الإسلام.. الاختلاف والتعدد ، الحرية والسلامالحلقـــــــة الأخيـــــــــرة: (( صحيفة الامة ))

د) القتال ضد الطرف الباغي والناقض للمعاهدات والمواثيق:   هذه الحالة التي أجاز فيها الإسلام القتال بالمعاهدات والاتفاقيات وعدم نقضها من طرف واحد, وتخص المؤمنين على نحو خاص. إذ يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}  “سورة الحجرات: 9ـ 10”. أي أن القتال هنا يتجه لإجبار المعتدي على وقف عدوانه والالتزام بما سبق الاتفاق عليه صلحاً, ويتوقف القتال برجوع المعتدي عن عدوانه وإلزامه بالعمل بموجب معاهدات واتفاقيات الصلح. ويتضح مما سبق استعراضه أن حالات السماح بالقتال المذكورة كلها هدفها الوحيد ردع الاعتداء والمعتدين والدفاع الشرعي عن النفس, وردع القتلة حفاظاً على حياة الإنسان, وإشاعة حرية الاعتقاد والرأي والتعبير, ومنع الإكراه, والترويع والإرهاب, ونصرة المظلومين والمستضعفين في الأرض وإنهاء البغي والجور الواقع عليهم, وفرض احترام المواثيق والمعاهدات والتقيد بها وإيقاف المنازعات المسلحة والاحتكام إلى حلول التصالح السلمية لها, وهي كلها أهداف وغايات تصب في مجملها وتضافرها وتكاملها في منحي رئيسي واحد هو الحفاظ على السلام والأمن والاستقرار العالمي وتأكيد التضامن والتعاون والتكامل الإيجابي بين جميع شعوب وأمم الأرض, على أسس ومعايير الحق والعدل والتكافل والمساواة والإخاء الإنساني الواسع.   ثانياً: الإسلام وسلامة البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية:- أوضح الله سبحانه في القرآن للناس مراراً وتكراراً أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما وقدر فيهما أقواتها, وأرزاقها وسخر كل ما فيها من نبات وحيوان وماء وطيور وأسماك ومعادن وغيرها لصالح الإنسان بتعاقب أجياله وأزمانه, وبين أنه سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء بموزون أو بمقادير وتوازن دقيق, وطلب من الناس أن يأكلوا ويشربوا من طيبات ما رزقهم ونهاهم عن الإسراف والتبذير {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}, وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}, وتوعد المسرفين والمبذرين بعواقب وخيمة وعذاب شديد, مبيناً للناس أنه سبحانه وتعالى قد خلق الأرض وأصلحها وأخرج منها الخيرات والثروات بنظام دقيق يقوم على توازن تام وتكامل شامل لفائدة وبقاء الإنسان, وبتعاقب جميع أجياله وأزمانه إلى قيام الساعة, وإلزامهم بالتمتع بكل الخيرات دون إسراف أو تبذير وأن لا يعيثوا في الأرض مفسدين, قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } “الأعراف: 85”. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}, “الأعراف: 55″. {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ},”البقرة:205”. {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}, “الرعد:25″. {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ, الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ},”الشعراء:151ـ152”. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}, “الروم:41”. {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} , “هود:116”. {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}, “القصص:77”. {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }  “سورة المائدة33”. ومن أجل جعل الناس يتعاملون مع كل ما في الأرض من نبات وحيوان وجماد تعاملاً حريصاً وحميماً ورحيماً, بين الله سبحانه وتعالى للناس بأن كل ما في الأرض والسماوات من موجودات تتمتع بحياة وعلم وعقل ودور مثل الإنسان قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} “سورة الأنعام 38 “. {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ” سورة الحديد1 “. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} “سورة الإسراء 44″. {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } ” سورة الرعد13″ . {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتِهِ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ” سورة النــور41″. {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} ” سورة الأنبياء79″ هذا التصور الحي والمذهل والحقائق المبهرة أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يدركها ويعلمها ويوقن بها وطلب إليه أن يتعامل مع كل الموجودات وفقاً لتلك الحقائق وبأنها أمم أمثالها تصلي وتسبح وتحمده, ولهذا فإن واجب الإنسان أن يلتزم بالاستفادة منها في حدود الضرورة بلا إسراف أو تبذير أو جشع يفسد توازنها ويدمر إصلاحها ويخرب سلامتها واستمرار عطائها, ووفقاً لهذه الرؤية أفاض علماء الإسلام وفقهاؤه في شرح وتبين كيفية ترشيد استغلال الموارد الطبيعية والحفاظ على توازن وسلامة البيئة ومواردها وخيراتها فحرموا صيد الأسماك والطيور وسائر الحيوانات خلال الأشهر الحرم الأربعة, وهو موسم التوالد والتكاثر, كما نهوا عن قطع الأشجار إلا لضرورات حقيقية وأوجبوا عدم القطع خلال أشهر معينة ضماناً لاستمرار حياتها ونموها وعطائها المتواصل, إضافة إلى الرفق والرحمة بالحيوان والطير بل وحتى النبات والجماد سواء برعايتها والاهتمام بها في حياتها أو في ذبحها وقطعها للاستفادة الضرورية منها, ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استبشع ومقت كل إفساد للأرض يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل بأي صورة من الصور ولأي سبب من الأسباب, وغلظ وشدد العقوبات والعذاب لكل فساد ومفسد في الأرض بما في ذلك القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض هذا في الدنيا أما في الآخرة فلهم عذاب عظيم, وذلك نظراً لما يسببه الفساد في الأرض من تدمير لمقومات وشروط الحياة على الأرض برمتها. إلى جانب هذه الاهتمامات والتعاليم والأوامر الجوهرية الرئيسية الثلاث التي تبين جوهر الإسلام وحقيقة أهدافه ومقاصده وغاياته فإن هناك الكثير من القيم التي تنهى الإنسان وتحرم عليه ممارسات وأخلاقيات سيئة ذميمة مثل الزنا والشذوذ الجنسي والسرقة وشهادة الزور ونهب أموال الناس واليتامى بالباطل, والتعامل بالربا وظلم الناس بالانتقاص من حقوقهم وأموالهم, والرشوة, وإلصاق التهم بالأبرياء, وعقوق الوالدين, وعدم مساعدة المحتاجين والفقراء واليتامى والبر والإحسان إليهم, والتعاون على أعمال الإثم والعدوان وغيرها من السلوكيات القبيحة المذمومة. إنها في مجملها تهدف إلى بناء إنسان ومجتمع على أسس راسخة ومتكاملة من القيم والسلوكيات الفاضلة والخيرة والإيجابية لتقويم الإنسانية كلها بالقسط والعدل والسلام. وبعد: فهذا هو الإسلام الدين, في بعض أهم وأبرز مضامينه وتعاليمه وأهدافه ومقاصده, التي استطعنا أن نستخلصها من كتاب الله العزيز (القرآن الكريم), واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض, وهو جهد أولي متواضع لا يدعي الكمال أو الصواب المطلق, وإذا كان هناك من المسلمين من ارتكب أعمالاً وأفعالاً مثل قتل المسلمين المخالفين لهم في الرأي والموقف أولاً, وغير المسلمين ثانياً, وأدعوا لأنفسهم وحدهم امتلاك الحق المبين واحتكار الحقيقة كلها, وقادهم كل ذلك إلى أعمال العنف والترويع والإرهاب وسفك الدماء وإكراه الناس على إتباعهم وهم لهم كارهون, وجعلوا من أنفسهم وكلاء عن الله سبحانه على خلقه وأعطوا أنفسهم اختصاصات وسلطات هي لله سبحانه وتعالى وحده علام الغيوب وليس لأحد أو جماعة من خلقه وعبيده, فإن هؤلاء أفراد أو جماعات إنما يمثلون أنفسهم ولا يعبرون عن الإسلام أو المسلمين, بل إنهم يسيئون إلى الإسلام إساءات بالغة ويلحقون بالمسلمين والناس أجمعين أفدح الأضرار ولا يمكن أن يتخذون كمعيار لرؤية الإسلام أو الحكم عليه. وإذا كان الإسلام, هو كما حاولنا إيضاح أهم جوانبه ومضامينه وأهدافه وغاياته ومقاصده, في هذا الجهد المتواضع, فهل هنا منصف يجرؤ على إلصاق صفات أو تهم الإرهاب والإكراه والعنصرية والتعالي وإثارة الفتن والحروب والأحقاد والكراهية؟ إلا أن يكون ظالماً ومتحيزاً ومنافياً للحق والحقيقة, وفي النهاية فإن الحق دائماً هو الذي يشرق بنوره مهما بدا الظلام حالك السواد فذلك قانون الحياة منطقه الحتمي. {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} صدق الله العظيم.