من سيرة الرسول الأعظم (ص) اية اشارة او الماحة, من قريب او بعيد, الى ان الله جل جلاله وتعالى شأنه وتقدست أسماؤه قد أمر رسوله الكريم بقتال الناس لإكراههم على الايمان بالدين, ولا انه صلى الله عليه وسلم قد ارسل الى الناس ذباحاً أو جزاراً لهم كما تذبح النعاج واسوأ! واذا ما حاججتهم بهذه البينات الواضحة القاطعة قالوا حديثاً آخر يقول في معناه عن الرسول! الا اني أوتيت القرآن ومثله معه, وفي رواية أخرى ومثيلة! ويحيلون الى كتاب الدين الآخر الموازي المتضمن لما نسب الى رسول الله عليه الصلاة والسلام من روايات واقاويل واحاديث, ما انزل الله بحفظها من سلطان! والجهاد والقتال في سبيل الله, كما نفهمه من سياق ومضامين ودلالات آيات القرآن الكريم, وما نعلمه مما روى عن سيرة الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه, ومن رسالات رسل الله وانبيائه الكرام جميعاً, له مفهوم معنى ونطاق واسع ومتعدد المجالات والأساليب والأشكال والغايات, وهو مفهوم ومعنى ونطاق يمتد ويتسع ليغطي ويشمل كل تعاليم واوامر ونواهي وقيم وأخلاقيات وسلوكيات الدين كله, فالالتزام والعمل بها والدعوة اليها بالحسنى والحكمة واللين, وهي تشمل كل اعمال الخير والبر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اطار التوجيه الالهي “وقولوا للناس حسناً” وعبادة الخالق وطاعته ورفض الظلم والعدوان والطاغوت بكل صوره واشكاله ومقاومته والتصدي له واعمال الاحسان والعطف ورعاية المحتاجين والضعفاء ومساعدة الفقراء والمساكين والحنو على الأهل والأقارب وطاعة الوالدين وقول الحق وعدم ممارسة الكذب والزور وعدم قتل النفس التي حرم الله الا بالحق والالتزام, قولاً وعملاً, بمكارم الأخلاق والسلوكيات القويمة, وطلب العلم ومحاربة كل اشكال الفساد والافساد والرذائل والانحرافات الأخلاقية وكل ما حث الدين وأمر به عبادة, يندرج ضمن اطار “الجهاد والقتال في سبيل الله” بالمفهوم والمعنى والنطاق الواسع له, واما الجهاد والقتال في سبيل الله بالمفهوم العسكري الحربي فلا يجوز القيام به الا في حدود ونطاق الحالات الخمس التي حددناها وفق كتاب الله تعالى واشرنا اليها آنفاً فقط, فلا تمثل الا جزءاً صغيراً من المفهوم والمعنى والنطاق الواسع للجهاد والقتال في سبيل الله, اهتداءً والتزاماً, بكتاب الله وآياته المبينات, وتأكيداً لما روى, في سيرة الرسول الأعظم (ص), ان صدقت الرواية والتي يقول في معناها: “خرجنا من الجهاد الأصغر, ويقصد الحرب دفاعاً عن النفس وصداً للعدوان, الى الجهاد الأكبر”, ويقصد به جهاد النفس, وهو الأساس والأشق والأصعب والأطول مدى وأثراً, ذلك لأن الحروب, وان اقتضتها الضرورة, الا انها عمل سلبي ومدمر, اما الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس فهو عمل ايجابي بناء منتج ومثمر ونام ابداً.. ولا شك أن تحول مفهوم المجتمع أو الدولة, تجاوزاً وفق النموذج الشوروي الشعبي المباشر, كما رسمته “صحيفة المدينة” التي كتبها الرسول (ص) عقداً واتفاقاَ مع مجتمع المدينة المتعدد الأعراق والديانات, إلى ما سمي بالملك العضوض وسلطة الدولة الامبراطورية القاهرة والمتسلطة ابتداء من الدولة الأموية فالعباسية والدول والممالك المتعاقبة من بعدهما, قد رعت وشجعت وسعت الى اعلاء شأن الجهاد والقتال في سبيل الله وتضخيمه وقصره على القتال الحزبي العسكري المسلح, واعتباره الاساس الأول والأكبر للدين, وزخرفوا للناس وزينوا لهم بان الدين من يقتل فيه يعد شهيداً بكم هائل من الأحاديث والأقاويل بان الملائكة تغسله وتحفه وتسوقه رأساً الى الجنة حيث تنتظره “سبعين” من “حور العين” وهنّ, كما صوروهن في الروايات من الحسناوات الجميلات الابكار اللائي لا عين شاهدت لهن مثيلاً, ليغوص معهن في بحر من المتع والملذات والشهوات الجنسية, وغير ذلك من الروايات والاقاويل كلها تهدف الى دفع المقاتلين بأعداد هائلة للقتال من اجل تلك الدول والممالك التي تحمل صفة “الاسلام” والتعبير عنه والجهاد في سبيله في غزواتها وحروبها وفتوحاتها التوسعية في محيطها الجغرافي العالمي, والتي لا علاقة لها ولا رابط بالدين وطبيعته ومقاصده وغاياته باعتباره دين هداية للإنسان الفرد ومنه للمجتمع وبناء للإنسان المثالي والمتكامل ايمانياً واخلاقياً وسلوكياً ومنه كذلك الى المجتمع, فقد أوضحنا في سياق الباب الثالث المتعلق بالدين ورؤيته للسياسة والدولة وما يتصل بهما, ان السياسة وشئونها وممارستها, والدولة من حيث طبيعتها وشكلها ووظائفها وعلاقاتها وأسسها, مسألة تتعلق بالناس والاتفاق والتوافق بينهم بالشورى حول مسائل السياسة والدولة, ولا علاقة لهما بالدين ولا ينبغي اقحام مشكلاتها وشئونها وخلافاتها وصراعاتها ومؤامراتها والطابع اللاأخلاقي الذي يتخلل ادارة دفة شئونها وخططها في الغالب الاعم, بالدين الذي ينبغي اعلاءه وتنزيهه عن دهاليز ومستنقعات السياسة والدولة واحوالهما المتقلبة والمليئة بالأخطاء  والتجاوزات والجرائم, ليظل الدين مترفعاً متعالياً هادياً للعالمين ومرتقياً بالبشر الى ارقى درجات السمو الأخلاقي والاستقامة والنزاهة والتضحية والايثار والخير, فللسياسة والدولة مجالهما وميدانهما وللدين مجاله وميدانه ومن المضر والمدمر, استغلال الدين وتوظيفه لخدمة وتحقيق مصالح دينوية متصارعة والسياسة والدولة تقيم في نجاحهما واستقامتها بمدة قربها او بعدها من الدين وتعاليمه واحكامه وقيمه الأخلاقية والسلوكية دون ان نوحد ونطابق بينهما فنحمل الدين أوزارهما ومساوئهما وتجاوزاتهما المريعة والمفزعة في غالب الأحيان.. وهكذا ينبغي النظر الى تلك الغزوات والحروب والفتوحات التوسعية على انها من سياسات وحسابات الدولة ومقتضياتها فحسب, وليس للدين أي علامة بها حتى لا نحمل الدين ظلماً وعسفاً, ما رافق تلك الحروب والغزوات والفتوحات من جرائم وممارسات بشعة ومقززة لا يقرها دين ولا انسانية. ولست أدري ماهي الاسانيد والحجج التي استند عليها أولاً من حيث تسمية من يقتل في سبيل الله “شهيداً” ففي القرآن الكريم ترد كلمات الشاهد والشهيد والمشهود والشهادة وباقي الاشتقاقات اللغوية للكلمة بمعنى مشاهدة الشيء ورؤيته رأي العين ومعرفته والتحقق منه والادلاء بشهادة حوله وبشأنه اما من يقتل في الجهاد فيسمى في القرآن “من يقتل في سبيل الله” فيعتبر حياً عند ربه يرزق ولا نقول عنهم او نحسبهم امواتاً بل أحياء, هذا هو القرآن وحكمه, وثانياً كيف صوروا “حور العين” على انهن فتيات جميلات حسناوات معدات ومهيئات لاستقبال “الشهيد” المقتول الذي ينبري على الفور لممارسة “الجنس” معهن, اي مع السبيعين منهن المخصصات لكل شهيد, والمعلوم لدينا جميعاً ان “الجنس” أو الممارسة الجنسية عملية يمارسها “ثنائي الخلق” ذكر وأنثى بالتزاوج للتوالد والتكاثر وحفظ النوع الانساني من الانقراض في الحياة الدنيا, قال تعالى: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا” النساء 1, لكن القيامة والحياة الآخرة سماها الله سبحانه وتعالى “يوم الحساب”, وفيها يثاب المحسن على احسانه ويعاقب المسيء على اساءته, ويوفي كل انسان حسابه يوم القيامة بالعدل الالهي المطلق, ولما كان التزاوج علاقة دينوية هدفها التكاثر وحفظ النوع, فان هذا الهدف بنتفي يوم القيامة تماماً وبالتالي لم أجد في كتاب الله تعالى ان هناك في الآخرة تزاوج بين البشر وممارسات جنسية, مما عرفناه في الحياة الدنيا, لانتفاء هدفها, حيث ان الهدف في الحياة الآخرة هي للحساب والعقاب والجزاء والثواب على اعمال الانسان في حياته الدنيا وليس لممارسة الجنس على ذلك النحو الغرائزي الشهواني الدنيوي!! وليس هناك ما يسند تأويل البعض لحور العين على انهن فتيات لممارسة الجنس على الاطلاق, ففي الحياة الآخرة هناك قوانين وتركيبات ومكونات اخرى مختلفة تماماً عما عرف في الحياة الدنيا قال تعالى: “يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات” وتركيب جسم الانسان الذي أساسه “الطين والماء” ليتناسب ويتلاءم مع عيشه ودوره على الأرض, وليس هناك ما يشير الى ان تركيبه الفيزيائي البيولوجي هذا في حياته الدنيا سيبقى هو نفسه في الحياة الآخرة المختلفة تماماً عن الحياة الدنيا, قال تعالى عن ساكن الجنة: “فقلنا يا آدم ان هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكم من الجنة فتشقى ۞ ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى ۞ وانك لا تظمأ فيها ولا تضحى” طه 117-119, واذن كل ما يتعلق بالآخرة من حقائق وقوانين وطبيعة وتركيب وأحاسيس واحتياجات … الخ, يختلف تماماً وكلياً عنها في الحياة الدنيا, وبالتالي فان تصور الآخرة وفقاً لمقاييسنا وحقائقنا الدنيوية هو وهم وخيال وتشبيه في غير محله في كل شيء, والله أعلم.. ثالثاُ: بدعة “الناسخ والمنسوخ” في كتاب الله العزيز: وعلى ضوء ما سبق ذكره في سياق الباب الثاني من هذا الكتاب الذي يدور حول عوامل وأسباب الابتعاد أو الانحراف عن دين الله القويم ومقاصده, وقد أوضحنا كيف ان الحكام والملوك المتسلطين والقوى المتصارعة حينما وجدوا صعوبة بل وشبة استحالة للتلاعب وتحريف كتاب الله العزيز, القرآن المجيد, الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه, واتجهوا لتحقيق اهدافهم ومرامهم في التسلط وضمان مصالحهم ومطامحهم واهوائهم الدنيوية لتأسيس وصياغة “دين” آخر موازي عبر ما اسموه بكتاب “السنة” اي احاديث بمئات الآلاف صاغوها ونسبوها للرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام واعتبروها كالقرآن كلام الله سبحانه الموحى الى رسوله واشترطوا للاعتراف بإيمان المسلم أن يؤمن بكتاب الله وكتب “السنة” معاً باعتبارها دين يتعبد به, واضافة الى ذلك المعول الهدام بقيت هناك حاجة في انفسهم وميل للمساس بقدسية وسلامة كتاب الله تعالى “القرآن المجيد” واخترعوا مسألة او “بدعة” الناسخ والمنسوخ كمعول هدم آخر واداة أخرى لتحريف كتاب الله العزيز!! وخلاصة قولهم فيها وحولها ان آيات وسور القرآن الكريم فيه آيات “ناسخة” وآيات أخرى “منسوخة” بمعنى آخر ان هناك آيات نسخت آيات قرآنية اخرى, مستندين في دعاواهم وحججهم الى آية النسخ الواردة في القرآن الكريم, غير انهم في دوامة لا متناهية من الخلاف والاختلاف والتباين, حول التحديد الواضح لعدد وماهية, الآيات “الناسخة” وعدد وماهية الآيات “المنسوخة” التي قاموا بنسخها, منهم من قال بان الآيات الناسخة ثلاثاً, وآخرين قالوا بأنها ست آيات وفريق ثالث ورابع قالوا سبعاً وتسعاً وهكذا, ونفس الحال بالنسبة للآيات “المنسوخة”, وقالوا من ضمن ما قالوه في هذا الصدد, على سبيل المثال, ما يلي: 1-    ان “آية السيف” هكذا سموها, ولعلهم يقصدون بها الآية الكريمة “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون يدن الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون” التوبة 29, ولعلها الآية الكريمة: “فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً” النساء 91, او لعلها الآية الكريمة: “فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً” النساء 89, وقالوا بأن آية “السيف” هذه قد نسخت كل الآيات التي يلزم الله جل جلاله المسلمين المؤمنين بمعاملة اتباع الديانات والمعتقدات الأخرى بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة وباللين ونهى عن قتالهم والعدوان عليهم وذلك انفاذاً للآية الكريمة “لكم دينكم ولي دين” وكثير من الآيات الدائرة حول النهي عن قتال من لم يقاتل المؤمنين وتحريم العدوان والاعتداء والتعاون بين الجميع بالبر والتقوى لإقامة حياة القسط والعدل بين الناس كافة… الخ,  كما نسخت إضافة الى ما سبق, مئات الآيات القرآنية التي تنهى عن الاكراه في الدين وحرية الانسان في الاعتقاد ايماناً او كفراً وان ما على الرسل والانبياء الا البلاغ وعلى الله تعالى الحساب… الخ. 2-    ان “آية الرجم” هكذا سموها التي, بحسب زعمهم, نسخت “لفظاً” وبقيت “حكماً” بالنسبة للزانية والزاني المحصن, اي المتزوجين, والتي قالوا ان نصها كان “والشيخ والشيخة فارجموهما البتة”! قد نسخت آية الجلد او اضافت اليها حكماً آخر برجم الزانية والزاني المحصن, مع بقاء حد الجلد الوارد في الآية حكماُ مقصوراً على الزانية والزاني غير المحصن اي غير المتزوج, اي “العزب”! 3-    ان آية “تحريم الخمر”, ولعلهم يقصدون بها الآية التي تقول “انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه” المائدة 90, قد نسخت وأبطلت ما تضمنته الآيتان الأخريتان حول الخمر, “قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس” البقرة 219, والآية “لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون” النساء 43. 4-    وان آية “الولاء والبراء” في الله قد نسخت الآيات الكريمة المتلقة بحسن معاملة الوالدين وذوي القربى وصلة الأرحام بغض النظر عن ايمانهم من عدمه وخاصة الآية الكريمة “ووصينا الانسان بوالديه حسنا وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لم به علم فلا تطعهما اليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنت تعملون” العنكبوت 8, والآية: “وان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من اناب اليَّ ثم الي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون” لقمان 15. ولو اخذنا بمزاعم هؤلاء القائلين بالناسخ والمنسوخ لنسخنا كتاب الله “القرآن الكريم” نسخاَ وأفرغناه من الغالبية الساحقة من مضامينه وتعاليمه السامية العظيمة, ولما بقى منه الا قليل من آيات القتل والقتال والجهاد والحرب… الخ, ولم يقتصر الأمر على الآيات القرآنية الناسخة والمنسوخة فحسب, بل ذهبوا كما أو ضحنا ذلك تفصيلاً في سياق مناقشتنا في الباب الثاني من هذا الكتاب بان جعل بعض الأئمة والفقهاء والمحدثين من بعض “الأحاديث” المنسوبة ظلماً للرسول الأعظم (ص) و”السنة” عموماً ناسخة لآيات قرآنية في كتاب الله العزيز, وجعلهم لما سموه بالسنة النبوية تلك حاكمة على “القرآن الكريم” ومهيمنة عليه وليس العكس كما يجب أن يكون!! فما هي قصة “الناسخ والمنسوخ” وماهي اسانيدها ودعاواها؟! لقد وردت كلمة “نسخ” ومشتقاتها في مواضع أربعة او اربع مرات فقط, في كامل “القرآن الكريم” وبمعان واستخدامات مختلفة ومتباينة وهي: 1)    الآية: “ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها او مثلها الم تعلم ان الله على كل شيء قدير” البقرة 106. 2)    الآية: “وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم  ۞ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ان الظالمين لفي شقاق بعيد ۞ وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادِ الذين آمنوا الى صراط مستقيم” الحج 52-54. 3)    الآية: “هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون” الجاثية 29. 4)    الآية: “ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الألواح وفي نسختها هدىً ورحمةً للذين لربهم يرهبون” الاعراف 154. وفي كل هذه المواضع الاربعة التي وردت كلمة “نسخ” ومشتقاتها في القرآن الكريم, لا نجد فيها على الاطلاق, على انها تدل من حيث مدلولها اللغوي على معنى الاتيان أو ايراد شيء او حكم او نص ما, ثم نسخه بمعنى ابطاله او الغائه واستبداله بشيء او حكم او نص آخر بدلاً عن الأول, ففي الآية الأولى يقرر الله سبحانه وتعالى حكماً او قاعدة مؤداها بان الله تعالى لا ينسخ من آية أو ينسها فإنها يأتي بخير منها أو مثلها وذلك انطلاقاً من علمنا وايماننا المسبق بان الله على كل شيء قدير.. ولا نجد في هذه الآية الكريمة ومدلولات الفاظها وسياق ورودها في سياق النص, على الاطلاق, ما يشير أو يدل على ان كلمة “ما ننسخ من آية او ننسها” مقصود بها “نسخ” بمعنى ابطال أو الغاء أو استبدال “نص” آية من آيات “القرآن الحكيم” بآية أحسن أو أخير منها أو مثلها أو شبيهة لها, فكلمة “الآية” و “الآيات” وردت مئات المرات في “القرآن الكريم” التي تتكون منها “سور” القرآن الكريم”, وانما بمعنى “المعجزات” والأشياء الخارقة للعادة, وبديع صنع الله في “آيات” و “ألاء” الله الخالق الاعظم في الكون وخلق الحياة والمخلوقات والعبر والدروس المستخلصة من تجارب البشر في مختلف المراحل, فمثلاً الشمس والقمر والنجوم والسماوات والارض والجبال وخلق الانسان والحيوانات وما تنتج الارض والبحار والماء النازل من السماء, ومعجزات الأنبياء وخوارقهم التي انزلوا بها لإقناع أقوامهم, وناقة صالح وعصا موسى ومعجزاته وخلق عيسى بن مريم والحياة والموت والبعث, وعاقبة ومصائر الأقوام التي بادت, ونجاة فرعون ببدنه واغراق قومه, وفلق البحر بعصا موسى وضربه بالحجر لتنفجر منه اثنتي عشر عينا للشرب وأهل الكهف, وغير هذه كثير تعبر عن عجائب وصنع الله البارئ المصور اذ تقول الآية الكريمة: “سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” فصلت 53, وعلى ضوء كل هذا فان الآية الكريمة: “ما ننسخ من آية أو ننسها… الخ” تتحدث عن قدرة الله تعالى شأنه الذي هو على كل شيء قدير, وعلمه المطلق اللامتناهي  في الزمن والمدى, من حيث صنع الآيات الكونية وعجائب الحياة والخلق او نسخها او انساءها وتثبيتها وامضاءها هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان معنى “النسخ” لا يعني بالضرورة الغاء وشطب ومحو واحلال شيء آخر بدلاً عنه, اذ يحمل المعنى أيضاً التكرار أو التسجيل أو التوثيق, كما أن الكلمة “ننسها” لا تعني بالضرورة “الاهمال” أو “النسيان” بل تتحمل معاني ومدلولات أخرى أهمها “الزيادة” على غرار كلمة “النسيء” أو “النسية” ومعناهما الزيادة أو الحفظ, والآية الثانية تتحدث عن الرسل والأنبياء قبل رسول الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: “وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم” وفي سياق ومدلول نص هذه الآية الكريمة يتضح أن كلمة “ينسخ” هنا تأتي بمعنى “الإبطال” و “الإلغاء” أو “المحو” لما يلقيه الشيطان في أمنية رسول ونبي, ويحل محلها فوراً “احكام الله لآياته” ومعجزاته من حيث انه جل جلاله “وانه عليم حكيم” وهنا أيضاً لا مكان يمكن تصوره لأي معنى للآيات على انها آيات القرآن الكريم المكتوبة في كتاب الله تعالى. وكذا بالنسبة للآية الثالثة: “هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق انا كنا نستنسخ ما كنت تعملون” وواضح من سياق الآية ان معنى “نستنسخ” هنا جاء لتدل على الكتابة والتسجيل والتوثيق لكل أعمال الانسان في كتاب يلقاه كل انسان يوم القيامة يوم الحساب والعقاب أمامه ناطقاً عليه بالحق والعدل. واما بالنسبة للآية الرابعة: “ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الألواح وفي نسختها هدىً ورحمةً للذين هم لربهم يرهبون” وهنا تتحدث الآية عن الواح موسى اي “التوراة”, تقريباً” والتي قال عنها الله سبحانه وتعالى: ” وكتبنا في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوها بأحسنها” الاعراف 145, وواضح من سياق الآية ان كلمة “نسختها” هنا تأتي بمعنى ما كتب وخط على صفحات كتاب, يقال هذه نسخة من كتاب فلان او اعطني نسخة من الكتاب الفلاني, اي ان كلمة “نسختها” في الآية تعني في كتابها. وبناء على ما سبق صار من الأوضح والأجلى امامنا ان كلمة “نسخ” ومشتقاتها الواردة في كل “القرآن الكريم”, لا تعني, باي حال من الأحوال, الاتيان او تثبيت آية قرآنية ثم ابطالها والغائها والاتيان بأحسن منها او مثلها محلها او بدلاً عنها بل تتعلق بآيات الله الكبرى آيات وبدائع صنع اللع الخالق العظيم في الكون والآفاق وفي الأنفس او الخلق عموماً, وان اسقاط آية “النسخ للآيات” وهي كما قد تبين, تحمل معانٍ عديدة ومختلفة, على الآيات الواردة في “سور” كتاب الله “القرآن المجيد” فيه لي لعنق المعاني اللغوية لكلمة “آية”, وكلمة “آيات” ومشتقاتهما الواردة مئات المرات في القرآن الكريم, كما انها تتضمن “اساءة” بالغة تتهم الله جل جلاله, والعياذ بالله, بنقص العلم وقصور المعرفة المفضي الى تعديل وتغيير او نسيان كلامه تقدست اسماؤه وعز ذكره وتعالى شأنه, وهو امر منتفٍ عن الله انتفاء مطلقاً وكاملاً, لأن قوله “الفصل” والحق المبين لا يعتوره نقصان او قصور او تغيير او تبدل, وثم ان كتاب الله “القرآن الكريم” كتاب وصفه الله العلي القدير بالقول: “كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”, وقال تعالى: “الر ۞ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير” وقال سبحانه عنه: “أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا” النساء 82, وقال عنه: “ولقد جئناكم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون” الاعراف 52, “ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء” النحل 89, “ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم” الإسراء. ونخلص هذا الحديث حول “الناسخ والمنسوخ” بان كل قول أو رأي يشيع بين الناس بان القرآن الكريم في “آيات” تنسخ بمعنى تبطل وتلغي وتشطب مئات الآيات القرآنية الأخرى بدعوى انها صارت “منسوخة”, او القول الأشنع والأخطر من هذا, القول بان “احاديث” منسوبة زوراً وبهتاناً للرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وان ما اسموه كتاب “السنة النبوية” تنسخ “آيات قرآنية” او بأنها “حاكمة” و “مهيمنة” على القرآن الكريم كتاب الله العزيز, لهو “بدعة” مستحدثة هي من أسوأ وأخطر البدع في تاريخ الاسلام واكثرها هدماً واضراراً وتدميراً لدين الله القويم, فالقرآن الكريم هو كلام الله جل جلاله وكلام الله هو الحق المبين محكم ومفصل ينطلق من العلم الالهي المطلق في علمه الأزلي والكلي كامل مكمل لا يعتوره القصور او الخطأ او النسيان, القابل للتبديل والتعديل والتغيير الذي هو “سمة” تتعلق بمحدودية علم البشر وقصوره, ولا يمكن بل ويستحيل ان يكون كلام الله عز وجل في كتابه القرآن المجيد ان يكون فيه ناسخ ومنسوخ وعبث ولعب  يتعالى الله عنه ويتنزه ونقول “آمنا به كل من عند ربنا”, ونتحاشى دائماً من الانزلاق الى مثل هذه الهاوية السحيقة فنصبح بوعي أو بدون وعي منا, من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض, ونسأله سبحانه وتعالى ان لا يجعلنا ممن وصفهم الله بكتابه العظيم بالقول “وما قدروا الله حق قدره”. ونختم هذا العنوان بتفنيد باقي ما ورد من مزاعمهم حول الآيات “الناسخة” التي ما انزل الله بها من سلطان فنشير, مجرد اشارة عابرة, بان كلمة “السيف” الواردة في زعمهم السقيم “آية السيف” بالتأكيد ان كلمة “سيف” لم ترد على الاطلاق في كل آيات وسور القرآن الكريم بادي الرأي, فمن أين اتوا بها. كما ان ما اسموها “آية الرجم” فيما يتعلق برجم الزانية والزاني المحصنين بالحجارة حتى الموت, لم يرد في كامل القرآن الكريم اي ذكر لها او حتى مجرد اشارة أو تلميح  لها من قريب او من بعيد, وكل الآيات القرآنية التي وردت في حكم “الزانية والزاني” بكل تفاصيلها الدقيقة قضت بجلد مائة جلدة لكل منهما, وثمانين جلدة للذين يرمون المحصنات ولم يكن معهم أربعة شهداء, وليشهد عذابهما طائفة من الناس ولا تأخذكم بهم رأفة في دين الله, وحكم الرجم هذا الذي نسبوه للناسخ والمنسوخ أتوا به ونقلوه نقلاً من شرائع بني إسرائيل واحكامهم التلمودية نصاً وحرفاً حتى في تفاصيل الحفرة التي يضعوا فيها المرحوم وكيفية الرجم وتفاصيله وطرقه… الخ. ونجمل تفنيد ما زعموه من الآيات “الناسخة” لآيات أخرى في القرآن الكريم, و”الاحاديث” الناسخة لآيات قرآنية! وخاصة فيما يتعلق بتحريم الخمر ونسخ باقي الآيات فيه, او ما سموه بآية “الولاء والبراء” الناسخة لبر الوالدين والعناية بالأقربين وصلة الأرحام, اضافة الى ما سموه “آية السيف” المشار اليها آنفاً, فإضافة الى ما بيناه عموماً عن تهافتها وبطلانها, فإننا نقول تفنيداً لمزاعمهم بالناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى, وعلى افترض حسن النية فيما زعموه, فإننا نعتقد بان السبب الرئيسي لانزلاقهم في هاوية تلك “البدعة” الضالة المضلة ربما يرجع الى جهلهم بحقيقة ان دين الله القويم الاسلام في رسالة القرآن والرسالة الخاتمة والنهاية لرسالاته ورسله, هو دين حدودي وليس حدياً في أحكامه وتعاليمه, فشرائع “التوراة” مثلاً التي حملها موسى عليه السلام لبني اسرائيل كانت أحكامها وتعاليمها تتسم بالحدية والصرامة وتغليظ العقوبات وفقاً لمقتضيات المرحلة التاريخية وما اتصف به قوم “بني اسرائيل” من افعال وسلوكيات… الخ, لكن رسالة “القرآن الكريم” الخاتمة جاءت متضمنة لأحكام وتعاليم وعقوبات مخففة عن سابقاتها وخاصة “التوراة” واتسمت بقدر كبير جداً من المرونة اللازمة لجعلها قادرة على استيعاب المتغيرات والتطورات اللاحقة في مختلف المراحل التاريخية المتعاقبة في المستقبل وتتلاءم وتتعامل معها ولهذا اتسمت بطابع الاحكام “الحدودية” وليس “الحدية” التي تعني مثلاً بأن (واحد + واحد = اثنين) ولا توسط في ذلك, ووفقاً لهذه الرؤية والفهم, وبحسب ما يشير اليه محمد شحرور في كتاب “الكتاب والقرآن” على ما اذكره وقد كان محقاً فيما توصل اليه, بان احكام “القرآن الكريم” من حيث هي احكام “حدودية” فقد تضمنت في الغالب في احكامها حدً ادنى وآخر أعلى وبينهما في الغالب حد متوسط, ليكون كل حكم وفقاً لهذه الصفة الحدودية بحدوده ومستوياته المتصاعدة من ادنى الى اعلى, قادراً على التعامل واستيعاب متغيرات وتطورات ظروف الزمان والمكان في مختلف العصور, فحكم “الخمر” مثلاً يتضمن ثلاثة مستويات متدرجة, الأول : “قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما”, والثاني : “لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”, والثالث : “انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه”, ولكل مستوى من المستويات ظروف زمانه ومكانه ومقتضيات ضروراته المختلفة ومتى ما وجدت وفرضت نفسها ضرورة لاءمها وتعامل معها .. وكذا الحال في حكم الزكاء مثلاً, فحدها الأدنى هي مقدار الزكاة الشرعية المحددة بربع العشر, وحدها المتوسط الصدقات والانفاق في سبيل الله في مجالاته الواسعه, اما حده الاعلى فهو “يسألونك ما ينفقون قل العفو” والعفو هو كل ما فاض عن حاجة الانسان التي حددها الفقهاء ما بين يوم الانسان او يومين او ثلاثاً او بعضهم شهراً, وكل ما فاض عنها ينفق, واي مستوى عمل به الانسان فثوابه عند الله تعالى.. وكذا الحال فيما يتعلق بحكم الصلاة فحدها الأدنى هي أداء الفروض الخمسة المعروفة في اليوم, وحدها المتوسط اضافة الى الفروض الخمسة “النوافل” الثابتة, وحدها الأعلى اضافة كل الفروض والنوافل الثابتة من صلاة القيام والتهجد بمختلف أشكالها وصورها وذكر الله وتسبيحه وقراءة القرآن .. الخ, ووفقاً لهذه الرؤية فان كافة الاحكام والتعاليم الواردة في القرآن الكريم قائمة ودائمة, ولعل الكثير من المسلمين قد وقعوا في خطأ شاع وانتشر مؤداه ان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أبطل او الغى حكماً بنصيب “المؤلفة قلوبهم” من مصارف الزكاة على سبيل المثال والصحيح ان يقال بانه اوقف العمل به لما رآه من انتفاء شروطه وضروراته, لكن الحكم يضل قائماً وثابتاً حتى اذا ما عادت شروطه وظروفه وضروراته اعيد العمل به من جديد, وتم تفعيله اذ لا يملك أحد وليس من حقه مهما كانت مكانته وقدره بما في ذلك رسل الله وأنبيائه, ان يلغوا او يبطلوا اي حكم من احكام الله سبحانه مطلقاً تحاشياً من ان يصبحوا ممن يتعدى حدود الله فيظلم نفسه, وبالعودة, مجدداً, الى “آية السيف” التي زعموا أنها نسخت المئات من الآيات القرآنية وما تضمنته من أحكام وأوامر ونواهٍ, وبالإضافة الى ما سبق ان فندناه من مزاعمهم حولها وبيناه من بطلانها وخطأها, فإننا نضيف هنا أن دين الله الاسلام انما قام وبني, أساساً, على القاعدة الكبرى القائلة في كثير من الآيات “ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين”, واكد عليها وثبتها بالقول: “وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”, وبالقول “يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان”, وبالقول: “ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا”, هذه القاعدة الجوهرية الكبرى هي المحور الرئيسي الذي قام عليه دين الله القويم ودارت احكامه وتعاليمه واوامره ونواهيه حوله ومن أجله, آمراً للناس كافة, بمختلف معتقداتهم ودياناتهم, بالتعاون على البر والتقوى وان لا يتعاونوا على الاثم والعدوان, وذلك لأن هدف الدين الاستراتيجي في كل رسالاته ورسله وانبيائه هو “ليقوم الناس بالقسط”, وبناء على كل ما سبق ذكره, فان الآيات التي استند عليها الزاعمون بآية السيف التي زعموا أنها توجب الحرب والقتال والجهاد لكافة من هم غير مسلمين تم اجتزاؤها من سياقها ووظفت توظيفاً خاطئاً ومناقضاً للدين لا تقوم على اساس صحيح فهي كلها تأتي في سياق الآيات والسور التي تتحدث عن قتال الكفار والمشركين أو أهل الكتاب وعدوانهم على المسلمين وتوجب على المسلمين وتلزمهم بالقتال في سبيل الله لمواجهة العدوان بثبات وقوة وتضحية بانهم على الحق حتى يتم ايقاف العدوان والى ان تضع الحرب اوزارها, وفي اي لحظة يجنح المعتدون المحاربون فيها للسلام فيجب على المسلمين ان يستجيبوا لدعوات السلام واجباً شرعياً ملزماً “وان جنحوا للسلم فاجنح لها” و “ان انتهوا فانتهوا” ودائماً ما يحث القرآن الكريم المسلمين بأن يقاتلوا من يقاتلهم “وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة” و “ولا تقاتلوهم عن المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم ذلك جزاء الكافرين فإن انتهو فإن الله غفور رحيم”, وقال تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين”. وقد فصلنا في هذا الجانب بشكل أكبر في سياق عناوين الباب الأول من هذا الكتاب المتعلق بالدين من حيث طبيعته ومقاصده واهدافه وفي سياق سائر أبواب هذا الكتاب عامة.     رابعاً : مسألة الردة والارتداد عن الدين وحكمها رغم أننا سبق وتعرضنا بالنقاش لهذه المسألة المتعلقة بالردة والارتداد عن الدين وحكمها, في سياق البابين الأول والثاني من هذا الكتاب, لكننا نشعر بأهمية وضرورة العودة اليها, مجدداً, لخطورتها والضرر الكبير الذي الحقته بدين الله الاسلام والاساءة والتشويه البالغين لصورته وطبيعته ومقاصده وأهدافه النبيلة, وخاصة في التاريخ الحديث والمعاصر للبشرية والتطور الهائل لوسائل المواصلات والاتصالات الحديثة التي جعلت من المعالم والمعارف ميسورة ومتاحة لشعوب وأمم الأرض كافة وبسهولة بالغة وبسرعة فائفة. إن الله الخالق الأعظم للحياة والكون بما فيها ومن فيه والذي هو على كل شيء قدير, شرع دينه القويم الواحد بتعدد رسالاته وكتبه وأنزله للناس كافة من خلال عدد كبير من الرسل والأنبياء الذين اختارهم الله تعالى واصطفاهم ليبلغوا رسالات دينه الواحد للناس جميعاً على امتداد واختلاف المراحل التاريخية للبشرية الممتدة منذ بداية الخلق, مخاطباً عقولهم وضمائرهم بالحجج والبراهين العقلية المنطقية السليمة, وداعياً لهم الى الايمان القلبي الغيبي بالله  سبحانه وتعالى الخالق البارئ المصور, ابتداءً, ومن ثم بما تضمنته رسالات وكتب الدين القويم على رسله وانبيائه كافة, وكانت مخاطبته ودعوته للإنسان الى الايمان القلبي الداخلي بالغيب باعتباره ارقى واكرم مخلوقاته كافة بما وهبه من عقل كأداة للتفكير والتدبر والتمييز, وما منه, وفقاً لذلك العقل الذي ميزه عن سائر مخلوقات الله, بحرية كاملة في اختيار افعاله وتقرير مصيره بين الخير والشر والهدى والضلال والايمان والكفر, وتحمل كامل مسئولية وتبعات حرية اختياراته تلك, ثواباً أو عقاباً, نعيماُ أو عذاباً, جنةً أو جحيماً, بعيداً وبمنأى تام عن كافة أشكال الاكراه والقمع والفرض والإجبار, باعتبارها جميعاً اشكالاً وصوراً تنتقص من حرية الانسان وحقه الكامل في اختيار افعاله وقراراته ومعتقداته, وتؤثر سلباً عليها, وتدفعه وتجبره على اختيار افعال ومعتقدات ليست من صميم حريته واختياره وبالتالي تنتفي عدالة تحمله وزر وتبعات مالم يفعل ويختار بمحض ارادته, ومن هنا, كان دين  الله تعالى, كما فصله وحدده في تمامه وكماله القرآن الكريم باعتباره خاتم الرسالات ورسل الدين الواحد, قائماً من اوله الى آخره على قاعدة حرية الانسان الكامل في اختيار افعاله وقراراته ومعتقداته استناداً الى القانون الالهي الأعظم “لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” و “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” و”هديناه النجدين اما شاكراً وإما كفورا” وغير ذلك من الآيات الكثيرة, وجعل دعوة الرسل والأنبياء الكران للبشر الى الايمان سليمة تماماً في وسائلها واساليبها, “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” و “قولوا للناس حسناً” و “لست عليهم بمسيطر” و “وما ارسلناك عليهم وكيلا” أو “حفيظا” و “ان عليك الا البلاغ وعلينا الحساب” و “ليس عليك من هداهم من شيء”, ومئات الآيات الأخرى التي تدور حول هذا المحور الرئيسي واتساقاً مع هذا النهج الواضح والسليم تحدثت آيات القرآن الكثير في مواضع عديدة عن “ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر” وعن “الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً” دون ان يفرض عليهم حداً أو عقوبة تقام عليهم في الحياة الدنيا كما فعل ازاء أفعال أو جرائم أخرى ادنى وأقل أهمية وخطراً من “الردة” و”الارتداد” عن الدين بكثير, مثل السارق والسارقة والزانية والزاني والذين يرمون المحصنات دون حق والذين يشهدون الزور, ومن يقتلون النفس التي حرم الله, ومن يسعون في الأرض فسادا, وهي كلها, كما هو واضح تتصل وتتعلق مباشرة بالعلاقات بين أفراد المجتمع ونتائجها وتأثيراتها المباشرة والمدمرة لعلاقات واواصر وئام وسلام الفرد والمجتمع بمختلف الصور والاشكال, اما حد عقوبة الردة والارتداد عن الدين فحصرها بالله سبحانه وتعالى ذاته وجعلها عقوبة “أخروية” في يوم القيامة وليست من العقوبات والجزاءات “الدنيوية” على نحو ما فصلناه في سياق البابين الأول والثاني, وذلك انطلاقاُ من ان الايمان بالدين “داخلي غيبي” اي الايمان بالغيب, ولا يعلم الغيب وما في السرائر وما تخفي الصدور الا الله علاّم الغيوب وحده الذي هو اعلم بسرائر الانسان وما يخفي صدره ودقائق حياته من الانسان ذاته فالله الخالق الأعظم “ونحن أقرب اليه من حبل الوريد”, وبالتالي فليس هناك انسان من البشر, بمن فيهم الأنبياء والرسل انفسهم, يملك أدنى مقومات ومؤهلات القدرة على النفاذ الى ضمير انسان آخر ومعرفة حقيقة أسراره وتفاصيله على الاطلاق. واستند الزاعمون او القائلون بان حكم الدين على من يرتد عن دينه هو القتل الى أحد “الأحاديث” بما تسمى باحاديث “الآحاد” الضعيفة, وكل ما روي من “الأحاديث” هي على رأي فقهاء وعلماء دين كثر تعتبر أحاديث “آحاد” لأنها رويت بالمعنى وليس باللفظ مع اختلاف صيغة الرواية ومضمونها اختلافات كبيرة بين مختلف الرواة للأحاديث والفقهاء, ولهذا أجمع أئمة المذاهب الرئيسية على أن ما تسمى “السنة” تعتبر معلمة وليست منشئة بمعنى توضح أحكام ومدلولات القرآن ولا تنشئ أحكاماً جديدة استناداً الى ان ما يتعبد به الانسان يجب ان يكون على غير ادنى خلاف في النصوص وانما متفق عليه اجماعاً في نصه كلمات وحروفاً دون زيادة او نقصان, كما هو الحال في القرآن الكريم, ومع ذلك ورغماً عن ذلك فقد حاجج الزاعمون بحد القتل للمرتد عن دينه على حديث آحاد ضعيف وركيك الصياغة يقول: “من بدل دينه فاقتلوه”!! ولو نحن سلمنا, على سبيل الجدل فحسب, بصحة هذا الحديث والزاميته واردنا تنفيذه فان نصفه العام والفضفاض يجب ان يسري على كل انسان ارتد عن دينه, بصرف النظر عن هوية ذلك الدين, او بمعنى آخر, وعلى سبيل المثال, لو أن “يهودياً” أو “نصرانياً”  ارتد عن دينه واراد اعتناق دين الاسلام لما قبل منه ذلك ولوجب قتله!! ودعونا نعود, من باب المقارنة حول دقة ومتانة النص وتحديده التام في الآية القرآنية: “ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة واولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” البقرة 217 أو الآية الثانية: “يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين… الخ” المائدة 54, فإننا نلاحظ في نصيهما ان الخطاب موجه تحديداً للمسلمين أو يا أيها الذين آمنوا بالقول “منكم” بينما “الحديث” المشار اليه يعمم الخطاب على الجميع دون تحديد أو بيان!! ومع ذلك فإن اولئك الزاعمون بحد القتل للمرتد جعلوا من هذا الحديث ناسخاً وملغياً ومبطلاً لثلاث آيات بينات من آي القرآن الكريم!! ورد في سياقها كلمة الردة أو مشتقاتها, وغيرها مئات الآيات القرآنية الكريمة التي تؤكد وتدعو الى حرية الانسان الكاملة في اختيار معتقده وتفكيره واقواله وافعاله ومواقفه دون ضغط أو تأثير أو تخويف أو اكراه من أي نوع! على نحو ما استعرضناه بشيء من التفصيل في سياق المسائل التي ناقشناها في الباب الأول من الكتاب, حيث تبين لنا, بوضوح وجلاء, ان الايمان بالله الخالق الاعظم وبدينه القويم, يقوم, أساساً, على اعتقاد غيبي داخلي في الانسان, مستند على مخاطبات للعقل والعاطفة والفطرة الانسانية مفعمة بالحجج والبراهين والاستدلالات المنطقية والسليمة والمقنعة للعقل السليم, المواصلة الى الاقناع والاقتناع والايمان, الذي يصل اليه الانسان ويلتزم به باختياره وارادته الحرة دون أي تأثيرات أو ضغوط أو اكراه أو تخويف أو ارهاب! ولما كان أمر الايمان الديني, الذي أراده الله سبحانه وتعالى, على النحو الذي ذكرناه, فمن غير المستساغ, منطقياً وعقلياً وعدلاً, ان يتم التعامل معه بالإكراه والقمع والترهيب والترويع, على الاطلاق, والا لا نتفي مبرر وسبب محاسبة الله الملك العدل الحق المبين,  لعباده يوم القيامة ومعاقبتهم على افعال ومواقف لم يختاروها بمحض ارادتهم الحرة وقناعتهم الكاملة, وحيث الآية الكريمة تقول: “ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون” النحل 25, والآية الكريمة تؤكد: “ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين” الانعام 35, فما الدين في الواقع الا ما ذكره الله سبحانه وتعالى: “ان هو الا ذكر للعالمين لمن شاء منكم ان يستقيم” التكوير 28, والايمان والكفر كما تقول الآية الكريمة مخاطبة الرسول (ص): “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وان يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه, بئس الشراب وساءت مرتفقا” الكهف 29. وبناء على كل ما سبق قوله وبيانه آنفاً وفي سياق هذا الكتاب فإن القائلين بحد القتل على من يرتد عن دينه, استناداً الى “حديث” آحاد ضعيف المعنى ركيك الصياغة نسب, ظلماً وبهتاناً, لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ناسخاً وملغياً ومبطلاً المئات من الآيات القرآنية, وناسفاً جوهر الدين ومقاصده السامية, انما يفترون الكذب على الله جل جلاله ورسوله الكريم ويضلون الناس بغير علم. وتستحضرني, في هذا المقام, واقعتان تحملان دلالات بالغة الأهمية: الواقعة الأولى: عن أناس مثقفين وواعين انخرطوا, في مرحلة من مراحل حياتهم, في احزاب سياسية, اعتبروها, من وجهة نظرهم, وبعد عمر قضوه نضالاً في صفوفها, بانها “احزاب كافرة” وغالو في الحكم عليها معتبرين كل من ينتمي اليها كافراً مرتداً عن دينه, بعد ان “هداهم الله” وتركوها, لكن بعضهم أقدم على قتل “رفاقه” السابقين أو ساهم في قتلهم تحت دعوى ومبرر بان عملهم الشنيع ذاك هو إلا واجب ديني مقدس يلزمهم دينهم وربهم القيام به! ولو افترضنا شخصاً أو أشخاصاً آخرين كانوا ضمن ذلك الحزب نفسه, و”هداهم الله” وقام أو قاموا بقتل “رفيقهم” أو “رفاقهم”, قبل يوم, مثلاً, من اهتداء “رفاقهم” الذين قتلوا أو ساهموا بقتل “رفاقهم” بحجة الكفر والارتداد عن الدين, لكننا خسرنا افراداً “آمنوا واهتدوا” لو لم يقتلهم رفاقهم الذين آمنوا واهتدوا قبلهم بلحظات بحجة الكفر والارتداد!! فلا يعلم ما في الأنفس وماذا يصير اليه الانسان غداً الا علاّم الغيوب سبحانه وتعالى, ولهذا قضت حكمة الله تعالى شأنه ان تحصر مسائل الايمان والكفر والحكم والجزاء بشأنهما بذاته وعلمه سبحانه وتعالى, ولم يفوض أي أحد من خلقه بالفصل أو الحكم بشأنهما في الحياة الدنيا على الاطلاق. أما الواقعة الثانية: فقد دارت احداثها في “اليمن الشمالي” والذي كان يعرف باسم “الجمهورية العربية اليمنية”, اواخر فترة الستينات اوائل السبعينات من القرن الماضي, وخلاصة الواقعة ان احدى سفارات الدول الغربية المعتمدة في صنعاء, ارسلت رسالة رسمية الى وزارة الخارجية اليمنية تتضمن استفساراً عما اذا كانت القوانين النافذة في الجمهورية العربية اليمنية تسمح بحرية “التبشير الديني” على أراضيها أم تمنعه؟! وقد كان مغزى ودلالات وابعاد الاستفسار حساساً و خطيراً من حيث انه اراد الحصول على رد بوثيقة رسمية من دولة “اسلامية” يحكمها رئيس المجلس الجمهوري وهو اساساً قاضٍ وعالم دين مجتهد وبارز, وكذا الحال بالنسبة لباقي أعضاء “المجلس الجمهوري” ورئيس الحكومة آنذاك, حول الموقف من حرية العقيدة وحرية الدعوة الدينية, وبوصول رسالة الاستفسار الرسمية تلك الى وزارة الخارجية اليمنية, التي لم تجد امامها ما تجيب عليها, فقد قامت بإحالتها الى “وزارة العدل” حيث لم تكن في اليمن, في تلك الفترة مؤسسات قضائية على غرار “مجلس القضاء الأعلى” أو “المحكمة العليا” … الخ, ودار نقاش وحوار بين قضاة وفقهاء وزارة العدل وصلت أصداؤه الى القضاة والفقهاء واعضاء المجلس الجمهوري الحاكم ورئيس الحكومة أيضاً, وانقسم المتحاورون في وزارة العدل فريقين: –         الفريق الأول: يرى, باختصار, بعدم جواز كافة اشكال وصور التبشير الديني في اليمن, مستنداً الى ان “الاسلام” هو خاتم الرسالات الالهية وهو الدين الحق والصحيح وان باقي الديانات محرفة وباطلة والبعض قال بكفرها, وان الدعوة والتبشير بالديانات المحرفة والباطلة وايضاً الكافرة في بلاد الدين الحق والصحيح “الاسلام” باطل ويتضمن “كفراً”  و “ارتداداً” عنه, مستندين في هذا الرأي الى ان الاسلام يوقع حد أو عقوبة القتل في حق أي مسلم يغير دينه ويعتنق أي ديانة أخرى, وان هذا الحد هو من حدود الله التي لا يجوز, مطلقاً, تعديها وتجاوزها. –         الفريق الثاني: يرى, باختصار, ليس هناك ما يمنع السماح بالتبشير الديني في بلادنا, مستنداً في رأيه الى أن حد “الردة” لم يرد ذكره في “القرآن الكريم” الذي يضع عقوبة دنيوية على “المرتد” بل جعلها عقوبة اخروية ليوم القيامة وامر يختص به الله سبحانه وحده, وفوق هذا قالوا بأن حد “الردة” مسألة “خلافية” بين علماء وفقهاء المسلمين ولم يتحقق حولها اجماع في الرأي والقاعدة الفقهية تقول بأن الخلاف حول أي مسألة يصيرها ظنية والاجتهاد بشأنها مطلوب لأنها ليست من المسائل القطعية, وان “حديث” من بدل دينه فاقتلوه فهو من أحاديث الآحاد التي لا يبنى عليها من تنفيذ الحدود, استناداً الى حديث آخر يقول ما معناه ادرؤوا الحدود بالشبهات, وان الحدود لا تقر الا بنص قرآني قطعي الثبوت والدلالة, واضافوا القول بان السماح بالتبشير الديني يستند في مشروعيته الى مبدأ أو قاعدة “المعاملة بالمثل” التي هي في نفس الوقت قاعدة فقهية, مشير الى ان المسلمين يتمتعون بكامل الحرية في الدعوة والتبشير بالإسلام, افراداً وجماعات, داخل وبين مكونات وافراد المجتمع والبلدان الغربية غير الاسلامية, ومنها بلد ومجتمع السفارة صاحبة الاستفسار, وليس هناك أية موانع أو قيود تفرض على الدعاة والمبشرين المسلمين في تلك المجتمعات, وقولنا بمنع أو تحريم  دعوات التبشير الذي يصور ديننا بصورة الدين غير الواثق من نفسه وحجيته من ناحية وربما يعطي المبرر المقبول لمنع التبشير الديني من قبل المسلمين في تلك البلدان والمجتمعات غير الإسلامية. ومع تصاعد وتوسع حوار القضاة والفقهاء الخلافي, في وزارة العدل, صدر توجيه رئاسي على وقف ذلك الحوار والاحجام عن الرد على رسالة السفارة السائلة والاكتفاء بالصمت!! ونستخلص من سياق مناقشتنا لمسألة الردة والارتداد عن الدين وحكمها, بأن القول بقتل المرتد عن الدين, سلمياً وعن قناعة واختيار, في الحياة الدنيا, لا اساس له من الدين على الاطلاق, بل ويتناقض مع تعاليمه وأحكامه القطعية تناقضاً صارخاً, ويلحق بدين الله القويم افدح الاساءات والتشويهات والضرر من حيث يصوره وكأنه  دين لا يقوم الا على الاكراه والترهيب والقمع والقتل, وذلك على النقيض تماماً من صورته الانسانية السمحة والسامية, وانه دين يجبر اتباعه ويكرههم على البقاء فيه بالقوة والعنف, وانه فيما لو ترك للمسلمين حرية الاختيار وتقرير ارادتهم بقناعتهم لما بقي في الاسلام الا نفر قليل, وهذه كانت المغازي والدلالات والاهداف, الكامنة لرسالة الاستفسار الرسمية التي بعثتها سفارة غربية في اليمن قبل حوالي نصف قرن, المشار اليها آنفاً..     خامساً: مكانة ودور المرأة في الاسلام:           المرأة هي, بادئ ذي بدء, احد طرفي معادلة الخلق والحياة الانسانية على الأرض, الى جانب أو مع الرجل الذي يمثل الطرف الآخر لمعادلة الحياة, التي صاغها الخالق الأعظم وابدعها حين بدأ خلق البشر, وفي هذا قال الله سبحانه وتعالى في آيات القرآن الكريم: “يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله أتقاكم” الحجرات الآية 13. “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيره ونساء” النساء 1. ويستحيل تصور أي حياة انسانية بغياب او بدون أحد طرفي معادلة الحياة تلك اي الذكر والانثى معاً وعلى قدم المساواة الكاملة, وقضت مشيئة الله الخالق ان تقوم العلاقة بين طرفي المعادلة تلك على السكينة والامان والمودة والرحمة لتؤدي وظيفتها ومهمتها وهدفها على أكمل وجه, والحياة الزوجية بين الرجل والمرأة أمر الله سبحانه ان تقوم على المعروف والاحسان والود في حالتي استمرار العلاقة الزوجية أو الطلاق, قال تعالى: “فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان” البقرة. والواقع أن اي شكل من اشكال الانتقاص من شأن ومكانة ودور المرأة أو تسفيهها أو تحقيرها أو استعبادها, يعتبر انتهاكاً وتعدياً على سر الحياة وقوانينها وعلى ارادة الله الخالق سبحانه وتعالى ومشيئته في خلقه, وخروجاً عن أوامر الله تعالى ونواهيه وتعاليمه بشأن المرأة والعلاقة بها والتعامل معها, على نحو الذي بينته وفصلته الآيات القرآنية العديدة في كتاب الله العزيز, فيما يتعلق بقيمتها الانسانية الرفيعة والتعامل الانساني الراقي معها بتقدير واحترام وود ورحمة وطاعة وخفض الجناح لها ذلاً ورحمة والدعاء الطيب لها بالرحمة والبر والاحسان لها, وكل ذلك يتناقض تماماً مع كافة أشكال الانتقاص أو التحقير والتسفيه والاضطهاد والظلم والاستعباد. والاصل أن الله الخالق الأعظم, جل جلاله, خلق المرأة (حواء) كزوج للرجل (آدم) ثم صارت, بعد الخلق الأول, أماً وأختاً وبنتاً, قال تعالى: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء: النساء 1, فكانت معادلة الحياة والخلق البشري الابدية مكونة من طرفين متساويين تماماً أي الذكر والأنثى, ولا تقوم حياة, على الاطلاق, بدونهما معاً متلازمين متفاعلين متكاملين ومنتجين. وكل من يسيء الى المرأة أو يزدريها ويحقرها وينتفص من قيمتها ومكانتها, بقدر ما يتصادم ويخالف مشيئة الله الخالق سبحانه وتعالى وتعاليم وأوامر ونواهي ومقاصد دينه الحق المبين, فانه يسيء الى نفسه  ويحقرها ويهينها بالمقام الأول, لان الانسان مخلوق من ذكر وأنثى, فالمرأة, كما قلنا, هي بالنسبة لكل انسان أماً وأختاً وابنة.. ولا نريد, هنا, وليس مجاله, ان نغرق أو نتوه في دهاليز وتفاصيل التاريخ الانساني منذ أقدم العصور والمراحل وحتى الآن لنستعرض ونسلط الضوء على مكانة المرأة ودورها في المجتمعات الانسانية, وكيف كانت في العصور “الامومية” حيث كانت السيادة والقيادة الأولى في المجتمع للمرأة, وكيف تطورت المجتمعات الانسانية, بعد ذلك, لتزيح المرأة عن موقع السيادة والقيادة ويحل محلها الرجل, الذي همش دورها واقصاها عن موقع القرار وتقرير مصائر المجتمع, وفرض عليها واقع الخضوع والتبعية الكاملة للرجل وسلطته, بكل ما ترافق مع تلك التطورات من منظومات ثقافية وقيمية كرست غرس مفاهيم تنتقص من آدمية المرأة وعدم كفاءتها واهليتها لمشاركة الرجل مشاركة ندية ومتساوية في ادارة شئون المجتمع وحياته العامة, فهذا المبحث, على أهميته وحيويته البالغة, ليس مجاله هنا في سياق هذا الكتاب الذي يسجل خواطر وانطباعات وأحاسيس حول قضايا عامة ورئيسية, وتركيزنا فيه ينصب على المجتمع العربي الاول الذي نزلت رسالة القرآن الكريم او الاسلام فيه ابتداء والمجتمع الاسلامي الذي بناه ورسم ملامحه ومعالمه ومضامينه على امتداد مراحل تاريخية لاحقة, ففي هذا المجتمع, الذي تشكل على “جزيرة العرب” اطاره الجغرافي العام, والذي كانت “مكة” أو “أم القرى” كما كانت تسمى, قلبه النابض ومحوره الحضاري الفاعل, شاملاً “يثرب” أو “المدينة المنورة” بعد ذلك, والقبائل العربية المتناثرة على ارجائه, كان مجتمعاً يتسم عموماً بالانقسام والتمايز الطبقي والاجتماعي الواضح, بين سادة  القوم وكبرائهم, ثروة ووجاهة وسيطرة سياسية واجتماعية وثقافية, وبين فئات “العبيد” الذين يشكلون قوة العمل ومحركه, وبين الأغنياء والفقراء, اضافة الى مجموعة القبائل العربية التي تنظم شئون حياتها وعلاقاتها البينية الداخلية وغيرها من القبائل والقوى الأخرى, وفقاً لقوانين واعراف وتقاليد “العصبوية” الاجتماعية والمسئولية التضامنية الحازمة بين افرادها وسلطاتها المختلفة, وكان هذا الانقسام والتمايز شبه الطبقي والاجتماعي يسري على الرجال والنساء معاً بحسب انتماء كل واحد منهم الى تصنيفه الطبقي والاجتماعي ودرجته ومستواه فيه, وما يهمنا في حديثنا هنا ينحصر, اساساً, حول المرأة ومكانتها ودورها في ذلك المجتمع, وخاصة “مكة”, حيث توضح الكتابات التاريخية القديمة, والدراسات التحليلية الحديثة واللاحقة لها, ان المرأة في ذلك المجتمع, باستثناء من كن خاضعات لنظام “العبودية” أو “الاماء”, وخاصة منهن “الحرات” أو “الحرائر” جمع “حرة” أو “الشريفات” المنتميات الى قمة الهرم الاجتماعي, وايضاً “الحرات” الأخريات الاقل مرتبة اجتماعية في مجتمع “مكة” ومن سائر القبائل العربية حولها, كانت تتمتع بمكانة مرموقة في الحياة العامة ويضطلعن بأدوار مهمة في مجتمعاتهن, سواء في التعبير عن رأيهن أو ابداء الراي والمشورة في القضايا الكبرى والمهمة التي تعترض مجتمعهن في السلم والحرب, أو في حريتهن في التصرف في إدارة اعمالهن وتجاراتهن واموالهن الخاصة بأنفسهن أو بمشاركة سائر المجتمع, وكان منهن “شعراء” و “حكماء” بارزات ومشهورات خلدهن التاريخ, ويشاركن مشاركة فاعلة في حشد وتعبئة قوى وامكانيات المجتمع في حالات الحرب وتأجيج المشاعر والمعنويات فيها, وكان المجتمع يقدر ويحترم ويحث على دور مشاركة المرأة ذاك ويضعه في حساباته واعتباره, ولم تكن المرأة تتعرض لأي من أشكال وصور الانتقاص أو التهميش او الاقصاء أو التحقير والدونية, ذلك ان منظومات التقاليد والاعراف والقيم السائدة, آنذاك, والتي تحكم وتنظم شئون المجتمع وعلاقاته, كانت تعتبر مثل تلك الممارسات عيباً ونقيصة واهانة لشرف وسمعة ونبل المجتمع ككل, بما في ذلك منظومة الأعراف الخاصة بالقبائل العربية, وعلى العكس من ذلك, كان الرجال, على اختلاف مستوياتهم ومراتبهم الطبقية والاجتماعية, لا يترددون في التفاخر بتميز نسائهم, زوجات أو امهات أو بنات أو اخوات, في الشعر والفروسية والكرم والجود, ولم يكن الانسان العربي في ذلك المجتمع واعرافه وتقاليده ليقبل أو يغض النظر اذا تعرضت واحدة من اسرته, متزوجه الى اقوام أخرى, للإهانة أو الضرب او الاضطهاد من قبل زوجها أو أهله, على الاطلاق, وقد سجل لنا التاريخ بعض الحالات من هذا القبيل, افضت الى نشوب حرب طاحنة بين القبائل بسببها, وفي هذا الصدد فانه, وان صح ما اشيع, بان الانسان العربي كان, في سجيته وطبعه, ميالاً وشغوفاً ومحباً ان يكون له ذرية وابناء من الذكور اكثر من الاناث أو حتى كراهيته وغيضه اذا بشر بالأنثى, فلربما يعود ذلك الى طبيعة الظروف الموضوعية للمرحلة التاريخية التي يعيش المجتمع في ظلها, والتي تستدعي وتتطلب المزيد والمزيد من انجاب الذكور ليكونوا مقاتلين ومحاربين تحت لواء قبائلهم وزيادة قوتها وبأسها بين القبائل والمجتمعات الأخرى وصيانة او حماية شرف القبيلة وعزتها ومصالحها صداً لعدوان عليها, او غزواً للقبائل الأخرى المحيطة, لكن تبرم العربي بولادة الأنثى لم يصل, في كل الأحوال, الى درجة المقت والكراهية المطلقة للإناث بشكل عام, ذلك أن مجمل الشعر العربي “الجاهلي” وما تلاه يتدفق بمشاعر وأحاسيس التغزل بالمرأة والهيام بها والتعشق بها ووصف جمالها ومفاتنها وجمال شكلها وعقلها معاً, وفي اعتقادي, بناء على قراءتي ومعرفتي المتواضعة لكتب التاريخ, ان ما أشيع حول قيام العرب, في ذلك العهد السابق لظهور الاسلام, بعمليات قتل أو “وأد” لإناثهم المولودات حديثاً, ليس صحيحاً, ولعل ما ساعد على اشاعته ونشره على نطاق واسع, سوء فهم وتفسير الآية القرآنية الكريمة التي تحدثت عن الموءودة حيث تقول الآية: “واذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت” التكوير 8, حيث تم فهمها وتأويلها على انها تؤكد على ان العرب كانوا, قبل الاسلام, يمارسون عمليات وأد وقتل ممنهج وعام للمولودات الاناث وان العرب كانوا يفعلون ذلك تحاشياً وخوفاً من العار الذي قد يلحقهم اذا انحرفت بناتهم ونساءهم, اخلاقياً, حين يكبرن! ولو نحن سلمنا جدلاً, لان ذلك ما كان يحدث حقاً في مجتمع عرب الجاهلية لكان من المفترض أن  يكون الجنس العربي قد تلاشى وانقرض من الوجود لنقص أو انعدام النساء مع المدى وهذا ليس صحيحاً ولم يحدث بل ظل العرب يمثلون أعلى درجات الخصوبة والنمو والتجدد والكثرة السكانية! هذا جانب, ومن الجانب الآخر ما كان الله جل جلاله, وحال العرب آنذاك كما قبل آنفاً, ليصف العرب في آيات كتابه العزيز “كنتم خير أمة أخرجت للناس”, ولما قال لرسوله “يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألّا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن” الممتحنة 12, وقول الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وعلى آله الطيبين, ان صحت الرواية, ما معناه “انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”, فكيف يمكن لقوم أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس ويبعث رسول الله (ص) ليتمم مكارم اخلاق تلك الأمة ولم يقل لأعلمكم مكارم الأخلاق, بل ليتمم ويكمل مكارم اخلاق الأمة التي كانت قائمة وسائدة ويعيطها بعدها وتأصيلها الإيماني الديني؟! ولهذا أعتقد ان الآية القرآنية التي تحدثت عن الموؤدة التي ستسأل يوم القيامة عن الذنب الذي وئدت بسببه, كانت تتعلق بحادثة فردية وقعت في مكان ما وفي زمن ما بعينها من خلال مدلولات الفاظ الآية التي تتحدث بصيغة المفرد وليس الجمع وبسياق زماني ومكاني عام وغير محدد, والله أعلم. وبالعودة الى صلب موضوعنا حول المرأة الذي بدأناه آنفاً, نقول بأن المرأة في ذلك المجتمع العربي الأول, قبل الاسلام, والمجتمع الاسلامي الذي تأسس بعده, ظلت ولفترة زمنية قصيرة, محافظة على مكانتها ودورها المتميز الذي اشرنا اليه, على العموم, الى ان بدأ بالتغير والتبدل لغير صالح المرأة مع بدء مراحل الانحطاط في الامة والمجتمع الاسلامي في فترة القرن الرابع الهجري وما تلاه, وهي الفترة التي بدأت خلالها عوامل ومظاهر الانحطاط والتخلف والانتكاس تهيمن وتسيطر على مقاليد وشئون المجتمع في مختلف المجالات الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية والحضارية, وخاصة الانحراف في الثقافة والوعي الديني الذي ساهم في تحريف دين الله القويم وافراغه من مضامينه وتعاليمه ومقاصده الصحيحة كما وردت في كتاب الله العزيز “القرآن الكريم”, وتأسيس منظومة دين مواز وبديل ومختلف على حساب تغييب وازاحة الدين الصحيح عن حياة وعقول ووعي المسلمين وحياتهم العامة, على نحو ما أوضحناه في الباب الثاني من هذا الكتاب,, وخلال تلك الفترة, بل ومن قبلها بفترة, وما تلاها من فترات لاحقة, نفذت حملات مكثفة ومتواصلة ومدروسة ومنظمة ومدعومة من سلطات الحكم في المجتمعات والبدان المسلمة لغرس معتقدات دينية غربية وقهطرمات ثقافية وتعليمية ودعائية واسعة النطاق, في عقل ووعي الانسان والمجتمع المسلم, تدور حول محور واحد وهو الانتقاص والتشكيك بآدمية المرأة من حيث خلقها وخُلقها, وصفاتها ومواصفاتها العقلية والبدنية بل وحتى السلوكية, اضافة الى الكفاءات والقدرات والملكات التي لا تؤهلها ولا تمكنها ولا تجيز لها تولي وممارسة اية وظائف ومسئوليات في ادارة وتسيير دفة الأمور في الدولة والمجتمع, وانها خلقت للبقاء في البيت زوجة وخادمة مطيعة لزوجها واهل زوجها طاعة مطلقة والا جوعت وضربت وعزلت داخل بيتها العازل لها أصلاً! ولما كان لابد لهذه الثقافة والدعاية الشاملة ضد المرأة وانسانيتها ودورها, حتى تغرس وتتجذر في عقول وتفكير الفرد والمجتمع, من مسوغ وسند ديني يعطيها “شرعية وقدسية دينية” واجبة الاتباع والعمل, خرجت علينا من ثنايا كتب التدوين “أحاديث” و “أقوال” منسوبة, ظلماً وبهتاناً, في معظمها الى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في ما سميت بكتب “الصحاح” وغيرها مما يماثلها غير “الصحاح” المئات من الأحاديث والأقوال التي تدور, في مجملها, حول “دونية” عنصر النساء وتحقيرهن وتسفيههن والحط من كرامتهن وقدراتهن وعقولهن حتى! وعلى سبيل المثال, لا الحصر, القول  بأن المرآة ناقصة عقل ودين, والمرأة خلقت من ضلع أعوج, وانه لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة! وان المرأة التي لا تطيع زوجها طاعة مطلقة ولا تستجيب فوراً لرغباته ونزواته واهوائه متى ما يريد فإن ملائكة الله يباتوا ليبلهم يصبون عليها لعناتهم الى حين! وان المرأة, والكلب معها, لنجاستها وحقارة معدنها, اذا مرت من امام القائم للصلاة فانها تقطع صلاته وتبطلها, وان المرأة في الأصل, حواء, اتبعت اغواء الشيطان في الجنة وتولت اغواء زوجها آدم وهي المسئولة والمتسببة وحدها عن خروج آدم من الجنة, وأن على الانسان ان يخالف المرأة -تلقائياً- اذا هي محضته رأياً ونصيحة, وان المرأة كلها عورة, جسمها واطرافها ووجها وصوتها.. الخ, وغير ذلك مما تضمنته المئات من تلك “الأحاديث والاقوال” المنسوبة ظلماً للرسول (ص) وعلى اساسها وفي ضوئها تطورت عقلية العداء للمرأة في تاريخنا المعاصر, على ايدي الجماعات والتنظيمات المتأسلمة الجديدة المتطرفة والارهابية التي تندرج في اطار ما يطلق عليه “الاسلام الحزبي السياسي” المسلح وغير المسلح, الذين اعتبروا التحاق الفتيات المسلمات بمدارس التعليم ومعاهده وجامعاته حرام, واظهار جزء من جسم المرأة حتى لو كان  ظفراً من اظافر اصابع يديها ورجليها حرام وفساد وحتى اسماع ذبذبات صوتها وكلامها بالتليفون أو مباشرة, عورة منكرة جالبة للافتتان والفتنة والفساد والافساد! لينتهوا الى تحريم توليها أية وظائف او اعمال ادارية أو فنية في أجهزة الدولة ومؤسساتها لأنه لا يحوز ان يكون الرجل تحت ادارة او قيادة امرأة في العمل, وان تصبح تلك المرأة مسئولة او مديرة لرجال لأنهم أولوا تأويلاً متعسفاً وخاطئاً تلك الآية القرآنية التي تقول: “الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من اموالهم” النساء 34, فاعتبروا معنى “القوامة” بانه السيطرة والهيمنة والقيادة والسلطة والأمر والنهي.. الخ, للرجال على النساء! في حين ان سياق الآية ومدلولات الفاظها لا ينطبق على ذلك المعنى ولا يوحي به, فالقوام والقوامون مشتقة من الفعل “قام” ومنه اشتقاقات عديدة منها اقام او اقاموا او اقمتم الصلاة, “الا ان يخافا ألّا يقيما حدود الله”, “أقم وجهك للدين حنيفا”, “لمن شاء منكم ان يستقيم”, “فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم”, “قائماً بالقسط”, “والذين هم بشهاداتهم قائمون” , “من أهل الكتاب امة قائمة بتلون آيات الله”, “ذلكم اقسط عند الله واقوم للشهادة”, “الحي القيوم” – “ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”, “هي اشد وطأً واقوم قيلا”, “ان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله”, “يا اهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا”, “ذلك الدين القيم”, “ديناً قيماً”, “لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم”, وغير ذلك من الاشتقاقات اللغوية لكلمة “قوامون” وكلها تعطي, على الاجمال, معنى “الوقوف” والنهوض واقفاً او قائماً لأداء عمل ما, والقيم جمع قيمة ما, والأقوام الاكثر استقامة من كلمة “قويم”, وامة قائمة بمعنى عاملة ومنشغلة بعمل وامام شيء أو مهمة, و”القيم” و “القوامون” المسؤولون عن خدمة شيء والمكلفون بالاهتمام والعناية بشيء معين مثل قيم المجسد, وعلى ضوء كل ذلك فإننا نفهم معنى “الرجال قوامون على النساء” على نحو أدق واسلم بان الرجال مسئولون ومكلفون وملزمون برعاية النساء والعناية بهن وخدمتهن ومساعدتهن والاهتمام بهن بشكل كامل وغير محدد أو محدود, حيث تأتي بقية الآية وتكملتها لتزيد المعنى وضوحاً “بما فضل بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم”, أي بما خص الله تعالى الخالق الاعظم كل من الرجال والنساء من اختلافات في الخصائص البيولوجية والجسمية والوظائف الفيسيولوجية وفي القدرات والصفات والملكات فالمرأة تتعرض لمعاناة ومتاعب وآلام الحمل والولادة والارضاع والعناية بالمولود ودورات الحيض وما يتخللها من تقلبات وآثار نفسية وهرمونية .. الخ, وذلك وضع أو اوضاع تتعرض لها النساء باستمرار مما يجعل الرجال مسئولون ومكلفون وملزمون بخدمة النساء ورعايتهن ومساعدتهن وتخفيف الأعباء والمعاناة عنهن والانفاق عليهن مالياً, وليس المعنى, كما تصوروه, بانه فرض السيطرة والقيادة والهيمنة واصدار الأوامر والنواهي على المرأة التي يجب عليها الطاعة والامتثال المطلق دون اعتراض!! وإلا كيف نفهم الآيات: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله” النساء 135. “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط” المائدة 8. إذا فهمنا “القوامة” على انها سيطرة وهيمنة وفرص القيادة على النساء, فكيف نفهم معنى الآية  يكون الناس “قوامين لله”؟؟ كما ان معنى “بما فضل الله بعضهم على بعض” في الآية ليس مفاضلة و تمييز لاحدهما على الآخر وانما لاختلاف الخصائص والميزات والصفات كقوله تعالى: “وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأُكل” الرعد 4, أي التفضيل بمعنى اختلاف التركيب والخصائص والمذاق والشكل  واللون .. الخ, وليس بمعنى ان واحداً أحسن من واحد وأفضل منه. والواقع انه في قرى وارياف مجتمعاتنا التي تشكل غالبية السكان, حيث فهم الناس الدين ببساطة ووضوحه ومارسوه على الفطرة وصفاء الذهن ونقائه, فقد ظلت النساء يقمن بدور رئيسي وبارز في الحياة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية مع الرجال جنباً الى جنب حيث كانت النساء منتجات وفاعلات, حتى وقت غير بعيد, الى ان جاءت الجماعات والتنظيمات المتأسلمة المتطرفة والمنحرفة بما يعرف بالإسلام الحزبي السياسي الجديد, فأفسدت على الناس, في القرى والأرياف, رجالاً ونساء, فهمهم النقي الفطري البسيط للإسلام وممارسته ديناً قويماً, وادخلت عليهم الفهم والممارسات المنحرفة والخارجة عن مضامين وتعاليم وقيم وسلوكيات ومقاصد الدين الصحيح الذي فهموه ومارسوه على الفطرة والنقاء قروناً طويلة من الزمن, فبدأ النقاب ينتشر وفرض على المرأة التزام جدران بيتها وتفككت الروابط والصلات الاجتماعية والأسرية, وتقلص كثيراً دور واسهام المرأة العاملة المنتجة, وفرضوا عليها شيئاً فشيئاً حياة الحريم, المعزولة عن المجتمع وشئونه وحياته, لتبقى المرأة مجرد أداة للمتعة والجنس والخدمة المنزلية ليس إلا لا علم لها ولا اتصال بهموم وقضايا مجتمعها الأوسع خارج نطاق البيت, وكأن أمر الله جل جلاله وتوجيهه بالآية الكريمة: “يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكركم عند الله اتقاكم”, لا يشمل النساء ولا ينطبق عليهن! لأنهن – كما قيل- ونسب ظلماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم “ناقصات عقل ودين” افتراء على الله ورسوله, واصبحنا في زماننا هذا, وفي القرن الحادي والعشرين, نرى ونسمع حركات وتنظيمات ومفتين من “المتأسلمين الجدد” اصحاب “الاسلام الحزبي السياسي” المنحرف والمشبوه في علاقاته وارتباطاته الخفية, من يختطفون المئات من الفتيات الآمنات من مدارس التعليم ويعتبرونهن “سبايا” او إماء أو غنائم حرب ويهبونهم هدايا لاتباعهم الضآلين لممارسة الجنس معهن بالإكراه وبدون اذن أهلهن ويعرضون الأخريات للبيع في أسواق النخاسة والرقيق, وجماعات ارهابية مجرمة اخرى تغرر بافواج من الفتيات للالتحاق بميادين الحروب والفتن ليمارسن الجنس الترفيهي الجماعي مع من يسمونهم بالمجاهدين, تحت شعار “جهاد النكاح” الذي يؤهلهن لدخول الجنة بزعمهم وافتراءاتهم على الله ودينه القويم ورسله وانبيائه الكرام, وآخرين يطلقون الفتاوى المضللة المنحرفة تترى التي تجيز وتدعوا وتحلل وتشرعن زواج الفتيات القاصرات “الاطفال” في سن السابعة من اعمارهن ويخوضون, في سبيل ذلك معارك ومواجهات طاحنة ومريرة, معتبرين ذلك جهادً في سبيل الله وابتغاء وجه الله ومرضاته!! فأصبحت النساء بعد ان رسخوا عنهن مقولة “ناقصات عقل ودين” مجرد سلع وادوات للمتعة وقضاء النزوات والشهوات الجنسية الحيوانية دون قيود أو ضوابط من دين أو عرف أو أخلاق, مهدرين اهداراً كاملاً كل معاني الكرامة والشرف والقيمة الانسانية للمرأة التي كرمها الله سبحانه ورفع شأنها ومكانتها عالياً في محكم كتابه القرآن المجيد وآياته وتعاليمه السامية, وتعالوا نقتبس بعضاً من آيات القرآن الكريم حول النساء لنرى تكريم الله تعالى لهن والمكانة الرفيعة والدور المهم الذي منحه لهن وذلك كالتالي: –         “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ۞ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهاء” التوبة 71-72. –         “اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض” آل عمران 195. –         “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” البقرة 228. –         “يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم” الحديد12. –         “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة” النساء 124. –         “فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا” البقرة 231. –         “ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة” غافر 40. –         “واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن ازواجهن اذا تراضوا بينهم بالمعروف” البقرة 232. –         “يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف ان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ۞ وان اردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتاناً واثماً مبينا ۞ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم الى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً” النساء 19-21. –         “ومتعوهن على الموسر قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين” البقرة 236. –         “وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين” البقرة 241. –         “والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً واثماً مبيناً” الاحزاب 58. –         “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتو بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واولئك هم الفاسقون” النور 4. –         “والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين ۞ والخامسة أن لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين ۞ ويدرؤا عنها العذاب ان تشهد أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين ۞ والخامسة أن غضب الله عليها ان كان من الصادقين” النور 6-9. –         “ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ۞ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وايديهم وارجلهم بما كانوا يعملون” النور 23-24. –         “من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون” النحل 97. –         “وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ان يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما ان الله كان عليماً خبيراً” النساء 35. –         “فإن ارادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما” البقرة 233. ويتضح جلياً, من سياق هذه الآيات, وغيرها كثير, ان الله سبحانه وتعالى, ينظر الى المؤمنين, ذكوراً واناثاً ويتعامل معهم على قدم المساواة والندية والفارق بينهم هو فقط العمل الصالح والتقوى والايمان, هذا من ناحية, ومن ناحية اخرى حفظ للمرأة وكرامتها ومكانتها الرفيعة واعطاها ضمانات عدة تحميها وتمنع عنها التغول والاذى والاضطهاد والقمع اكثر مما منحه للرجال, واعطاها الحق في التصرف بمالها وتقرير مصيرها وحياتها بحريتها وارادتها دون اكراه أو ضغط, وحفظ لها حقوقها من العسف والابتزاز. وحتى ارضاع الأم لوليدها يوجب على الأب دفع مقابل للزوجة, قال تعالى: “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن اراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا نكلف نفساً الا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده” البقرة 233, وقال تعالى: “أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وان كن اولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن ارضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف” الطلاق 6, بل وحتى النساء اللائي يطلق عليهن “ملك اليمين” حيث يفسر البعض او الاتجاه الغالب معنى “ما ملكت أيمانكم” بأنهن الإماء أو الجواري, رغم شكي في دقة هذا المعنى أو الوصف, من زاوية ان تعامل المسلمين معهن يتم بالدخول عليهن ومعاشرتهن بدون اتفاق او عقد أو رضى اهلهن, ومع ذلك لم يهدر الله سبحانه وتعالى من آدميتهن وكرامتهن بل حافظ عليها, قال الله تعالى: “ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما  ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات او متخذات أخدان” النساء 25, وقال جل جلاله: “وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فاكتبوهم ان علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم” النور 33. مما سبق يتبين لنا بوضوح أن الله جل جلاله ودينه القويم قد كفل للنساء عموماً, سواء أكن محسنات حرات او إماء او ما ملكت الأيمان, كرامتهن وانسانيتهن, وحقوقهم فلا يكرهن أو يقمعنَّ أو يمتهنَّ تحت أي ظروف أو مبرر, فليس هناك في الاسلام اباحة في اغتصاب ومعاشرة الاماء او ما ملكت الايمان بمسمى “السبايا” أو غيره بالقوة وبدون ضوابط وقواعد شرعية وعقود وحقوق واذن أهاليهن, هذا هو دين الله الحق القويم المستقيم المشرف السامي والمشرف, اما الجماعات والأحزاب والتنظيمات والمفتون من “المتأسلمين الجدد” من اصحاب “الاسلام الحزبي السياسي المسلح والارهابي والمشبوه”, فلهم دينهم الآخر المختلف الذي شرحنا تفاصيله ومضامينه في سياق هذا الكتاب وهم ينسفون تعاليم وقيم واحكام وعلاقات وارتباطات بدوائر عالمية معادية للاسلام ولا يمتون باي صلة لديننا الاسلامي الحنيف.. وهم ينظرون الى المرأة افتراء على الله ودينه, على انها عورة أو عار أو فضيحة يجب حجبها عن الأنظار وتغطيتها بالنقاب والأغطية من قمة رأسها الى اخمص قدميها فلا يظهر منها اي شيء بالمطلق ولا تتكلم او تتحدث ويسمع كلامها لانه “فتنة”, وهم بهذا الفكر السقيم يعبرون عن سخطهم ورفضهم واعتراضهم على خلق الله وآياته وحكمته ومشيئته التي توضح أهم جوانبها الآية القرآنية الكريمة: “يا أيها الناس ان خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عن الله اتقاكم” لتعارفوا أو تتعارفوا بعضكم بعضاً لا أن يفرضوا على النساء الحجب والتغطية الشاملة الكاملة لهن, والا لو كان مراد الخالق جل وعلا هو ذاك السهل على قدرته ان يخلق النساء على نحو يرين ولا يراهن أحداً, ولما طالبهن بان يشهدن على معاملات ووقائع في الحياة فالشاهد لا يشهد الا بما يرى ويراع ويعرفه أطراف موضوع الشهادة والا كيف لك أن تطمئن الى ان الشاهدة التي تشهد هي نفسها التي كانت حاضرة على الواقعة وشاهدتها؟! وفوق هذا وذاك ما كان الله سبحانه سيأمر الرسول (ص) ان يبايع المؤمنات اللائي حضرن المبايعة الى الايمان أو يأمر النساء الى الهجرة مع المهاجرين ولما خاطب الله جل جلاله رسوله الكريم آمراً: “لا يحل لك النساء من بعدهن ولا ان تبدل بهن من ازواج ولو اعجبك حسنهن” الاحزاب 52, والاعجاب بالشيء لا يكون الا بعد رؤيته ومعاينته, ان الدين القويم يطلب من النساء أن يقمن بدورهن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعمل الخير والصالحات في المجتمع في اطار من الحشمة والاحتشام في مظهرهن وملبسهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى وان لا يتعمدن اصطناع واثارة النزوات والشهوات… الخ, وطالب بغض البصر وحفظ الفروج للرجال والنساء على حد سواء مقدماً في ذلك الرجال على النساء, والثبات, على أية حال, ان النقاب وتغطية المرأة بالكامل ليس عاصماً للمرأة من الانحراف, وان العاصم الحقيقي تقوى الله والخوف منه وابتغاء رضوانه واتقاء سخطه وغضبه, لا بد ان النقاب يخفي في بعض الاحيان جرائم وموبقات وانحرافات ويسهل وقوعها ويتستر عليها, سواء على مستوى السلوك الشخصي الفردي او على مستوى المجتمع بشكل عام. والآية الكريمة التي تتحدث عن غض البصر وحفظ الفروج تخاطب المؤمنين, نساءً ورجالاً, واكثر من ذلك انها بدأت بالرجال: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ان الله خبير بما يصنعون ۞ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن ..الخ” النور 30-31, لا يفهم من سياقها ان يفرص على المرأة “التنقب” وتغطية نفسها وجسمها تغطية كاملة شاملة, اذ لو فهمناها على هذا النحو لوجب تعميم الفهم على الرجال والنساء معاً, ولا يمكن فهم المعنى بغض البصر “حجب العين” وتغطيتها, ولكن المعنى غض البصر أو النظر من قبل الرجال والنساء لبعضهم البعض بعيون مريبة ونظرات جنسية شهوانية بغرض التغزل والاغواء وايقاع بعضهم ببعض في مستنقع الفاحشة والرذيلة, والتزام الحشمة وقواعد الآداب العامة والتقاليد السليمة المتعارف عليها في المجتمع, اما البصر أو النظر أو الرؤية العيانية لمعرفة بعضهم بعضاً والتحقق من الهويات والشخصيات فذلك من دواعي الفطرة الانسانية السليمة, ويتضح ذلك جلياً من خلال الرواية التي تروى عن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ان صحت, والتي مؤداها ان الرسول الأكرم كان ذات ليلة يتجول في شعاب مكة ومعه احدى زوجاته, ولعلها عائشة رضي الله عنها وارضاها, يتسابقا, اي يعدوان ايهما يسبق الآخر, وصادف مرور رهط من شبان مكة فحياهم الرسول (ص) ونادى زوجه ان هلمي قائلاً لهم انها عائشة ويعرفهم بها, فالنظر العادي للتعارف والتخاطب بين الرجل والمرأة, والمبرأ عن الهوى والسوء, طبيعي وحتمي وفطري, وكل من يمنعه أو يحرمه فهو أعمى البصر والبصيرة, ولا بد لنا هنا, ونحن بصدد الحديث حول المرأة ودورها ومكانتها في دين الله القويم, من الوقوف امام مسألة “تعدد الزوجات” في الاسلام, حيث تشكل سبباً في لغط كبير وسوء فهم ويتخذ في زماننا مطعناً مسيئاً ومشوهاً للإسلام, وخاصة في مجتمعات غير المسلمين, ومستشرقيهم ودوائر بحوثهم ودراساتهم الدينية والفكرية, حيث يعتبرون هذه المسألة دليلاً على امتهان واحتقار المرأة والحط من انسانيتها وكرامتها ومكانتها ودورها.. الخ. والواقع أن مسألة تعدد الزوجات استندت, أساساً, الى الآية القرآنية الكريمة: “وآتو اليتامى أموالهم ولا تبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم انه كان حوباً كبيرا ۞ وان خفت ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا” النساء 2-3, وقد ذهب المفسرون والفقهاء, في تفسير هذه الآية مذاهب شتى, فقهاء المذاهب “السنية”, مثلاً, قالوا بجواز زواج الرجل من أربع نساء ولا يجوز الزيادة عليهن الا إذا طلق واحدة أو أكثر من الزوجات الأربع ليستبدل بها أو بهن زوج أو زوجات أخر, لانهم اعتبروا ذكر العدد صعوداً “مثنى وثلاث ورباع” يتوقف العدد عن الأربع, لكن فقهاء المذاهب “الشيعية” قالوا بتسع زوجات وهن حاصل جمع (مثنى 2 + ثلاث 3 + رباع  4), على ان اللافت بان فقهاء الطرفين معاً اعتبروا تعدد الزوجات جائزاً ومباحاً بمدلول النص, لكن الغريب في الأمر انهم اجتزأوا الآية وسياقها, فالآيتان استهلتا بالتوجيه او الأمر الالهي باعطاء اليتامى اموالهم والنهي عن أكلها او اخذها او التصرف بها وضمها الى اموالكم باعتبار ذلك ظلم وجناية واثم كبير, ثم تواصل الآيتان بالحديث بفعل شرط “وان خفتم الا تقسطوا في اليتامى” واوردت جواب الشرط “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع” ثم تصدر الآيتان تنيهاً او تحذيراً او قل شرطاً لمتعدد يقول: “فان خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم”, اي العدالة بين الزوجات شرط لتعدد الزوجات, فان خشي الانسان وخاف من عدم قدرته على العدل فالأصل الاقتصار على زوجة واحدة, لأن اقامة العدل بين النساء غير ممكن مهما عمل الانسان لتحقيقه وذلك استناداً الى آية قرآنية اخرى تقول: “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل وتذروها كالمعلقة وان تصلحوا او تتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً ۞ وان يتفرقا يغنِ الله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيماً” النساء 129-130. لكن المفسرين والفقهاء تغاضوا عن “فعل الشرط” أو شرط جواز تعدد الزوجات واهملوه وركزوا على جواب الشرط, وهو جواز واباحة التعدد, حتى بدا تعدد الزوجات وكأنه مسألة جائزة شرعاً دون قيد أو شرط أو ضوابط, وان كانوا قد مروا مرور الكرام على شرط العدالة بينهن, لكن من غير تشدد أو وجوب الزامي, بل قالوا, بالاستناد الى الآية الأخرى: “ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل وتذروها كالمعلقة” فلا هي زوجة تتمتع بحقوق الزوجية ولا هي مطلقة السراح من قيد الزوجية, اي ينبغي معاملتها ولو بالحد الأدنى من العدالة, ومع تقادم العهد ومجيء حركات وتنظيمات “الاسلام الحزبي السياسي” المتشددة والمتطرفة, كما نراها في زمننا الراهن, بفهمها وفكرها وثقافتها غير المنسجمة بل والخارجة عن جوهر الدين القويم وتعاليمه واوامره ونواهيه ومقاصده كما اوضحها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز “القرآن المجيد”, جرى بث ثقافة وافكار اعتبرت تعدد الزوجات جائزاً بشرطه وضوابطه, بل اعتبرتها واجباً شرعياً يحبذه الدين ويدعوا اليه ويشجعه ويكافئ عليه!! ومارسوا عملية “غسل أدمغه” واسعة النطاق وعميقة الأثر في افكار وعقول مريديهم واتباعهم الحزبيين, رجالاً ونساء, وعلى وجه الخصوص بين “قطاعاتهم النسائية” حيث رأينا زوجات منهن يقمن, عن قناعة ورضى, بخطبة نساء أخريات لأزواجهن ويتولين زفافهن اليهم بكل أريحية باعتقاد انهن سيحصلن من الله سبحانه وتعالى جزاء واجراً عظيماً وفقاً للثقافة التي تلقتها من قبل جماعاتهن وتنظيماتهن الحزبية, ولم يقتصر الأمر على هذا المستوى فحسب, بل زادوا عليه تفسيراً وتحريفاً لباقي نص الآيتين: “فواحدة أو ما ملكت أيمانكم”, وقد تجلى سوء الفهم او التحريف للنص في الآتي: 1-    فالآية تتحدث عن فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم, هنا واضح بان حرف “أو” تخيري بين شيئين وهما هنا زوجة واحدة أو ما ملكت أيمانكم, لكن المفسرين والفقهاء جعلوا حرف “أو” التخييري وكأنه حرف “و” الاضافة, بمعنى الزوجة وما ملكت أيمانكم دون سقف أو عدد محدد, وفسروا “ملك اليمين” هنا وفي كل الآيات التي ذكرت ما ملكت أيمانكم في القرآن الكريم نساء ابتاعوهن بالمال من  اسواق الرقيق بأموالهم, ويجوز والحال هذه, ان يجامعوهن مباشرة دون حاجة لعقد قرآن أو اذن أهلهن ومتى ما شاءوا والادهى من ذلك ان يبيحوهن للممارسة الجنسية مع من يحبون من اصدقائهم ورجالهم دون ضوابط أو نظام, وسياق النص القرآني هنا يتحدث عن نكاح واحدة أو ما ملكت ايمانكم بما يفهم “واحدية” النكاح بمعنى زوجة واحدة أو واحدة مما ملكت ايمانكم فذلك اكثر اتساقاً مع سياق النص. 2-    ان المفسرين والفقهاء حسموا تفسيرهم لما ملكت الايمان بانهن نساء من ناحية, وانهن رقيق اشترين من اسواق بيع العبيد بالأموال لكن سياق الآيات التي ذكرت ما ملكت ايمانكم لن تحصر الأمر بالنساء فحسب ولم تشر الى انهن من الرقيق والعبيد, وحدد ضوابط وشروط الاقتران بهن او نكاحهن, ومنها الآيات التالية: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم ان الله لا يحب من كان مختالاً فخورا” النساء 36. “ومن لم يستطع منكم طولاً ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن اهلهن وآتوهن اجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات اخدان” النساء 25. “حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم واخواتكم… (الى آخر الآية التي تحدد “المحارم”)” وتليها الآية: “والمحصنات من النساء الا ما ملكت ايمانكم كتاب الله عليكم واحل لكم ما وراء ذلك ان تبتغوا باموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليماً حكيماً” النساء 23-24. “والذين هم لفروجهن حافظون ۞ الا على ازواجهم أو ما ملكت ايمانهم فانهم غير ملومين” المؤمنون 5-6. وفي آية الاستثناءات المجيزة للمرأة ابداء زينتها عليهم تقول الآية: “أو ما ملكت ايمانكم” النور 31. “لا جناح عليهن في آبائهن ولا ابنائهن ولا اخوانهن ولا ابناء اخوانهن ولا نسائهن ولا ما ملكت ايمانهن واتقين الله ان الله كان على كل شيء شهيدا” الاحزاب 55. “وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت ايمانكم فكاتبوهم ان علمتهم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم” النور. ويتضح امامنا, من سياق وعلى ضوء الآيات القرآنية سالفة الذكر, ان ما ملكت الايمان يشمل في اطاره رجالاً ونساء, فمثلما للرجال “ما ملكت ايمانهم” من النساء, فان للنساء ايضاً “ما ملكت ايمانهن” من الرجال, حيث ذكرت الآية اولاً “ولا نسائهن ولا ما ملكت ايمانهن” فهل تفسير المفسرين وفهم الفقهاء لحكم “ملك اليمين” ان يكن بالنسبة للرجال “ما ملكت ايمانهم” مباحات للمعاشرة الجنسية دون ضوابط او شروط او قواعد من عقد نكاح واذن أهلهن واجورهن وان يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات اخدان.. الخ, يسري على المرأة “ما ملكت ايمانهن” بذات ما يسري على الرجال؟! اضافة الى التوجيه والأمر الالهي الذي يأمر “وبالوالدين احساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم”, وذلك مما لم يعهد فيما يتعلق بالرقيق او العبيد عموماً.. ويبدو ان “ما ملكت الايمان” شيء مختلف عن الرقيق أو العبيد أو الاماء.. الخ, وربما كان الاقرب الى الفهم انهم فئة من النساء والرجال فقراء ومعوزين وضعفاء حال, اضطروا ان يلتحقوا بدائرة الخدم لدى المقتدرين مالياً مقابل لقمة العيش والحماية الاجتماعية والله أعلم. وعموماً فانه فيما يتعلق بتعدد الزوجات فان الأصل في الالسلام الزوجة الواحدة أو غيرها, وليس اضافة اليها, مما ملكت الايمان, والاستثناء هو “التعدد” بشرط ان يكن ارامل ذوات ايتام بحيث يكون الهدف من الاستثناء بإباحة “التعدد” هو الكفالة الاجتماعية والعناية والرعاية للأيتام الصغار الذين فقدوا عائلهم ومعيلهم. واما ما يتعلق بموقف الدين ازاء دور ومكانة المرأة في المجتمع, وجواز او عدم جواز توليها للوظيفة العامة بمختلف مجالاتها ومستوياتها وبدون استثناء, فان الله جل جلاله يجعل أمر مجتمع المؤمنين شورى بينهم, وأمر المجتمع هنا يشمل كل جوانب وشئون حياة المؤمنين بدون تقييد قال تعالى: “والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” الشورى 38, ومجتمع المؤمنين هنا يشمل الرجال والنساء معاً, والله تعالى, في بداية الخلق خاطب آدم وزوجه معاً وعلى قدم المساواة ودون تمييز أو مفاضلة, وثم توالت الآيات لتؤكد على هذه الحقيقة: ” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة” التوبة 71, والآية: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” البقرة 228, والآية: “يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم”, والآية: “ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك عن المفلحون” آل عمران 104, والواقع ان الله سبحانه وتعالى قد ميز واكرمها اكثر من الرجل حيث خصها بسورة من كبريات سور القرآن الكريم وهي “سورة النساء”, واكد على حقوقها المتساوية مع الرجل وفرض ضمانات وآليات في سور “القرآن الكريم” لحمايتها من الجور والظلم والاضطهاد وعدم الاعتداء عليها او حتى مضايقتها أو ابتزازها على نحو ما اوضحناه آنفاً في سياق حديثنا عن المرأة, ولعل هناك بعض آيات القرآن الكريم التي تأمر الناس بالإحسان والبر بالوالدين وتذكر الوالدين معاً ابتداءً ثم سرعان ما تتحدث عن فضل وتضحيات الأم تحديداً, خذوا مثلاً الآية الكريمة: “ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين ان اشكر لي ولوالديك اليّ المصير” لقمان 14, وأيضاً الآية الكريمة: “ووصينا الانسان بوالديه احساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً  وحمله فصاله ثلاثون شهراً” الاحقاف 15. وخلاصة القول في حديثنا هذا  حول نظرة الدين للمرأة ودورها ومكانتها في المجتمع انه وعلى النقيض تماماً من اقوال القائلين, باسم الدين بهتاناً, بان المرأة عاجزة وناقصة عقل وضعيفة ولا تصلح التولي وادارة شئون وسلطات الحكم والدولة العليا, فان الله سبحانه وتعالى, وكما بينا ذلك آنفاً من سياق الآيات القرآنية, ساوى بين الرجل والمرأة في مهام ومسئوليات شئون وحياة المجتمع بقوله تعالى: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”, ومعلوم ان قوام العمل العام في المجتمع يتمحور اساساً في مجمله حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع المستويات والمسئوليات, والقول بان المرأة مكانها ونطاق عملها البيت فقط يصل الى حد الافتراء على الله الكذب من ناحية, ومن ناحية أخرى فقد دلت تجارب محدودة في التاريخ, تمكنت فيها المرأة من الافلات من دائرة الحصر والحصار, تولت فيها المرأة في تاريخنا ومجتمعاتنا الاسلامية القديمة الملك والحكم, مثل الملكة أروى بنت أحمد في اليمن, والملكة شجرة الدر في مصر ومنهن من قدن الجيوش لمحاربة الطغيان والظلم وانتصرن على جيوش الحجاج في العراق واعتلين منابر المساجد خطيبات, وفي مجتمعاتنا الاسلامية المعاصرة أيضاً مثل بنظاير بوتو في باكستان, والشيخة حسينة وغيرها في بنغلاديش, وتانسوشيلر في تركيا, ناهيك عن المجتمعات غير الاسلامية مثل انديرا غاندي في الهند, وباندرانيكا في سيرلانكا, ومارجريت تاتشر في بريطانيا, وغيرهن, اتسم حكمهن بدرجة عالية من الحكمة والكفاءة والانجاز النوعي والكبير وحققن لبلدانهن الانتعاش والازدهار والتقدم والسلام والطمأنينة والأمن والأمان  والرقي اكثر بكثير من حكم الرجال, ولا غرابة في ذلك لأن حكمة الله تعالى ومشيئته خصتها بميزات وصفات ومقومات طبيعية بيولوجية فسيولوجية نفسية عديدة تؤهلها للإنجاز والابداع وحسن الأداء مما لا يتوفر للرجال, فعاطفة الامومة المفعمة بالحنان والحب والتضحية والصبر والتحمل يخلق لدى المرأة شعوراً عالياً بالمسئولية وحب السلام والوئام, وكراهية نزعات الشر والحروب والجمار, والحرص على توفير جو الأمن والاستقرار والأمان, وعشق النظام وحسن الترتيب والتنظيم ودقته وجماله وموهبة التدبير والاقتصاد, ومع القدرة الفائقة على الصبر والتحمل والتأني وتقدير الأمور بهدوء وروية فانها في اللحظات التي تتطلب الصرامة والحزم والحسم فإنها لا تتردد في اتخاذ المواقف بالغة القوة والعزم والاصرار دون خوف أو وجل, كل ذلك يمثل المرأة ويتمثل بها ويتجسد فيها, فالمرأة اختارها الله الخالق البارئ المصور وأعدها وكونها كحاضنة للحياة ومنشئة لها وحافظة لاستمراريتها, فيها وبها تتكون الحياة وترضع وتنمو وتحفظ, ثم يأتي علينا زمن نسمع فيه من يزعق ويهذي ويقول بانها ناقصة عقل ودين وخلقت من ضلع أعوج وانها عورة وعار ومصدر الرذيلة والانحراف وانها لا تصلح الا للجنس فقط وحبيسة البيت والخدمة والطاعة العمياء, دون ارادة أو مكانة أو تقدير! ساء ما يحكمون.. ويقيناً انه لو ولينا المرأة دفة القيادة لما شهدت بلداننا ما تعانيه من تدهور مريع في كافة مجالات حياتنا واوضاعنا وقد وصلت الى حد الانهيار والتحلل, ولكان حالنا واحوالنا واوضاعنا وحياتنا افضل بكثير, وبما لا يقارن مما هي عليه اليوم, فمن تحتضن الحياة وترعاها وتنشئها تعرف تماماً كيف ترعاها وتطورها وتحفظها وتحافظ عليها وتصفي على الحياة صفة الديمومة والخلود.     سادساً: التكافل الاجتماعي والمسئولية التضامنية في الاسلام: احتلت مسألة العدالة الاجتماعية من خلال التضامن والتكافل الاجتماعي والمسئولية التضامنية بين افراد المجتمع, مكانة محورية واساسية في دين الله القويم برسله وانبيائه ورسالاته المتعاقبة عبر الزمن كافة, وفي رسالة الله تعالى “القرآن الكريم” التي انزلها الله جل جلاله وحياً على رسوله الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وعلى جميع رسله وانبيائه وآله الطيبين, ليبلغها للعالمين ويبشر بها الناس كافة, بمختلف اجناسهم واصولهم ولغاتهم ومعتقداتهم, باعتبارها الرسالة الالهية الخاتمة لرسالاته  الله ورسله وانبيائه, ركز القرآن الكريم تركيزاً كبيراً على هدف تحقيق العدالة الاجتماعية عبر شتى السبل والوسائل والآليات الايجابية والفعالة, والتي تدور, في مجملها, حول تكافل المجتمع وتضامنه ومسئوليته في تحقيق هدف العدالة الاجتماعية عبر الزكاة والصدقات والانفاق العام في سبيل الله, واذا كان هدف الدين, بمختلف رسالاته المتعاقبة, الارتقاء بالإنسان الفرد, ومن ثم المجتمع, ليصل الى الايمان بالله الخالق, بالغيب, والايمان برسله ورسالاته جميعاً, وعبادة الله البارئ المصور بالصلاة والذكر والأعمال الصالحة في الحياة الدنيا, أساساً ومقياساَ للثواب والعقاب في الحياة الآخرة, فان القرآن الكريم, شأنه في ذلك شأن سائر الرسالات الالهية السابقة عليه, في جل آياته وتعاليمه واوامره ونواهيه, ربط ايمان المؤمن بالله ورسله ورسالاته وعبادة الله وذكره واقامة الصلاة والتقوى بإيتاء الزكاة والصدقات والانفاق العام في سبيل الله بمفهومه الواسع واللامحدود, ربطاً عضوياً محكماً, واقتراناً لا فكاك منه.. ولا يستقيم ايمان المؤمن ويحسن الا بالتقيد والالتزام بطرفي معادلة الايمان الحق: عبادة الله الخالق والتسليم له وايضاً بإيتاء الزكاة والصدقات والانفاق العام في سبيل الله, ودين الله القويم يتأسس وينبني في هاتين المسألتين من مسلمتين أساسيتين: الأولى: ان الله سبحانه يقتضي وجوباً خضوع خلقه والتسليم له واخلاص العبودية والتعبد له وحده ايماناً بانه خالق بارئ مصور للانسان والكون كله بمن فيه وما فيه. الثانية: ان كل ما في الوجود صنع الله الذي احسن صنع كل شيء وبالتالي فهو ملك أصيل لله وهو المتصرف الوحيد فيه وبه دون منازع. وانطلاقاً من هاتين المسلمتين الاساسيتين البديهيتين, فان المال, كل المال, بمفهومه ونطاقه الشامل, من خيرات وثروات ومصادر ومنتجات, هو مال الله المالك الحق المبين ومالكه وموجده, مسخر لصالح الانسان وسعادته وبقائه, ووضع الانسان ازائه وضع المستخلف أو المؤتمن فيه وعليه او الوكيل الاصيل في ادارته والتصرف به على النحو الذي حدده المالك الاصلي… تعالوا نتأمل دلالات ومعاني الفاظ الآيات القرآنية التالية: –         “آمنوا بالله ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم أجر كبير” الحديد 7. –         “قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال” ابراهيم 31. –         “وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا” الاسراء 26. –         “يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون” البقرة 267. –         “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فان الله به عليم” آل عمران 92. –         “والذي في اموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” المعارج 24. –         “كلو من ثمره اذا اثمر وآتوا حقه يوم حصاده” الانعام 141. –         “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة واحسنوا ان الله يحب المحسنين” البقرة 195. –         “ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء” محمد 38. –         “ومالكم الا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والارض” الحديد 10. –         “فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” التغابن 16. –         “الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين” آل عمران 134. –         “الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ۞ اولئك هم المؤمنون حقاً” الانفال 3-4. –         “وآتوهم من مال الله الذي آتاكم” النور 33. –         “فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذي يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون” الروم 38. –         “ان الذين يتلون كتاب الله واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وانفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور  ۞ ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله انه غفور شكور” فاطر 29-30. –         “يوفون بالنذر ويخافون يوماً مان شره مستطيرا ۞ ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً واسيرا ۞ انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا” الانسان 7-9. –         “والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ۞ يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون” التوبة 35. –         ولا يحسبن االذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شراً لهم سيطوقون ما نجلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير” آل عمران 180. –         “الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً” النساء 38. –         “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكيبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة” الاعراف 156. –         “والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة” التوبة 71. –         “انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله” التوبة 60. –         “وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة وآتى الزكاة” البقرة 177. وبالإضافة الى هذه الآيات المذكورة آنفاً, فإن هناك كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة الأخرى التي تربط وتقرن الصلاة وعبادة الله وفي وصف الذين آمنوا دائماً بالزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله, ولا تكاد تجد آية او آيات تشذ عن هذه القاعدة الثابتة إلا في القليل النادر, وهي جميعها تؤكد بان هذا الترابط والتلازم الوثيق والاقتران الثابت بين طرفي معادلة الايمان بالله تعالى ودينه القويم, كان هو المنهج الذي سارت عليه ودعت اليه كل رسالات دين الله القويم, وعمل به وبلغه لبني البشر كل رسل الله جل جلاله وانبيائه المكرمين على اختلاف العصور والازمان بغض النظر عن الاختلاف في التفاصيل والمدى والتطبيق من واحدة الى أخرى من تلك الرسالات الالهية المرسلة للإنسان على الأرض.. ومن سياق ودلالات معاني والفاظ كل تلك الآيات الكريمة يمكننا ان نستخلص الحقائق الرئيسية التالية: 1)    ان اوامر الله الخالق الاعظم بإيتاء الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله صادرة عن الملك أو المالك الاصلي لكل شيء في الوجود والمتصرف الاول فيها, باعتبار المال, كل المال, مال الله, وعلى امن استخلفه فيه واعطاه التوكيل في ادارته نيابة عنه, اي الانسان, الالتزام والتقيد بما امره الله فيه وجوباً والزاماً. 2)    ان الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله, باعتبارها من المسائل المتعلقة او المرتبطة بالمجال الاقتصادي العام للمجتمع, هي بمثابة حق ونصيب منحه الله جل جلاله واوجبه وفرضه لفئات وشرائح محددة من المجتمع, في الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ولصالح اعتاق او تحرير العبيد والمؤلفة قلوبهم والغارمين اي الذين أفلسوا مالياً, في سبيل الله اي كل اعمل الخير والبر, فريضة من الله وليس احساناً أو تفضلاً من الاغنياء ووفقاً لأمزجتهم واهوائهم, وانما واجب ديني ثابت وملزم, وهي من الوسائل والتدابير والآليات والمعالجات الفعالة والناجحة, متا ما اخرجت بصدق وأمانة, لمعالجة اوضاع الفقر والعوز والمجاعات والتخلف والمرض والجهل في المجتمع, وتقوية اواصر ووشائع التلاحم والتضامن والسلام الاجتماعي والأمن والاستقرار العام في المجتمع, الذي تعود نتائجه وفوائده اقتصادياً واجتماعياً على كل فئات وشرائح المجتمع, وفي مقدمتها فئات وشرائح الاغنياء والاثرياء, ودين الله القويم, في هذا الصدد, يتعامل مع حقائق الواقع ومعطياته, كما هي قائمة, فيقرر للفئات والشرائح الفقيرة والمعوزة والمعدمة وغير القادرة حقوقاً مفروضة وواجبة, دون النظر الى أسبابها وعوامل نشوئها كما هو الحال لدى منظري ومفكري غلاة الفكر الرأسمالي الذين يرون بان الأغنياء حصلوا ما حصلوا عليه من ثروات واموال وغنى بفعل قدراتهم ومهاراتهم وجهدهم وابداعاتهم, وبالمقابل, فالفقراء والمعوزين كسالى وخاملين ولم يبذلوا جهوداً ولم يعملوا بذكاء وتصميم لتحسن مستويات معيشتهم واوضاعهم الاجتماعية وبالتالي فليس من العدل والانصاف ان يعطوا من ناتج عمل وانجازات المجدين النشطين المنتجين.. الخ, فالدين هنا يتعامل مع واقع ملموس ويعالج مشكلات قائمة, من اجل العيش المشترك والسلام الاجتماعي الداخلي للمجتمع وتحقيق أقصى درجات الوئام والانسجام والتعاون ووحدة النسيج المجتمعي الواحد. 3)    ان الدين القويم ينطلق من مسلمة بدهية أساسية وهي ان الله الخالق الأعظم خلق السماوات والأرض وما فيها من خيرات وموارد وثروات, على كافة أنواعها وأشكالها, للناس كافة على تعاقب اجيالهم وذرياتهم, “والارض وضعها للأنام” الرحمن, وتلك هبة الخالق لكافة خلقه, وبالتالي فان لكل انسان في المجتمع نصيب متساوٍ وعادل من تلك الخيرات والموارد والثروات الطبيعية كافة مثله مثل غيره من اخوانه في المجتمع, ولهذا يمكن اعتبار الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله وكأنها بمثابة عائد استثمار الأغنياء والميسورين والرأسماليين للنصيب الثابت الذي تملكه تلك الفئات والشرائح الفقيرة والمعوزة وغير القادرة من خيرات وموارد وثروات  الأرض التي جعلها الله ملكاً للناس كافة, وهو عائد عادل واجب الأداء والسداد اذا ما نظرنا اليه من زاوية اقتصادية استثمارية عادية.. 4)    والثابت ان الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله, هو يشمل كافة أعمال الخير والبر والاحسان, من شأنه أن يعمل باستمرار على الارتقاء بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويرفع من مستويات معيشتهم ومداخيلهم المالية, وهذا يؤدي بدوره الى تزايد قدراتهم الشرائية للسلع والمنتجات التي ينتجها الأغنياء والرأسماليون وبالتالي يساعد على استمرار دوران عجلات مصانعهم ومشاريعهم وتحسين مستواها ونوعيتها وكميتها باستمرار من ناحية, ومن ناحية أخرى يحول دون حدوث تفجرات وثورات وتمردات اجتماعية خطيرة ومدمرة بسبب ضغوط ومعاناة الفقر والجوع والحاجة ويخلق قدراً مهماً من التجانس والألفة والوئام والسلام والوحدة المجتمعية في ظل حالة أمن واستقرار وطمأنينة وهو وضع في صالح الجميع في المحصلة النهائية. 5)    ان الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله باعتبارها حقاً اقتصادياً عادلاً ومشروعاً من حقوق الفئات والشرائح الفقيرة والمعدمة والمعوزة, منحه الله خالق كل شيء للناس كافة, كما أوضحنا ذلك آنفاً, فيجب أداؤه بطريقة وأسلوب لا يمس كرامة الانسان ولا يجرح مشاعره, بل بأسلوب انساني كريم وراق, وفي هذا يقول الله جل جلاله بقول مفصل دقيق وواضح: “الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا مناً ولا اذى لهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هن يحزنون  ۞ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ۞ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رياء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر مثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين” البقرة 262-264. تلك هي أبرز وأهم الحقائق الرئيسية التي امكننا استخلاصها من خلال سياق ودلالات الآيات المتعلقة بهذا الجانب, ولكن ما هي حدود او سقوف الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله؟ الواقع ان التأمل في الآيات القرآنية الكريمة ودلالاتها اللفظية توضح لنا بان الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله تتحرك داخل هامش منحصر بين حدين أعلى وأدنى, في مستويات عدة متروكة لخيار الانسان ورغبته, على ان لا يتجاوز أو يتعدى الحدين الادنى والأعلى. فالزكاة مثلاً التي يرد ذكرها بالتلازم مع الصلاة والذكر وعبادة الله والايمان به في القرآن الكريم, هي الواجب الديني الملزم والثابت الذي يجب على المؤمن اتباعها, والتي أجمع الرأي على انها بمقدار 2.5% من مال حال عليه الحول لمن توافرت فيه شروط ايتاء الزكاة وهي تمثل الحد الأدنى المفروض , ويلي الزكاة الصدقات وتتموضع في منتصف الهامش وهي غير الزكاة والصدقات متعلقة برغبة المؤمن وسعيه الى نيل مرضاة الله وثوابه, وحولها تقول الآيات: –          “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” التوبة 103 –           “انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل” التوبة 60. –         “وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة وآتى الزكاة” البقرة 177. ثم يأتي الانفاق في سبيل الله ويتسع مجاله وميدانه ليشمل كل اعمال الخير والبر والاحسان بما في ذلك رعاية طلبة العلوم والمدارس والمستشفيات ومشاريع الخدمات العامة وتمويل الدفاع العسكري عن النفس وصد العدوان ومناصرة المستضعفين ورعاية الأيتام والعجزة والطرقات العامة ورعاية الأسرى واطعامهم وغير ذلك كثير جداً من أعمال الخير والبر والاحسان وخدمة المجتمع, والانفاق في سبيل الله بمفهومه هذا الواسع النطاق يصل الى الحد الأعلى أو الأقصى في سلم الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله الذي يكاد فيه المؤمن ان يصل الى مستوى انفاق كل ماله الا ما يكفيه لضرورات حياته, وحول هذا المستوى تقول الآيات القرآنية الكريمة: “يسألونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تقعلوا من خير فان الله به عليم” البقرة 215. “يسألونك ماذا ينفقون قل العفو” البقرة 219. “والعفو هنا, من حيث المعنى اللغوي, هو كل ما زاد أو فاض عن حاجة الانسان ومتطلباته الاساسية, حيث حددت, بحسب بعض الفقهاء, بحاجة الانسان بما يكفيه ليوم, ومن قال يومين او ثلاث أو اكثر قليلاً. وعلى ضوء كل ما سبق يتضح أن دين الله القويم يذهب الى أبعد الحدود لإقامة مجتمع انساني مثالي تسوده ارقى اشكال العدالة الاجتماعية وتتقلص فيه الفوارق والامتيازات الطبقية بين فئاته وشرائحه الاجتماعية بمختلف مستوياتها, مجتمع يعيش في ظله جميع أبنائه بكرامة وسعادة ووئام وتقدم وازدهار, مجتمع لا يكفل لفقرائه ومعوزيه وعاجزيه الكفاف من العيس بل يسعى ليكفل لهم متوسط الحياة الاجتماعية, وانطلاقاً من هذا الهدف الكبير, راح بعض المفكرين والفقهاء يغوصون في طبيعيه وأسسه وتفاصيله, فالزيدية, مثلاً, ذهبت في تعريفها “من هو الفقير” الذي يحق له الحصول من اموال الزكاة والصدقات والانفاق في سبيل الله, اي من “بيت مال المسلمين” فقالت انه الشخص الذي يملك منزلاً يؤيه وأسرته, ويملك “دابة” تنقله ويقضي بها حاجته, اي بتعبير معاصر” وسيلة مواصلات, ويؤجر “خادمة” لمساعدته وأسرته, في حالة كون زوجته عاجزة وغير قادرة على العمل, ويحق له وامثاله الحصول على مساعدة من “بيت مال المسلمين” تكفيه ليعيش في الحد المتوسط لحياة المجتمع, اما من هم دونه حيث حياتهم ومعيشتهم فالأصل ان وضعاً كهذا غير مقبول وينبغي محاسبة الدولة انها لم تقدم لها الحلول ولم تحل دون بلوغهم ذلك الحد المتدني من العيش. فهذا هو دين الله القويم في بنائه وتأسيسه للمجتمع الأمثل, كما فهمناه واستخلصناه من كتاب الله العزيز “القرآن الكريم”, وهو المجتمع الذي لم يعد محط أنظار او اهتمام أو سعي حركات وتنظيمات “الاسلام السياسي الحزبي” التكفيرية المتطرفة والارهابية, بل باتت تشكل معول هدم وتدمير له بمقوماته واسسه ومضامينه واهدافه الانسانية السامية, وفقاً للمنهج الانحرافي الذي ابتدعوه وساروا على ضوئه والمناقض لتعاليم ومقاصد وقيم دين الله القويم, على نحو ما اشرنا اليه وفصلناه في سياق ابواب هذا الكتاب.     سابعاً: موقف الدين من الكذب والاحتيال وما شاكلها: استعرضنا في الباب الأول خاصة وفي سياق ابواب هذا الكتاب, وبينا طبيعة دين الله القويم وتعاليمه واهدافه ومقاصده, كما بينتها آيات كتاب الله العزيز “القرآن الكريم”, واتضح لنا بان الهدف المحوري الاكبر للدين تكوين وبناء الانسان قيمياً وسلوكياً واخلاقياً على نحو متكامل ومتناسق ومن هذا الانسان الراقي والمثالي يتكون المجتمع الانساني, وذلك لينهض هذا الانسان الفرد والمجتمع بدوره ومسئولياته في الحياة الدنيا على افضل وأنقى ما يكون, لينال ثواب ذلك في الحياة الآخرة يوم القيامة, حيث زوّد الخالق الأعظم الانسان, فرداً وجماعة, بمنظومة متكاملة ومتضافرة من القيم والمثل والتعاليم المحققة لرقيه وسمو انسانيته بمكارم الاخلاق والسلوكيات القويمة والايجابية أمراً بالتزامها والتقيد بها في كافة مجالات حياته وشئونه وعلاقاته, وناهياً عن كافة اشكال الرذائل والسلوكيات السيئة والفواحش والانحرافات المدمرة المهلكة للفرد والجماعة معاً, وذلك على نحو ما فصلناه في ابواب هذا الكتاب, وخاصة الباب الأول منه والمتعلق بالدين من حيث طبيعته ومقاصده واهدافه, حيث تبين لنا بان دين الله القويم, بتعدد وتعاقب رسالاته ورسله وانبيائه, للبشر من خلقه, اعطى اهتماماً خاصاً وكبيراً للمسائل الاخلاقية والسلوكية الحاضنة والداعية الى ضرورة التزام الانسان بفضائل وسلوكيات الصدق والامانة والحق والعدل وقلها قيمة حرية الانسان وصيانة كرامته وآدميته, وشهادة وقول الحق ولو على الانسان نفسه أو والديه وأقاربه المقربين, واعتبر ايمان الانسان بالله وبدينه القويم غير ذات معنى أو قيمة مالم يقترن بتلك القيم والمثل والاخلاقيات والسلوكيات القويمة السامية, والله الخالق, جل جلاله, اراد من وراء انزال رسالات دينه القويم على البشرية, عبر مراحل زمنية متعاقبة, وعبر تعاليم الدين واوامره ونواهيه, بناء الانسان الصادق المستقيم, والصدق, كما نستخلصه من رسالة دين الله الخاتمة “القرآن المجيد”, يشمل قول الحق وأداء الشهادة بالحق ولو على حساب النفس او الوالدين والاقربين, والحكم بالعدل اذا ما حكم ولو كان ذا قربى, ولا يؤثر على المؤمن ظلم وعدوان وجبروت الآخرين وطغيانهم في الحكم بينهم بالعدل والحق أي بالصدق, كما تشمل قيمة وخلق الصدق, أيضاً, أداء الامانات الى اهلها, والابتعاد الكلي عن كافة اشكال وصور المغالطات والغش والتحايل في المكاييل والموازين, واجتناب قول الزور وشهادة الزور, والصاق التهم الباطلة بالأبرياء وتدبير المكائد والتلفيق ضدهم, وكذا الالتزام والوفاء بالعهود والعقود والمواثيق, والابتعاد عن التحايل بهدف الاستيلاء على أموال الآخرين واكلها بالتزوير والباطل, وعدم الامتناع عن اداء الشهادة بالحق اذا دعوا اليها, واقتران القول بالعمل والامتناع عن أمر الناس بأعمال البر وهو لم يعمل بها ويطبقها في سلوكه ابتداء. كل هذه الاخلاق والقيم الكريمة والسلوكيات القويمة, التي وضعها الدين وأمر بالالتزام والتقيد بها وتطبيقها سلوكاً يومياً في كل جوانب الحياة, هي التي تصوغ وتبني وتخلق المؤمن الصادق في اقواله وافعاله, وبغيابها يصبح الايمان بالله وبدينه القويم مجرد شكل اجوف فارغ من اي مضمون أو قيمة أو محتوى. وكثيرة هي الآيات الواردة في القرآن الكريم, كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, التي تحث وتشجع وتوجب على المؤمن تنفيذها والعمل بها قولاً وممارسةً, حتى يكون انساناً صادقاً مثالياً ومتكاملاً, ونحن نكتفي باقتباس مجموعة من تلك الآيات وذلك كما يلي: –         “فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور” الحج 30. –         “والذين لا يشهدون الزور واذا مروا باللغو مروا كراماً” الفرقان 73. –         “ومن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله” البقرة 140. –         “ولا نكتم شهادة الله انا اذن لمن الآثمين” المائدة 106. –         “وأوفوا بعهد الله اذا عاهدتم” النحل 91. –         “وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسئولا” الاسراء 34. –         “وأوفوا بالكيل اذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم” الاسراء 35. –         “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم والوالدين والأقربين ان يكن غنياً أو فقيراً فالله اولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا” النساء 135. –         “ولا يأبى الشهداء اذا ما دعوا ولا يضار كاتب ولا شهيد وان تفعلوا فانه فسوق بكم” البقرة 282. –         “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون” النور 4. –         “ومن يكسب خطيئة أو اثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً واثماً مبيناً” النساء 112. –         “والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً واثماً مبيناً” الاحزاب 58. –         “واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى” الانعام 152. –         “ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون” البقرة 42. –         “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل” النساء 29. –         “وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم” غافر 5. –         “الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق” الرعد 20. –         “يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود” المائدة 1. –         “واوفوا الكيل والميزان بالقسط” الانعام 152. –         “فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم” الاعراف 58. –         “واذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا” الانعام 152. –         “ويل للمطففين ۞ الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون ۞ واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون” المطففين 1-3. –         “ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها” النحل 91. –         “فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية” المائدة 13. –         “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ۞ كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون” الصف 2-3. –         “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وانتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون” البقرة 44. –         “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى” المائدة 8. –         “فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدِ الذي أوتمن امانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثم قلبه والله بما تعملون عليم” البقرة 283. –         “إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل” النساء 58. هذه الآيات, وغيرها الكثير من الآيات القرآنية الكريمة, الهادفة الى بناء وتشكيل وخلق الانسان المؤمن المثالي صادقاً اميناً مستقيماً في اقواله وافعاله في اخلاقه وسلوكياته, وفي علاقته بنفسه وخالقه ودينه ومجتمعه الانساني الأوسع, والواقع ان “الاسلام” نحج إلى حد كبير في خلق وبناء أناساً مؤمنين, كانوا نماذج مشرقة للإنسان المؤمن الصادق في سلوكه وتعاملاته وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي, وليس أدل على هذا من حقيقة ان الدين – الاسلام انتشر وترسخ في البلدان والمجتمعات التي تشكل اليوم التجمع السكاني العددي الأكبر للمسلمين في العالم, في شرق آسيا وافريقيا, على ايدي تجار ورحالة وبتأثير استقامة اخلاقهم وسلوكياتهم وتعاملاتهم الصادقة الامينة مع الناس, فكانوا بمثابة النماذج الجاذبة والقدوة الحسنة والايجابية التي استقطبت الاعجاب داخل تلك المجتمعات البشرية فاقتدوا بها ودخلوا في دين الله القويم افواجاً طواعية وباختيارهم الحر دون غزو أو اعمال للسيف والقوة.. وهذا هو, بالتحديد, هدف الدين وغايته ومقصده ان تكون دعوة الناس الى الايمان به والدخول في رحابه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة أو المحاججة بالتي هي أحسن وباللين من القول وان يقول الدعاة للناس حسناً دون غلظة أو فجاجة أو قهر أو اكراه أو ارهاب, واحترام معتقدات الآخرين واجتناب الاساءة والتسفيه لها ومعتنقيها, وبقوة تأثير وجذب القدوة والأسوة الحسنة قولاً وفعلاً. غير أن هذا النموذج الإيجابي المشرق الذي بناه المسلمون, عبر التاريخ الاسلامي, بالقدوة والأسوة الحسنة وبالدعوة السليمة الودية بالحكمة والموعظة الحسنة وبالحب والمشاعر الودية وبالتعاملات المستقيمة, وهو النموذج الذي يعود اليه الفضل اكبر من الغزوات والفتوحات العسكرية, في نشر الدين أو الاسلام وتوسيع رقعته ومساحته الجغرافية في ارجاء الأرض, نراه في المرحلة الأخيرة يتقلص وينكمش ويتوارى شيئاً فشيئاً, وخاصة مع ظهور وبروز جماعات وحركات وتنظيمات ما يسمى “الاسلام الحزبي السياسي” بأفكارها وثقافتها المضللة والمنحرفة عن طبيعة الدين الاسلامي وطبيعته وجوهره وتعاليمه واهدافه ومقاصده السمحة السامية, وبمناهجها واساليبها القائمة على القوة والعنف والارهاب الاسود, وبخطاباتها العاشقة والممجدة للقتل وسفك الدماء والترويع لكل ما هو ليس منها, مسلمين وغير مسلمين, وبمشاعر وروح الكراهية والعداء والمحو للآخر كله الذي هو خارج أطرها وقوالبها المغلقة المظلمة والمنعزلة عن محيطها المجتمعي وحقائق العصر ووقائعه ومكاسبه ومنجزاته, ونراهم في كل مكان وصلته أيديهم يشعلون نيران الفتن والحروب المذهبية والطائفية والدينية والعنصرية مخلفين فيها الكوارث والمآسي المريعة الناتجة عن القتل الجماعي العشوائي وازهاق الارواح البريئة وسفك الدماء والخراب والدمار واشاعة الارهاب والترويع والفزع داخل المجتمعات الآمنة المستقرة دون هدف أو مسوغ أو غاية معروفة يسعون لتحقيقها, وانتشرت ثقافة باسم الدين أو الاسلام, تزداد توسعاً وتعمقاً في اوساط العامة من المسلمين وخاصة منهم  الاجيال الجديدة والشابة ذات الثقافة والمعرفة الدينية السطحية والضحلة, تقوم على منهج تكفيري عدمي لكل شيء خارج نطاق وأطر تلك الجماعات والحركات والتنظيمات الداخلة في نطاق “الاسلام الحزبي السياسي” والقائمة على العنف والارهاب والقتل والتدمير, سواء أكانوا من اتباع معتقدات دينية غير اسلامية, أو اتباع مذاهب وتيارات وحركات اسلامية, أو احزاب وقوى سياسية ليبرالية ويسارية وقومية ووطنية, ليصل الأمر, في الآونة الأخيرة الى حد تكفير بعضها بعضاً واشتعال نيران اقتتال رهيب وبالغ الشراسة بينها نفسها! وتغيرت الى حد كبير نظرة وموقف بلدان العالم, غير الاسلامية ازاء الاسلام والمسلمين, حيث تنامت مشاعر العداء والكراهية تجاه وضد كل شيء يمت الى الاسلام بصلة, ووفقاً لتلك النظرة الجديدة فقد اصبح الاسلام ارهابياً ومدمراً وكل مسلم بالنتيجة ارهابي ومجرم, واصبح كل مسلم يعيش او يزور تلك البلدان, وهم كثر, بمجرد الاشتباه به كمسلم سواء عبر ملامحه ولون بشرته أو بواسطة هويته واسمه, مخاصراً وسط جو مخيف من الشك والريبة والتوجس, وهدفاً لعبارات ومواقف الكراهية والعداء والازدراء, وعلى نحو وبمستوى لم يكن قائماً قبل فترة عقود من الزمن ماضية. غير ان ما يهمنا في سياق حديثنا حول هذا البند من بنود الباب الرابع من هذا الكتاب, يتثمل في انه, وبفعل تراكم وتزايد تأثير الثقافة المغلوطة عن جوهر الدين او الاسلام الصحيح, وطبيعته الايجابية, واهدافه مقاصده وتعاليمه السمحة والراقية, كما أوضحناها وفصلناها في سياق الباب الأول من هذا الكتاب, وتشويه صورته وحقيقته الأصيلة, واقحام مفاهيم وآراء ومواقف دخيلة عليه, ولا تمت لدين الله بأي صلة, بل تتناقض تناقضاً صارخاً مع احكامه وتعاليمه واوامره ونواهيه قطعية الدلالة والثبوت بصريخ نصوص الآيات القرآنية, فقد نشأ, على مضامين تلك الثقافة والمفاهيم الدينية المنحرفة والمغلوطة, جيل تلقفها وتشربها وتمسك بها دون تدقيق او تمحيص يقارنها ويعرضها على كتاب الله العزيز “القرآن المجيد”, خاصة أن معظم هذا الجيل كان من العامة الغير واعية او من الشباب ذوي ثقافة ومعرفة عامة ودينية بالأخص سطحية وبالغة الضحالة للأسف الشديد, بل ان ما هو أمّر وأدهى ان من هذا الجيل اعداد لا بأس لها من اصحاب مؤهلات التعليم الجامعي والعالي ورغم من ذلك يأخذون تلك الثقافة العوجاء ويسلمون بها تسليماً تلقائياً وخاضعاً دون مناقشة اذ يعتبرونها من المسلمات الدينية ومن دواعي الايمان الديني واجبة الطاعة العمياء دون اخضاعها لمنهج القرآن الكريم واحكامه أو التعاطي معها وفق قواعد النظر العقلي.. ولهذا نجدهم يقومون بممارسات وافعال وتصرفات, هي في نظر قواعد الاخلاق العامة المتعارف عليها انسانياً وكذا في نظر التعاليم الدينية الصحيحة, مستهجنة ومقبوحه ومذمومة, ومنها وفي مقدمتها الكذب والنصب والتحايل والتزوير وشهادة الزور بل وحتى السرقة واختلاس الأموال, عامة كانت أم خاصة, بدون وجه حق وبشكل غير مشروع, واستمراء حياة الكسل والدعة والتحايل والتزوير والكذب من اجل العيش عالة على المجتمع والاقتيات من اموال ضرائب وعائد انتاج العاملين المكافحين, واللافت للنظر ان مثل هذه السلوكيات المنافية للأخلاق والقيم المجتمعية وللتعاليم الدينية أيضاً, تنتشر وتتوسع شيئاً فشيئاً في اوساط الجاليات المسلمة المهاجرة والمقيمة في بلدان الغرب الاوروبي والامريكي وغيرهم من المجتمعات المتقدمة غير الاسلامية في العالم, حيث سادت لدى اجهزتها الادارية المختلفة وشرائح من الرأي العام فيها, نظرة سلبية ومقيتة للمسلمين القاطنين فيها على انهم محترفو الكذب والنصب والاحتيال والتزوير واستحباب العيش عالة على المجتمع, وحين يتعاملون معهم فان تعاملهم يتسم عادة بقدر كبير من الحذر والحيطة والتيقظ والتدقيق والتحري الزائد, بل اكثر من ذلك تسببت تلك الممارسات السيئة واللا أخلاقية من قبل بعض الجاليات الاسلامية المقيمة في تلك الدول الى ادخال سلسلة التعديلات المتعاقبة على قوانينها  ولوائحها واجراءاتها على ضوء ما تستكشف من حيل وأساليب الكذب والنصب والاحتيال والتزوير.. الخ, وبما يمكنها من مواجهته ومحاصرته!! والواقع المرير ان تلك الصورة السيئة للمسلم لا تقتصر على البلدان والمجتمعات غير الاسلامية في العالم بل حتى في مجتمعاتنا الاسلامية ذاتها تسود مثل تلك النظرات وكأن سمات المسلمين, على وجه العموم والاجمال, هي الكذب والنصب والاحتيال والتزوير واللف والدوران ونقض العهود والعقود.. الخ, للأسف الشديد. ولعل المفارقة التي تدمي القلوب والعقول معاً ان المسلمين الأوائل, من تجار ومهاجرين, نشروا دين الله القويم بين بني البشر في أصقاع الأرض بسمو أخلاقهم واستقامة سلوكياتهم, فكانوا نموذجاً مشرقاً ومتألقاً في الصدق والأمانة والنزاهة والحق والاستقامة والشرف والإيثار وفعل الخير والتسامح والحب الانساني, على نحو ما حث عليه القرآن الكريم وأوجبه على المؤمنين, وجعلوا من أنفسهم القدوة والأسوة الحسنة فأثروا تأثيراُ عميقاً في شعوب تلك البلدان, واعتنقوا الاسلام ديناً طوعياً وباختيارهم الحر وقناعاتهم الكاملة دون فرض أو قمع أو اكراه, اعجاباً وتأثراً بكل تلك القيم التي جسدها المسلمون الاوائل من التجار والمهاجرين الدعاة, في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم اليومية بفئات المجتمع, ثم ها نحن اليوم نرى كيف بات العالم ينظر الى المسلمين واي صورة اخذها العالم عن المسلمين, باعتبارهم خطراً مدمراً للبشرية من ناحية, ويتسمون بأبشع واسوأ السمات والرذائل القبيحة كالكذب والاحتيال والنصب والتزوير واختلاس الأموال بالخديعة وبأساليب غير مشروعة وبدون وجه حق, واستحباب الحياة العقيمة الكسولة عالة على المجتمع وعبئاً عليه!! البون شاسع والفرق عظيم بين حالنا بالأمس وحالنا اليوم, نحن المسلمون لم نعد الذي كنا ذات يوم ولى وانقضى, كنا بالأمس مسلمين حقاً أما اليوم فقد أصبحنا اي شيئاً الا أن نكون مسلمين.. ان احوالنا اليوم, كما أشرنا الى ابرز ملامحها آنفاً, هي نتاج طبيعي لانتشار ثقافة دينية منحرفة ومضللة عمادها الارهاب والاجرام والعنف والقتل وسفك الدماء واستحلال ما حرّم الله تعالى, ثقافة أخرى لا تمت الى دين الله الاسلام القويم بأي علاقة أو صلة بل اعملت فيه معولها الهادم فنقضت عراه ودمرت مقوماته وافرغته من مضامينه ومحتواه ومرقت الدين كما يمرق السهم من الرمية, ثقافة نشرت وعممت الأفكار التكفيرية المقيتة وخلقت لدى أتباعها ومناصريها روح التعصب والتطرف والنظرة العدمية لكل شيء في المجتمع, وجعلت افعال القتل الجماعي العشوائي لأطفال ونساء وشيوخ وابرياء ومسالمين آمنين, وسفك دماء البشر وذبحهم ذبح النعاج وتدمير مقومات حياة المجتمع على نحو جنوني, من دواعي الايمان بالله جل جلاله ودينه القويم السامي وواجباته المقدسة التي جزاؤها حياة الخلود في جنات النعيم الأبدي!! ثقافة موت ودم ودمار جعلت من شباب ورجال مسلمين هاجروا من اوطانهم بحثاً عن حياة كريمة في البلدان المتقدمة غير الاسلامية, بعد أن شارفوا على الهلاك في بلدانهم “الاسلامية” البائسة, وتحقق لهم فيها عيش كريم وحياة حرة تليق بإنسانية الانسان, وامدتهم البلدان التي هاجروا اليها واستقروا فيها كل اسباب الرعاية والعناية الصحية والتعليمية والضمانات الاجتماعية ولأسرهم معهم, وقررت لهم مساعدات منتظمة لحالات العجز والتقاعد.. الخ, ثم, ورغم هذا كله, تسيطر عليه ثقافة التكفير والموت والدم والدمار تلك وتمتلكهم وتجعلهم ينظرون الى البلدان التي آوتهم ورعتهم ووفرت لهم من أموال شعوبها حياة كريمة لائقة وآمنة وهانئة على انها مجتمعات كافرة يجب العمل على تدميرها ومحاربتها باعتبارها “دار حرب” كافرة مشركة وليست “دار اسلام” مؤمنة كما هي أوطانهم الأصلية! فلماذا جاءوا اليها أصلاً؟ ولماذا اجازوا لأنفسهم البقاء فيها والتنعم بخيراتها ولم يغادروها الى “ديار الاسلام والسلام والايمان”؟ لماذا يجيزون لأنفسهم الإقتيات من اموالها والنصب والكذب والاحتيال عليها لاختلاس المزيد من أموالها؟ ام انهم كفار واموالهم حلال؟ للأسف ان تلك الثقافة المنحرفة المضللة تحرضهم على تدمير البلدان التي تحتضنهم وتجيز لهم ان يكذبوا وينصبوا ويحتالوا عليها ويزوروا وثائقها للحصول على المغانم من اموالها تحت ذريعة لا اخلاقية ان قتل الكافر وسلب أمواله والكذب عليه والاحتيال عليه وتضليله كل ذلك واجب ديني مقدس؟! اي دين هذا الذي يدينون به؟ واي اخلاق هذه التي تحكمهم وتوجه سلوكهم ومواقفهم؟! واي عرف واي شرع واي ملة وضعية او سماوية تجيز لهم ارتكاب وممارسة كل تلك الجرائم والموبقات؟؟ انها ذات الثقافة المنحرفة المضللة ثقافة الارهاب والقتل والاجرام وسفك الدماء والدمار, البعيدة عن الاسلام بعد السماء عن الأرض هي التي تزين لهم سوء أعمالهم وشرورهم, ليس على البشر فحسب, بل وعلى الله جل جلاله ودينه القويم والسامي حيث أباحوا وحللوا ممارسة الزنا الجماعي تحت اسم “جهاد النكاح” ثم عززوه بإباحة الشذوذ الجنسي تحت اسم “جهاد اللواط” من حيث كونه ضرورة جهادية يتطلبها توسيع “دبر” المجاهد لحشوه بالمتفجرات والعبوات الناسفة ليتفجر بها وسط خلق الله الآمنين ولم يفتهم الطلب من المفعول به “المجاهد” ان يكثر من الاستغفار لعل الله يغفر له! ومن قبل ذلك قالوا بإجازة ان تقوم المرأة, أي امرأة, بإرضاع الرجل البالغ الكبير ثلاث رضعات حتى يصبح محرماً شرعياً لها يدخل عليه ويعيش معها كيف يشاء ومتى يشاء!! ولا يعلم الا الله وحده ماذا سيطلع به هؤلاء المجرمون المنحرفون الشواذ من فتاوى وبدع ومنكرات تقشعر لها الأبدان؟ بل ماذا بقي من دين الله القويم حتى ينتهكوه؟! وبهذا نأتي الى نهاية الحديث حول الباب الرابع والأخير من هذا الكتاب.     الخاتمة وباكتمال الباب الرابع والأخير من هذا الكتاب, يكون قد اكتمل بأبوابه الأربعة, بفضل من الله جل جلاله وعونه أحمده واشكره واثني عليه ثناء كما يقتضيه جلال وجهه, ويليق بعظيم سلطانه, وبعدد خلقه ومداد كلماته, وزنة عرشه, ورضى نفسه.. جل جلالك ربي, وعظم شأنك, وعز سلطانك, وتعالت قدرتك, وتقدست أسماؤك, وتمجدت صفاتك, يا من انت الغني بذاتك, العلي بصفاتك, المعطي بكلماتك, العطوف برحمتك, الرؤوف ببريتك, الرفيق بعبادك.. فلقد وقفت قبل الشروع والبدء بكتابة هذا الكتاب, داعياً الله تعالى ومتضرعاً ومبتهلاً اليه بان يسهل  وييسر لي انجازه ويعينني على ذلك ان علم فيه خيراً وصدقاً, أو يصرفني عنه ويصرفه عني ان علم فيه وما يسعى اليه ويتوخاه من ورائه غير الصدق والحق وابتغاء مرضاته.. ولا بد لي, في هذه الخاتمة, ان اشير, مجدداً, بأن هذا الكتاب لا يعتبر كتاباً, بالمعنى والمعيار والمنهج العلمي والأكاديمي المتعارف عليه, وانما هو كتاب أو كتيب وصفي أو سردي لجملة خواطر ومشاعر وانطباعات حول دين الله الاسلام وكتابه العزيز “القرآن المجيد”, وكيف طُبق وفُهم في مختلف مسيرته منذ انبلاج فجره الأول وحتى زماننا وما علق بمسيرته الفكرية الثقافية والعملية التطبيقية من شوائب ومفاهيم وأفكار لا تتوافق ولا تنسجم مع نصوص وآيات وتعاليم واحكام وقيم ومثل القرآن الكريم ومقاصده وأهدافه وخاصة منها تلك التي تتسم بقطعية الثبوت والدلالة, كما يقولون.. وهي خواطر وانطباعات ومشاعر وتأملات تكونت وتبلورت عبر مسيرة حياة تمتد لما يقارب نصف قرن الا بضع سنوات من الزمن, عشتها قارئاً ومطلعاً للكثير من الكتب والاصدارات والمجلات والصحف, بمختلف منطلقاتها ومشاربها الفكرية والسياسية, وناشطاً ومتفاعلاً ومشاركاً في الحياة السياسية والثقافية وقواها واطرافها ومكوناتها المختلفة, من جهة, وعاشقاً هائماً ومأسوراً بشخصية الرسول الاعظم سيدنا محمد علي أفضل الصلاة والسلام التي اتسمت واتصفت بسمو القيم والمثل والاخلاقيات والسجايا والسلوكيات النبيلة والرفيعة والخلق العظيم, من ناحية أخرى, ومتابعاً ومطلعاً ومتفاعلاً ومقيماً لمواقف وخطابات وأطروحات الجماعات والاحزاب والتنظيمات المندرجة ضمن اطار ما بات يعرف ” بالإسلام السياسي” الحزبي السري والمسلح في غالبيته, بجانبيه الفكري والثقافي والممارسة العملية, وخاصة ما يتعلق منه بطبيعة فهمها ورؤيتها للدين ووسائل واساليب عملها في الواقع السياسي والاجتماعي المتعدد والمتباين ايديولوجياً وفكرياً وسياسياً من يمين ويسار وقوميين وليبراليين.. الخ, من ناحية ثالثة.. وخلال كل ذلك, ووسط دواماته العاصفة, كانت لي اسهامات كتابية مبكرة وتحديداً منذ بداية عقد سبعينيات القرن العشرين المنصرم, دارت, في معظمها, حول مختلف الشأن العام, وطنياً وعربياً وإنسانياً, اضافة الى بث وتسجيل جملة من الخواطر والانطباعات والتأملات حول الاسلام وقضايانا المعاصرة, بعضها اثارت عواصف من ردود الأفعال ووجهات النظر المخالفة, أو التكفيرية في البعض منها.. ولهذا حرصت على التأكيد بأن هذا الكتاب لا تتوافر فيه الشروط والمعايير الأكاديمية العلمية للكتاب, وانما هو سجل لكل ما عنّ لي من تلك الخواطر والانطباعات والتأملات المستخلصة من التجربة الشخصية والمعايشة والتفاعل والخوض في دوامات وعواصف الحراك السياسي الفكري العام, خلال تلك العقود المنصرمة من الزمان, وخاصة الشق الديني منه تحديداً. فالكتاب, اذن, هو بمثابة خلاصة أولية لتجربة شخصية من المعاناة المريرة والعذاب المؤلم, نفسياً وفكرياً, والناتج عن عَقد, كاتبه, لمقارنات بين جوهر الاسلام الأصيل بقيمه ومثله وتعاليمه واخلاقياته السامية والانسانية الرفيعة, ودعوته في مقاصده وغاياته, الى حياة السلام والتعاون والحب الانساني الشامل وحرية الانسان وكرامته, كما يوضحه ويحدده القرآن الكريم في سوره وآياته.. وبين واقع الاسلام اليوم واحوال المسلمين, وما تطرحه الجماعات والتنظيمات والاحزاب السرية المسلحة من افكار وقيم ودعوات, باسم الاسلام وتحت لوائه, تبيح وتستحل اعمال القتل الجماعي والعشوائي وسفك الدماء واشاعة الارهاب والخوف, ومن افكار سوداوية تحل وتستبيح ما حرّم الله تعالى وتحرم وتمنع ما احل واباح في كتابه العزيز, وتجيز ارتكاب جرائم وموبقات اخلاقية بشعة ما سبقهم اليها أحد من العالمين, وعلى نحو يخالف ويناقض مخالفة ومناقضة صريحة وفجة لأوامر الله تعالى والاسلام الحنيف ونواهيه واحكامه وتعاليمه, وتتضاعف معاناة ومرارة المتأمل لواقعنا الاسلامي اليوم ويزداد عذابه وقهره اكثر واكثر حين تجد أن: ·        مسلسل القتل وسفك الدماء والدمار والترويع والتخريب العشوائي الجماعي للناس وحياتهم, مسلمين وغير مسلمين, ابرياء وغير ابرياء, مسالمين ومحاربين, اطفالاً ونساء ومسنين وآمنين, ومنشئات ومرافق ومؤسسات انتاجية وخدمية عامة, اصبح كل ذلك يمارس باسم الله جل جلاله, وتقرباً اليه وابتغاء مرضاته, وخدمة لدينه القويم, وعربوناً او قرباناً لدخول الارهابيين المجرمين جنة النعيم!! ·        واباحة وتحليل “الزنى الجماعي” الذي حرمه الله تحريماً قطعياً, ودعوة المرأة – أي امرأة- لارضاع الرجل, أي رجل, ثلاث رضعات مشبعة, ليصبح “محرماً” شرعياً لها يدخل عليها ويعيش معها في اي وقت يشاء وما شاء من وقت, واباحة وتحليل الشذوذ الجنسي بين الرجال ” اللواط”, اصبح في عرف تلك الجماعات الارهابية الضالة المضلة, من الواجبات الدينية ومن اعمال ” الجهاد” في سبيل الله يضمن لفاعليها الفوز بدخول الجنة والتقرب الى الله تعالى!! ولا يفوتنا هنا ان نذكر ايضاً بدعة ضالة منحرفة أخرى, يطلقونها ليضلوا الناس بها, كما هو الحال, بالبدعة آنف الاشارة اليها, وهي اجازة وتحليل اقامة الرجل والمرأة اللذين ينويان عقد الزواج بينهما, ان يقيمان معاً, قبل ابرام عقد الزواج بينهما, لمدة ثلاث أيام بلياليها ليختبر ويجرب كل منهما الآخر, فان وجدا, بعدها, ان كل منهما استطاب الآخر واستهواه وشغف كل واحد بالآخر حباً, حينها يعقدان عقد النكاح أو الزواج الشرعي بينمها, وما لم فليذهب كل واحد منهما في حال سبيله وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا و يا دار ما دخلك شر!! أقول بأن الانسان المسلم المتأمل لواقع الاسلام والمسلمين اليوم, وخاصة ما يتصدره وتمارسه تلك الجماعات والتنظيمات والاحزاب الارهابية المسلحة والسرية مدعية الاسلام, كذباً وزوراً, ومجموعة دراويشهم المتفيقهون المفتون من افكار ودعوات وفتاوى, تنسف وتدمر تعاليم دين الله الحق واوامره ونواهيه واحكامه الصريحة الواضحة القاطعة, وتخرج عن الدين خروجاً وكفراً بواحاً, وتتحذ آيات الله جل جلاله وقرآنه الكريم وتعاليمه واوامره ونواهيه هزواً ولعباً, وتعمل فيه معاولها الهدامة المدمرة, الى حد افراغه من كل مضامينه ومحتوياته العظيمة, بحيث لم يعد للإسلام, بعد كل تلك الانحرافات والضلالات والافتراءات, قيمة أو معنى, ولا يعلم سوى الله علّام الغيوب ماذا سيأتينا من قبلهم في قادم الأيام اكثر مما قد اتانا وسمعناه ورأيناه منها؟! ففي ظل هذا الجو بالغ الكآبة والسوء يصبح الانسان المسلم المتأمل والمتابع لوقائع سوء وفداحة ما يجري حوله وبين جنباته, وهو يجاهد ويجالد ويتحمل ويصبر للتمسك بدينه واسلامه الصحيح, كالقابض على الجمر المحرقة!  ويعلم الله علّام الغيوب وحده بأن فكرتي وهدفي الوحيد في إعداد هذا الكتاب, أو الكتب, ينحصر في بذل ما بوسعي من جهد متواضع في جلاء وتوضيح جانب من الحقيقة من خلال أولاً بيان طبيعة دين الله القويم وتعاليمه واوامره ونواهيه ومقاصده الكبرى في الحياة الانسانية, وتوحيداً وتنزيهاً لله الخالق الأعظم عن كل مظاهر واشكال الشرك والشركاء من دونه سبحانه وتعالى, وثانياً تسليط بعض الاضواء الكاشفة لبعض مظاهر الانحراف والتشويه والاساءة لله عز وجل ورسوله الامين ودينه القويم المستقيم عبر مراحل مسيرة الاسلام والمسلمين وفي مختلف الجوانب الفكرية والفقهية والاحاديث والثقافة العامة التي تراكمت في عقول العامة من المسلمين, والتركيز على تنزيه وبراءة الرسول الكريم عليه افضل الصلاة والسلام وعلى آله الطيبين مما كل ما نسب اليه, زرواً وافتراءا, من قول أو عمل وتأكيد وصف الله جل جلاله “وانك لعلى خلق عظيم”, واثبات بطلان وعدم صحة ما نسب اليه من اقوال واحاديث استندت عليها الجماعات والتنظيمات والأحزاب الارهابية المسلحة السرية في بدعها وفتاواها الضالة المصلة والخارجة عن الدين وتعاليمه, والتي اشرنا اليها للتو في سياق هذه الخاتمة من انحرافات وضلالات وافتراءات اخلاقية وسلوكية مقيتة ومنتنة, وتنبيه المسلمين وتحذيرهم من اتباعهم وتحاشي الوقوع في مثالبها حتى لا توقعهم, من حيث علموا أم لم يعلموا, في براثن وشرك الكفر بالله سبحانه ودينه العظيم, ونحن في كل ما سجلناه, في هذا الكتاب من أفكار وآراء وخواطر وانطباعات وتأملات, وكان دليلنا وهادينا ومرشدنا الوحيد كتاب الله العزيز “القرآن المجيد” الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي يهدي للتي هي أقوم دائماً وأبداً, وكفى به نوراً وسراجاً منيراً مرشداً ودليلاً وهادياً في ظلمات الضلال والحيرة والضياع, وعاصماً من الانحراف والهوى واتباع الشهوات, وما ابتغينا سوى وجه الله الكبير المتعال ورضاه ورضوانه.. ومثلما تضرعت واستخرت الله جل جلاله وتعالى شأنه في المبتدأ, ادعوه واتضرع اليه في المختم ان يتقبل هذا الجهد المتواضع من عبده الفقير الى رحمته وعفوه بقبول حسن بفضله ومنه, فان اصبنا فيه واحسنا فمنه وحده نطمع بالأجر والثواب, وان أخطأنا واسأنا فنسأله سبحانه وتعالى العفو والمغفرة ومن يغفر الذنوب الا الله. واختم قولي بدعاء مأثور لسيدي الشيخ العارف بالله احمد بن علوان: إلهي: أنا ابداً في مقام فقير عديم, كما انك ابداً في مقام غني كريم.. وأنا ابداً في مقام مسيء اثيم, كما أنك ابداً في مقام غفور رحيم.. أتشفع اليك الهي بعتبة بابك, وحامل كتابك, ولسان خطابك, وأحب احبابك, وعروة التمسك بأسبابك: محمد شمسك وقمرك وشهابك, في نيل ما اطلبه في الدنيا الآخرة من عميم ثوابك, وفي دفع ما اخشاه في الدنيا والآخرة من أليم عقابك, ولا حوال ولا قوة الا بالله العلي العظيم, عليه توكلت واليه انيب يا من خزائن عطاياه الكلام, ومفاتيحها من عبادة الكلام, تعطف عليَّ برحموت, تغمد بها في سيف الجبروت, وأمنن عليَّ برهبوت تبلغ بها روحي اقصى الرغبوت.. فكل معروف أنت به جدير, وكل مطلوب أنت عليه قدير, وكل عسير هو عليك يسير, وكل كبير هو لديك صغير. “سبحان ربك رب العزة عما يصفون ۞ وسلام على المرسلين ۞ والحمد لله رب العالمين”   المراجع: ============ ١) ابوهريره شيخ المضيره    الشيخ محمود ابو ريه ٢) دين السلطان               نيازي عزالدين ٣) دين الرحمن               نيازي عزالدين ٤) السلطة في الاسلام      المستشار عبدالجواد ياسين ٥) نحو فقه جديد            جمال البنا ٦) من اسلام القرآن الى اسلام الحديث    جورج طرابيشي ٧) الاسلام نسخة منتحلة من اليهودية      كامل النجار ٨) حول المرأة                  المرجع محمد حسين فضل الله ٩) الاسلام وقضايانا المعاصرة    احمد موسى سالم ١٠) اسلام بلا مذاهب         د مصطفى الشكعه ١١) لا اسلام بلا مذاهب      رشيد الخيون    

موضوعات ذات صلة