2
في 22 مايو 1990 م أعلن عن قيام دولة الوحدة اليمنية بين الشطرين ، وانتقلت معها وفيها كل الحساسيات والعقد والجروح والشكوك المتوارثة من عهود الصراعات والحروب بين الشطرين أو الدولتين الشطريتين ، ما جعل العلاقة بين الطرفين صانعي الوحدة ( المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني ) تتسم غالباً بالتوتر والتآزم بل والصراع ، حيث لعبت الحركات والجماعات الإسلامية السرية المسلحة دوراً رئيسياً بارزاً وشكلت ما يشبه ( رأس حربة ) في توتير وتأزيم تلك العلاقة من خلال قيامها بسلسلة من الاغتيالات والأعمال الإرهابية التي استهدفت الكثير من قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي ، وأسست لها وبنت مناطق نفوذ وسيطرة كاملة في مناطق قبلية مهمة وحاسة في بعض محافظات الشطر الجنوبي سابقاً ذات قوة مسلحة وتحصين عسكري منيع ، وذلك بالتنسيق والتعاون مع من كانوا يمثلون قيادة الدولة في الشطر الشمالي سابقاً . كما لعبت دوراً محورياً في الحرب الأهلية التي نشبت في صيف 1994م ضد الحزب الاشتراكي وما سمي بالانفصال آنذاك ، تلك الحرب التي أسفرت ، بعد شهرين من أحداثها المدمرة ، إلى هزيمة الاشتراكي وإخراجه عن الحكم ضمن دولة الوحدة ، وإلى هذا التاريخ وإلى فترة زمنية تالية ، ظلت تلك الحركات والجماعات الإسلامية السرية المسلحة جزءاً في تركيبة بعض وحدات الجيش وأجهزة الأمن في النظام من خلال رتب عسكرية للعديد من قياداتها وكوادرها وأعضائها ومساعدات مالية وعسكرية يحصلون عليها من النظام وبتعبير آخر فقد ظلت تلك الجماعات والحركات منذ مطلع السبعينات تنمو وتعمل وتتحرك تحت مظلة وحماية النظام ، ولا يزال وضعها كذلك حتى الآن بشكل عام ، وإن حدثت بعض التعديلات والتغييرات في الأساليب والوسائل في شكل العلاقة وطبيعتها وأهدافها ، صحيح أن الشيخ أسامة بن لادن لعب دوراً ودفع بأعمال عسكرية وغير عسكرية في مواجهة النظام القائم في الشطر الجنوبي من اليمن قبل قيام الوحدة وضد الحزب الاشتراكي اليمني الشريك الثاني في دولة الوحدة بعد قيامها ، بيد أن أدواره وأعماله تلك كانت تتم عبر تلك الجماعات والحركات الحزبية الإسلامية السرية المسلحة والتي أصبحت ، بعد عودة مجاميع متزايدة من الذين شاركوا في القتال أو ( الجهاد ) في أفغانستان ، أكثر قوة وقدرة وكفاءة وانتشاراً ، والتي ظلت تتعامل مع بن لادن باعتباره زعيماً ورمزاً بارزاً يحظى بأعلى درجات الاحترام والطاعة والولاء بعد أن صنعت منه حرب افغانستان شخصية محورية ومرجيعة عليا وقائد شبه أسطوري ، بالإضافة إلى ما يمتلكه من إمكانيات مالية تمويلية هائلة ، وإلى هذا التاريخ لم يكن هناك شيء اسمه ( تنظيم القاعدة ) قد عرف أو ظهر على المسرح ، إذ لم يبدأ الحديث عن ( القاعدة ) سوى قرب انتهاء عقد التسعينات ، وأصبح اسماً متداولاً وسائد على المستوى العالمي بأسرة عقب أحداث 11 سبتمبر عام 2001م الإرهابية في أمريكا ، وبدأ وكان العالم كله لا شغل ولا هم له منذ ذلك التاريخ سوى ( القاعدة ) ، بسبب الضجيج الإعلامي والسياسي واسع النطاق ومتواصل التصاعد الذي خلقت وأثارته أمريكا اساساً ، بل كانت هي أول من أعلن اسم ( القاعدة ) وغالب الظن أنه اسم وهمي أكثر من كونه حقيقي ، ومع ذلك فالراجح أن هناك صيغة تنظيمية ما ، بالمواصفات والقدرات السابق ذكرها ، قد تم إقامتها خلال فترة ما قبل انتهاء الحرب في أفغانستان ، وضمت في كيانها عدداً من الحركات والجماعات المسلحة السرية المتطرفة المنتمية إلى دول وجنسيات عديدة . وعلى الصعيد الوطني في اليمن ، فإن تلك الحركات والجماعات ، التي جمعتها بالنظام الحاكم في الشمال قبل الوحدة وبالنظام الحاكم بعد حرب 1994م وضرب وإخراج الحزب الاشتراكي من الحكم ، مصلحة وهدف مشترك متمثلاً بمواجهتهما لعدو واحد مشترك وارتبطت بعلاقات تحالفية وثيقة ، غير معلنة بالنظام حكمتها وفرضتها رؤية وحسابات ومصالح متباينة خاصة بكل طرف من طرفي علاقة التعاون والتحالف القائمة بينهما سبق أن استعرضناها بشيء من التفصيل في سياق هذه الدراسة ، وعلى الرغم من التطورات والمتغيرات الجوهرية التي حدثت على المسرح السياسي ومسار الأحداث الداخلية الوطنية ، وأهمها على الإطلاق ضرب وهزيمة وإبعاد الحزب الاشتراكي العدو المشترك للطرفين ـ عن سدة الحكم ، فإن علاقاتهما وإن بدت إنها لا تزال قائمة وطبيعية ، إلا أن حقائق ومعطيات الوضع السياسي الجديد لا شك أنها سوف تعمل ، قطعاً ، وعلى المدى الزمني المنظور ، في إتجاه قد يؤدي إلى حدوث مواجهة حاسمة وشاملة بين الطرفين تنهي فترة التعاون والتحالف بينهما ، ويمكن ذكر أهم تلك الحقائق والمعطيات والاعتبارات على النحو التالي : – 1- يبدو أن النظام ، برغم ضرب خصمه اللدود وإزاحته عن الحكم وأقصد به الحزب الاشتراكي ، إلا أنه ووفقاً لرؤيته وحساباته السياسية ، الداخلية والخارجية ، يشعر بأن استمرار علاقته وتعاونه مع حلافائه من الحركات والجماعات الإسلامية المسلحة السرية ، لا يزال يخدم ويفيد مصالحة وحساباته السياسية وأنه لم يخن الوقت بعد لإنهاء تلك العلاقة والدخول بمواجهة معها . 2- وبالمقابل فإن الحركات والجماعات السرية المسلحة المتطرفة ، وبرغم تضخم حجمها وتزايد قوتها وقدراتها وتوسعها إلى حد كبير ، إلا أنها لا تزال تحس ، وفقاً لرؤيتها وحساباتها الإستراتيجية ، بأهمية وضرورة الحفاظ على علاقاتها بالنظام مهما كان الثمن لحاجتها الماسة للمزيد من الوقت والجهد بهدف استكمال بنائها وتعزيز قوتها واتخاذ كافة الاحتياطات والاستعدادات اللازمة ، وذلك لأنها ترى بأن الوقت لم يحن بعد لفك العلاقة والدخول في مواجهة حاسمة ، وأن عليها توخي أقصى درجات الحيطة والحذر وتفادي كل ما من شأنه أن يجرها ويستدرجها إلى مواجهة لم تحدد هي ساحتها وتوقيتها . 3- ومع ذلك وبرغم حرص الطرفين على أهمية الإبقاء على علاقاتهما ، فإن معطيات وحقائق الواقع تشير إلى أن المواجهة بينهما قادمة بل وحتمية وأن المسألة تتعلق بالوقت فقط ، ولعل أهم مؤشر يدل على هذه الحقيقة المواجهة المسلحة بين قوات النظام وما سمي ( بجيش عدن أبين الإسلامي ) بسبب اقدام الأخير على خطف سائحين أجانب كرهائن ومصرع عدد منهم ومحاكمة قادة ذلك الجيش وإعدام زعيمه أبو الحسن المحضار قبل حوالي عامين . 4- إن النظام يرى بالاستناد إلى سجل تجاربه وخبراته ومعرفته في التعامل مع تلك الحركات والجماعات المترطفة ، بأن أسلوب المواجهة المسلحة العنيفة معها ليست مجدية ولا ناجحة ، ويعتقد أن أفضل وسيلة لضمان نجاح المواجهة هو بالعمل المكثف والمدروس لاحتوائها واستيعاب قياداتها وكوادرها وأعضائها وامتصاصهم وإذابتهم في المؤسسات والوحدات العسكرية والأمنية والوظائف المدنية ومجالات العمل والخدمة العامة الجماهيرية وغيرها ، وعلى نحو يجعلهم ، كأفراد ، جزءاً من تركيبة الدولة وحركاتها ومسئولياتها ويخضعهم أو يلزمهم بالتقيد بقوانينها ولوائحها الملزمة ، وهو ما شرع النظام بالعمل به وفق مقتضيات وخاصة خلال فترة الثلاث أو الأربع السنوات الأخيرة ، ومع التسليم بما يتسم به مثل هذا الأسلوب من وجاهة ومنطقية وإيجابية إلا أن خطورته واحتمالات وإمضائه إلى نتائج معاكسة ومناقضة لمقاصده ، تمكن في إدراكه واستيعابه والوعي به من قبل قيادات تلك الجماعات والحركات السرية والمنظمة تنظيماً غاية في الدقة والكفاءة والمقدرة ، وبالتالي فإنها أقدر على مواجهته والتعامل معه عبر أسلوب الاحتواء والاستيعاب المضاد القاضي بالاستفادة من مكاسبة ومزاياه لتحقق من خلاله المزيد من القوة والنفوذ والتغلغل والتأثير لخدمة أهداف وغايات أطرها التنظيمية الدقيقة والحديدية والكفؤة وليس على حسابها أو تفريطاً بها . 5- وعلى صعيد أخر فلعل حرص النظام على تأجيل فض العلاقة التحالفية وتحاشي المواجهة الشاملة الحاسمة مع تلك الحركات والجماعات السرية المسلحة المنظمة تنظيماً دقيقاً يرجع ، أساساً إلى اعتبارين أو عاملين رئيسين هما في اعتقادي : الأول : بروز التجمع اليمني للإصلاح ، بعد مساهمته الفاعلة مع النظام في ضرب وإزاحة الحزب الاشتراكي عن الحكم عقب حرب 1994م ، كقوة سياسية كبرى تحتل في الخارطة السياسية للبلاد موقع أقوى حزب سياسي جماهيري وأكثرها مقدرة وتأثيرا وحضوراً ، وهو يمثل خط الاعتدال والعقالانية على صعيد قوي وأطراف الحركة الإسلامية في البلاد ، وتميزه بالحنكة والوعي الرفيع لقواعد اللعبة الديمقراطية السلمية والتكيف والتعايش والتعامل الإيجابي معها بكفاءة عالية وتوفر الرغبة لديه لإقامة تحالفات أو تكتلات سياسية أكبر وأوسع مع بعض أحزاب المعارضة ، وخاصة الحزب الاشتراكي ، وهو ما ولد لدى النظام خاوف حقيقية جدية وقلق بالغ العمق مما قد يترتب عليه من إفرازات وحقائق جديدة مفاجئة على الصعيد السياسي العام . مما جعل النظام يرى بأن ( الإصلاح ) بات يشكل الخطر الرئيسي الأول الذي يتهدده ، ومن هذه الزاوية يمكننا النظر إلى عملية اغتيال القائد الوطني الأبرز جار الله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي من حيث توقيتها ومكانها أثناء مشاركته في أعمال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر العام للتجمع اليمني للإصلاح يوم السبت 28/ 12/2002م . الثاني : شعور النظام بحالة من الشكوك والهواجس حول حقيقة النوايا والأهداف الأمريكية تجاه حاضر النظام ومستقبله وطبيعته وتركيبه بل وحتى استمراره . ولهذين الاعتبارين أو العاملين الرئيسيين فاعتقد أن النظام يعلب تكتيكياً بذكاء وبراعة حيث لا يريد التفريط وحرق الأوراق الضاغطة المؤثرة محلياً ، ويحرص على إبقائها ، واستمرار العلاقة معها تحسباً لكافة واسوأ الاحتمالات التوقعات والمفاجئات التي تساور تفكيره وحساباته السياسية . 6- على أنه من السذاجة المفرطة أن يتصور أحد بأن قيادات تلك الحركات والجماعات غائبة عن متابعة ورصد وتحليل كل تلك التوقعات والاحتمالات والسيناريوهات ، أو أنها واقفة في انتظار ما ستأتي به الأيام … بل من المؤكد أنها تعمل هي الأخرى من جانبها على أعداد كافة الخيارات والبدائل والخطط اللازمة لمواجهة التطورات والتوقعات الطارئة ، وليس من المستبعد أن تلجأ إلى تكرار النموذج الجزائري بتعديلات وتطويرات عليه ، لتضمن إطالة أمد المواجهة …. وبناء على ما سبق ذكره أنفاًَ يمكننا استخلاص جملة من الحقائق والنتائج الرئيسية أهمها – من وجهة نظري – هي :ثناء مشارأثنا 1) إن بروز ونمو قوة وتأثير وقدرة الجماعات والحركات الحزبية ( الإسلامية ) المسلحة السرية المتطرفة استند إلى سلسلة من الأحداث والتطورات والمتغيرات السياسية وما ترتب عليها من معطيات ونتائج وحقائق جديدة سواءً على الصعيد الوطني المحلي أو على الصعيدين الإقليمي والدولي ، وخاصة منذ مطلع عقد السبعينيات ، وحتى مشارف القرن الواحد والعشرين وهي ـ في مجملها وتضافرها وتكاملها – عملت لصالح تلك الجماعات والحركات الإرهابية المتطرفة وهيأت أمامها أفضل الأجواء والمناخات ، والظروف والإمكانيات ، واستطاعت أو بالأصح نجحت نجاحاً مشهوداً في استثمارها وتوظيفها في اتجاه تحقق أهدافها ومصالحها في البروز والتشكل والتنامي تنظيمياً وقوة وتأثيراً وكفاءة وانتشاراً . فعلى الصعيد المحلي اليمني ، كانت استراتيجية النظام الحاكم في الشطر الشمالي من اليمن ومصالحة وحساباته السياسية قد أعيد صياغتها وبناؤها على أساس الاعتماد أو التحالف أو اتخاذ قوة التيار أو الحركة الإسلامية ، الأخذ في النمو ، والقليلة الانقسامات والخلافات آنذاك ، ورأس حربة وطليعة متقدمة في مواجهة وصراعة المرير والعميق مع خصمه الأيديولوجي والسياسي اللدود المتمثل بالنظام اليساري المتطرف الحاكم في الشطر الجنوبي من اليمن والقوى السياسية الحزبية السرية اليسارية والقومية الثورية المتحالفة أو القريبة منه والعاملة بنشاط في الشطر الشمالي ، وعلى الرغم من أن النظام في الشمال لم يكن أمامه آنذاك ، ومع أشتداد المواجهة وتصاعد حدة الصراع بينه وبين النظام في الجنوب ، من خيار سوى الاعتماد أو التحالف مع قوى الحركة الإسلامية ، فإن ذلك الخيار الاستراتيجي دل دلالة واضحة على مستوى رفيع من الذكاء والحنكة السياسية التكتيكية للنظام في الشمال ، حيث أدرك مبكراً حقيقة وأبعاد صراعه مع النظام في الجنوب والقوى المتحالفة أو القريبة منه في الشمال ، باعتباره صراعاً أيديولوجياً فكرياً سياسياً اجتماعياً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بحقائق وطبيعة الصراع الدولي ( الحرب الباردة) ولهذا نجح النظام في إضفاء الطابع الأيديولوجي الفكري السياسي الاجتماعي الدولي على واقع صراعه مع النظام في الجنوب والقوى السياسية الشمالية المتحالفة أو القريبة إلى نهجه ، من خلال تحالفه مع التيار الإسلامي عموماً كنقيض كلي شامل أيديولوجياً مع ما يمثله النظام اليساري المتطرف في الجنوب ، هذا على الصعيد المحلي . وعلى الصعيد الدولي والإقليمي راح النظام في الشمال يعمل بشكل حثيث ومكثف على إقامة وتوثيق علاقة خاصة ومباشرة تربطه بالمعسكر الدولي الغربي ، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية ، إضافة إلى تعزيز وتعميق وتوثيق علاقاته مع القوى الإقليمية المحيطة المختلفة أيديولوجياً وسياسياً ، مع النظام الحاكم في جنوب اليمن . ومع تواصل أشكال المواجهة والصراع بين النظامين ، وبسب الصراعات والانقسامات الدموية الرهيبة التي شهدها النظام والحزب الحاكم في الجنوب ، وخاصة أبان مرحلة النصف الثامن من عقد الثمانينيات ، وما نتج عنها من خلخلة واهتزاز وضعف وحدته وقوته وتماسكه الداخلي إلى أقصى الحدود ، وتحول الموازين القوى في الصراع بين النظامين لصالح النظام في الشمال لأول مرة منذ بدايته ، وخلال هذه الفترة الممتدة من بداية عقد السبعينات وحتى نهاية عقد التسعينات ، كان التيار الإسلامي ، من خلال دورة وحركته وإسهاماته في عملية الصراع ، قد حقق نقلات أو قفزات هائلة وواسعة ، على المستويين النوعي والكمي ، حيث اتسع حضوره وانتشرت قوته ونفوذه وسيطرته ، وتطور بناؤه التنظيمي وتعددت وسائل وأساليب نشاطه وتأثيره على الصعيد الجماهيري والسياسي ، ونجح في تأسيس وبناء ذراع عسكرية قوية وكبيرة خاصة به ( مليشيا ) مسلحة لأول مرة في تاريخه في اليمن ، تحقق كل ذلك أو بالأصح ساعد على تحقيقه حالة الملاحقة والمطاردة والحصار والحظر الأمني شبه الشامل المضروب حول كافة القوى والأحزاب السياسية الأخرى ، اليسارية والقومية العاملة في إطار من السرية في شمال اليمن وأصبح المسرح السياسي والعمل داخله حكراً على قوى التيار الإسلامي وحده .