هل الاجتهادات الفقهية “الزيدية” ملكية!!؟ (( صحيفة الوحدة ))

    الحق أن مقالات عدة كتبها الاخوان العزيزان الاستاذ نصر طه مصطفى والاستاذ حارث عبدالحميد الشوكاني في صحيفة “الصحوة” ومجلة “النور” وصحيفة “الوحدة” قد خلقت لديَّ حافزاً قوياًَ ورغبة جامحة لقراءة ودراسة بعض كتب الفقه والمذاهب والفكر الاسلامي.. ولعل أكثر ما عزز لدي ذلك الحافز وتلك الرغبة أن تلك المقالات دارت – تصريحا وتلميحا- حول محور رئيسي مؤداه – فيما فهمته- أن الثورة اليمنية رغم قضائها على حكم بيت حميد الدين فإن المرتكزات العقائدية والفكرية للحكم الملكي –الإمامي- لا تزال باقية ومؤثرة في الواقع حيث لم تتمكن الثورة من القضاء عليها واستئصالها باجتثاث “المذهب الملكي” من جذوره، وهذا المذهب الملكي “حسب ما تفصح عنه تلك المقالات –بالتصريح وبالتلميح- هو المذهب الزيدي أو الهادوي ، الذي هو في نظرها خارج عن الكتاب والسنة، بدليل إشارتها إلى معاناة الأئمة المجتهدين الذين لا قوا معاناة بسبب خروجهم عن المذهب و “الرجوع المباشر إى الكتاب والسنة الصحيحة” أو “ارتباطهم بالكتاب والسنة” كالشوكاني وابن الأمير وابن الوزير والمقبلي.  والواقع أن مضامين هذه المقالات للاستاذين الفاضلين قد اضرمت في نفسي نار حب الاستطلاع ونزعة البحث العلمي، بعد خمود طويل، ذلك أنه لم يسبق أن سمعت أو قرأت عن شيء اسمه “مذهب ملكي” ولم يقل أحد من قبل بوجود مذاهب ذات نزعات ملكية أو جمهورية أو ثورية أو رجعية أو ديكتاتورية أو ديمقراطية….. الخ تلك التصنيفات السياسية المعاصرة.. وكل ما كان راسخا في أذهاننا جميعا أن المذاهب الاسلامية كلها، ودون استثناء –اجتهادات أئمة وعلماء وفقهاء مؤمنين في فهم النصوص وتفسيرها ومعالجة وقائع الحياة المتجددة على ضوء فهمهم وتفسيراتهم، وأنها جميعا مصيبة ولها أجرها عند الله.. وأن تعدد المذاهب في الاسلام بقدر ما برهن على حض الاسلام وتشجيعه على الاجتهاد، لمواكبة متغيرات الحياة وتجدد وقائعها، فانه –أي ذلك التعدد- كان صاحب فضل كبير على ماحققته الشريعة الاسلامية من ثراء وخصوبة وحيوية وتجدد، رغم محدودية ذلك التعدد بسبب جمود حركة الاجتهاد واستمرارها، ولولا جمود حركة الاجتهاد وتوقفها تقريبا لكان لدينا اليوم عشرات بل مئات المذاهب والاجتهادات الاسلامية ولأصبحت الشريعة الاسلامية مؤهلة وقادرة على قيادة العالم وتوجيهه من خلال تميز وفاعلية الحلول والمعالجات التي تضعها لمشاكل الانسانية وهمومها.. إن أئمة المذاهب الأجلاء –على محدودية تلك المذاهب- أدركوا منذ زمن بعيد هذه الحقيقة تمام الإدارك وعملوا بمقتضاها، فلم يسع أي منهم إلى نقض وهدم مذهب الآخر، واجتهاداته، ولم يعرف عن أي منهم تسفيه أو تكفير لغيره، بل على العكس من ذلك نظر كل واحد منهم إلى الآخر نظرة احترام وتقدير باعتبارهم جميعا على صواب.  مقالات للتحريض ولعل أكثر ما أفزعني من تلك المقالات مناداتها العدائية باجتثاث والقضاء على مذهب بكامله دون بيان أو تفنيد أو سند، بل وأخطر من ذلك بالتحريض على تصفية المؤثرين من أتباعه من “مواقع مؤثرة في مختلف الأجهزة الرسمية والحزبية”!! فإذا كانت النظرة إلى اجتهاد إسلامي بهذا الشكل الرهيب، فهل يمكن أن يصدقنا الناس حينما نعلن لهم عن ايماننا وتقبلنا للتعددية الحزبية والسياسية والفكرية التي تسود وطننا منذ اعادة وحدة وطنه في22مايو1990م خالد الذكر؟ إذ يصبح من حق كل الأحزاب والتنظيمات السياسية الشعور بالشك والريبة والتخوف من حقيقة نوايا التيارت الإسلامية تجاه مسألة القبول بالديمقراطية والتعايش مع الآخرين ما دامت نظرة بعضهم لبعض بذلك المستوى من الحدة والغلو في العداء!.  وعلى الرغم من ذلك فان القضية الجوهرية التي أود الوقوف –بالتحليل- أمامها الآن تتحدد في محاولة التدقيق فيما ذهبت اليه تلك المقالات من اعتبار المذهب الزيدي مذهبا “ملكيا” يستعبد الناس بجعل أقليتهم سادة لأكثريتهم، وغرس حالة الخضوع والاستعباد لدى المواطنين….الخ.  وقبل البدء في محاولة كهذه.. أجد لزاما عليَّ أن أؤكد على حقيقة لا بد من تأكيدها سلفا، وهي أنني رغم الجهد الذي بذلته في الرجوع إلى المراجع الأساسية للفكر الزيدي والهادوي، فإنني لا أدعي الإلمام بمختلف جوانبه ومجالاته ولا حتى ببعضها، وكل ما استطعت عليه الوصول إلى معرفة -عامة – غير متعمقة لبعض الجوانب التي اعتقد بأهميتها. ذلك أن سياحة عابرة على قطار سريع في أرجاء تلك المراجع والكتب مكنتني من أن المح أبرز المعالم الشاهقة في تلك الأرجاء، وقبل تسجيلها في هذه المقالة فاني أرجو من القارئ الكريم أن يغفر لي تجنبي ايراد نصوص واقتباسات نصية وذلك كيلا ارهق القارئ في متابعتها، وتحاشيا لشعوره بشيء من الملل، مكتفيا بالوصف المرسل لتلك المعالم، ومحيلا القارئ في نهاية المقال الى سماء المراجع والكتب للراغب في الاستزادة. ويمكن بلورة المعالم الملتقطة من رحلتنا الخاطفة على النحو التالي: 1.      لعل أول ما تقع عليه عين السائح على قطار سريع في أرجاء الفكر الزيدي ذلك المعلم الشاهق والبارز المتمثل بإعلاء شأن العقل وتعظيمه لدى الزيدية، ومن ضمنها الهادوية، حيث يحتل –أي مسائل العقل اليقينية- المرتبة الأولى في مصادر التشريع، يليه اجماع العقلاء ثم الكتاب وبعده السنة النبوية الصحيحة التي تقاس صحة الحديث المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقياس موافقته وعدم تعارضه مع ما ورد في القرآن الكريم.. إن اعتبار العقل حاكما لدى الزيدية يستند إلى أساس منطقي مؤاده أن معرفة الخالق والرسالة المحمدية لا تتم إلى به، ولعل الترابط الوثيق بين الزيدية والمعتزلة فكرياً قد لعب دورا بارزا في اعطاء تلك المكانة السامية للعقل ودوره، والواقع أن هذه السمة البارزة للزيدية قد منحته القدرة الدائمة على التجدد ورفض الجمود من خلال تشجيعه وحثه، الذي يبلغ حد الوجوب، على الاجتهاد، فالاجتهاد عندهم –كما يقول محمد أبو زهره- اجتهاد في اصول الاعتقاد واصول الاحكام وفروع الاحكام معا، فمن ناحية أوجب على المجتهد عدم التقليد واعتبر جنوحه للتقليد إثماً، ومن ناحية أخرى أعطى للإنسان حرية مطلقة في قبول أو عدم قبول أي رأي أو فتوى حتى وإن كانت صادرة من علماء مذهبه، ففي قواعد المذهب الواردة في الجزء الأول من ” شرح الأزهار” نجد ذلك بما معناه “علم الإنسان مقدم على علم غيره كائنا من كان” بمعنى أن الانسان متى ما علم في قضية بخلاف المذهب الذي يتمذهب به فعلمه مقدم عليه ” إضافة إلى التأكيد على أن تقليد الحي أفضل من تقليد الميت، وتلك وسيلة مثلى لمواكبة تطور الحياة وتجدد وقائعها فالمجتهد الحي مرتبط بها أكثر من الميت الذي انقطعت صلته بها.. واعتبروا – كقاعدة– أن الخلاف في مسألة يصيرها ظنية، ولم يجيزوا النهي عن المنكر في المسائل الخلافية أو في المسائل التي تعتبرها اجتهادات فقهية أخرى غير منكرة مثل عدم نهي الحنفي المذهب عن شرب “المثلث” أي النبيذ لأن مذهبه يجيز ذلك، وفي ذلك كله منتهى الإيمان بالحرية واحترام وقبول الآراء الأخرى مهما كان الخلاف معها، وواضح أن هذا الموقف الإيجابي ينبع من ايمانهم بحرية الانسان وحرية اختياره.. ولقد هيأ ذلك للزيدية قدرة فائقة على الانفتاح على المذاهب الاسلامية والافكار الانسانية، غير المتعارضة مع الشريعة دون عقد أو تعصب مما جعل الزيدية على حد قول محمد أبو زهره “مذهبا ناميا متسعا يجد في رحابه كل مذهب من مذاهب أهل الإسلام مستقراً.. وتلك حقيقة يلحظها القارئ العابر لمراجع وكتب الزيدية وخاصة “شرح الأزهار” ففيها تجد تسجيلاً أمينا لأراء المذاهب الأخرى، وأكثر من ذلك تجد في أحايين متعددة فيها حكما معينا يشار إليه بعبارة “وهذا خلاف المذهب”. العدالة الاجتماعية 2.      بعد أن يمر السائح العابر بسرعة على هذا المعلم الشامخ، يصادفه معلم بارز آخر وهو معلم العدالة الاجتماعية والعدالة بمفهومها الشامل، فقد أولت الزيدية اهتماما كبيرا لتحقيق العدل الاجتماعي، فقد أوجبت الزيدية على الموسر نفقة المعسر حيث ورد في الجزء الثاني من ” شرح الأزهار” النص عليه كما يلي “ويجب على كل موسرنفقة كل معسر بشرطين.. الأول أن يكون على ملته وهذا الشرط في غير الأبوين، وأما هما فلا يعتبر فيها، والثاني أن يكون الموسر يرثه بالنسب.. ويجب للمعسر على الموسر من الإنفاق الإطعام والإدام والدواء وكسوته وسكناه وإخدامه للعجز، واجرة الحضانة وقائد الأعمى وحامل المقعد، وله –أي المعسر- طلب الكفيل إذا أراد منفقه الغيبة وإذا مطل طلب الكفيل، وقال في “الكافي” إذا كانت عادته –أي المعسر– لا يخدم نفسه لجلالة جاهه.. ويضيف أن للحاكم أن ينفق على المعسر من مال الموسر الغائب. وقد حددت الزيدية حد الموسر الذي تلزمه نفقة المعسر، من يملك من المال الكفاية له وللأخص به من الغلة إلى الغلة إن كانت له غلة إلى وقت الدخل إن كان له دخل، وينفق من الزائد على ما يكفيه.. ويجب عليه إنفاق قريبه المعسر، ويجب له انفاق من قريبه الموسر ذلك حيث يكون له في كل يوم دخل يكفيه ليوم ويزيد فإن الزائد يجب عليه أن يصيره إلى قريبه المعسر. وحد المعسر الذي تجب نفقته –كما ورد في “شرح الأزهار” من لا يملك قوت عشر ليال، غير ما استثني له من الكسوة والمنزل والأثاث والخادم وآلة الحرب من فرس أو غيره (ويضاف إلى ذلك المركوب-أي الدابة-).  ويتضح من ذلك أن الزيدية تعتبر الانسان فقيراً حتى برغم امتلاكه لمنزل يأويه وأثاثه ولمركوب ينتقل به ولألات الحرب، مع وجود خادم له في حالة العجز، المهم أنه لا يملك –سوى ذلك- قوت عشر ليال.. والفقيربهذا التحديد عند الزيدية هو من يستحق الزكاة.. أما إذا كان الفقير دون ذلك كأن لا يكون مالكاً لسكن أو مركوب أو لآلة الحرب، ولا يتوفر لديه ما يكفي لوجود خادم في حالة العجز فإن مسؤولية الدولة – وجوباً– أن توفر له المسكن والمأكل والدواء والاخدام في حالة العجز واجرة الحضانة وقائد الأعمى وحامل المقعد لإيصاله إلى حد الفقر أو حد المعسر الذي تجب نفقته.  وعلى صعيد آخر توجب على كل إنسان سد رمق من خشي عليه التلف أو التضرر من بني آدم كالمسلم والذمي، وفي حالة رفضه إلى حد موت الانسان جوعاً فإن عليه دفع الدية.. ليس ذلك فحسب بل يتعداه إلى وجوب سد رمق سائر الحيوانات وتفرض عقوبات على من يتسبب في نفق الحيوانات مثل من يتسبب في كسر أسنان ماشية نتج عنه انعدام قدرتها على الأكل فنفقت.  ويذهب بعض علماء الزيدية إلى حد إسقاط مشروعية الدولة بكاملها إذا انتشر الفقر والمجاعة وأفضت إلى موت إنسان من الجوع.  مقاومة الحاكم الجائر 3.      وينتهي السائح على قطار سريع في أرجاء الزيدية إلى رؤية ملمح لا يقل شموخا ولا سموا عن الملمحين أو المعلمين السابقين، وهو محاربة الظلم والظالمين والخروج على الطغاة والجبابرة، فالزيدية – كما يقول الدكتور عبدالفتاح شائف نعمان في كتابه “الإمام الهادي” هي “في الحقيقة تعني السيف والجهاد والخروج على الظالمين.. فالإمام زيد المجاهد الذي أرسى مبدأ الخروج على أئمة الجور وحكام السوء المتسلطين على رقاب المسلمين”.  والواقع أن الفكر الزيدي قد أوجب على كل قادر كفرض عين الخروج على الحاكم الجائر قالوا وما علامات جوره.. قيل أن يستأثر برأي أو مال، بل واعتبروا تميز الحاكم عن سائر الرعية، وقال بعضهم عن أفقر الرعية، في ملبسه ومأكله موجبا للخروج عليه. وفي كتاب الأحكام للإمام الهادي يحيى بن الحسين يقول فيمن يعاون الظالمين ” من أعان ظالماً ولو بخط حرف أو برفع دواة أو وضعها ثم لقي الله عز وجل على ذلك وبه ولم يكن اضطر إلى ذلك مخافة على نفسه لقي الله يوم القيامة وهو معرض عنه غضبان عليه، ومن غضب الله عليه فالنار مأواه والجحيم مثواه.. أما اني لا أقول ان ذلك في أحد من الظالمين دون أحد، بل أقول انه لا يجوز معاونة الظالم ولا معاضدته ولا منفعته ولا خدمته كائنا من كان من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو من غيرهم، كل ظالم ملعون وكل معين ظالم ملعون”. ومن هذا الموقف المتشدد والحازم من الظلم والظالمين، اعتبرت الزيدية من الإثم دفع الزكوات والواجبات للحكام الظالمين، كما أبطلت التجارة والأعمال، وكفرت مساعدتهم ومعاونتهم باعتبار كل ذلك تمكينا للظالم من مواصلة ظلمه وطغيانه، كما أسقطت إقامة الحدود في ظل الطغيان، وفرضت على الحاكم –وجوباً– رد الزكاة لأصحابها في حالة عجزه عن توفير الأمن والأمان والاستقرار للمواطنين.  وبعبارة أخرى فإن الزيدية بقدر ما تحرض الناس تحريضاً دينياً على وجوب الخروج والثورة على الظالمين والحكام الجائرين، فإنها تحرضهم إلى جانب ذلك على القيام بحركة عصيان مدني شامل قل أن نجد له نظيرا في المذاهب والاجتهادات الإسلامية والأفكار الوضعية في العالم.. إن العدل من وجهة نظر الزيدية هو أساس كل شيء في الحياة وبدونه لا تستقيم الحياة ولا يقوم عمران. ولعلنا بعد هذه السياحة الخاطفة في أرجاء الفكر الزيدي المشرق والوضاء بحاجة إلى المرور سريعاً على بعض المعالم الأقل شموخاً في محاولة للإلمام السريع بأكبر قدر ممكن من الصورة وفي هذا الصدد نجد أمامنا التالي:  1.      في مسالة الكفاءة في الزواج يقول الدكتور عبدالفتاح شائف نعمان في كتابه “الإمام الهادي” ما نصه ” ذهب الإمام زيد إلى أن المعتبر في الكفاءة في النكاح إنما هو الدين فقط أما النسب فلا عبره به فينكح الأعجمي العربية، وينكح غير القرشي القرشية، وينكح غير الفاطمي الفاطمية، لا فرق بينهم في ذلك إذا كانوا مسلمين مؤمنين”.  ويضيف أيضاً ” وهذا الذي ذهب إليه الإمام زيد هوالذي ذهب إليه الإمام الهادي رحمه الله بل عمل به حيث زوج بناته من المهاجرين الذين قدموا إليه من طبرستان لمناصرته والجهاد تحت لوائه “.  وفي ” شرح الأزهار” نجد أنه ” فيجوز تزويج العبد الفاطمية إذا رضيت ورضي وليها كما تزوج اسامة بن زيد وهو مولى فاطمة بنت قيس وهي قرشية باشارة النبي “ص” عليها به ونحو ذلك مما يكثر تعداده”.  2.        وفي الموقف من الخلفاء والصحابة فاننا نجد في كتاب “الإمام الهادي” للدكتور عبدالفتاح شائف نعمان ما نصه ” أما الإمام زيد رحمه الله فقد قطع بعدم تخطئتهم وكان يترحم عليهم ونحو ذلك مما يكثر تعداده “.  وفي مكان آخر يقول ” والإمام الهادي فيقول في رده الذي كتبه لأهل صنعاء عند قدومه اليهم.. ولا انتقص أحداً من الصحابة الصادقين التابعين باحسان، المؤمنات منهم والمؤمنين، أتولى من هاجر ومن آوى منهم ونصر، فمن سب مؤمناً عندي استحلالاً فقد كفر”.  3.      وفي مسؤولية الحاكم مباشرةعن الأحكام الصادرة في عهده نجد في   ” شرح الأزهار” في المجلد الرابع في باب الحدود ما نصه: ” فان قصر الحاكم في استفصال شيء مما تقدم نحو أن يشهد الشهود على رجل بالزنا وهو محصن بالظاهر فرجمه الإمام ثم علم أنه كان مجنوناً، ضمن –أي قص- ان تعمد التقصير وهل يجب عليه القود –أي القصاص أو الدية ينظر، وفي الحالتين معا اعتبر الحاكم مقالا ً”. يبقى بعد ذلك أن نشير إلى قضية تؤخذ على الزيدية بما فيها الهادوية وهي قضية حصر الإمامة في آل البيت –علوي فاطمي- فبرغم أن الإمام زيد قد أجاز إمام المفضول بوجود الأفضل، ورغم اعتبارها في الزيدية شرط أفضلية وليست نصاً، ومع أن فرقا من الزيدية كالصالحية والسليمانية قد تجاوزتها إلى وجوبها في عموم الأمة، فان النظر إلى هذه القضية –برغم كل ذلك- ينبغي أن يتم في السياق التاريخي للقول بها، فكل المذاهب الإسلامية تقريباً قد قال بحصر الإمامة، منهم من حصرها وأوجبها في قريش، ومنهم من حصرها في بعض الأئمة كالشيعة، ومنهم من حصرها في آل البيت للعلوي الفاطمي كالهادوية، ومنهم من أوجبها في عموم الأمة، ومنهم من حصرها في العرب وحدهم، وبذلك تحولت إلى مسألة خلافية فأصبحت ظنية يجب الاجتهاد فيها، وأعتقد أن فتوى علماء الزيدية المنشور في صحيفة “الوحدة” و”26سبتمبر” باعتبار الإمامة لا تمت إلى الإسلام بصلة وأنها جلبت على الأمة من الويلات والحروب والدماء الكثير وأنه لما كانت مقاصد الشريعة جلب المصالح ودرء المفاسد فإن الأمة تعتبر ساقطة، وبهذا تكون مسألة الإمامة وحصرها قد انتهت تماماً، يضاف إلى ذلك أن القبول بدستور الدولة وتأييده بما ينص عليه من أن الشعب مالك السلطة ومصدرها، وأن المواطنين جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات يعد منهيا للمشكلة من أساسها. وأخيراً وبما أن الزيدية كما قال محمد أبو زهرة ” قد فتح باب الاجتهاد فيه إذ لم يغلق فيه وقتا من الأوقات.. وفتح باب الاختيار من المذاهب الأخرى فقد صار هذا المذهب بهذا الاختيار حديقة غناء تلتقي فيها أشكال الفقه الإسلامي المختلفة وأغراسه المتباينة وجناه المختلف الألوان والطعوم وان ذلك كانت نتيجة لفتح باب الاجتهاد فيه “. يقول الاستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه “قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة” :”ومن هذه الصرامة العقلية نشأت فكرة “الخروج” وأخذت في الفكر الزيدي طابعاً عاما، فهي تعني في الأساس الخروج على الحاكم الجائر، لكنها شجعت الخروج على التقليد، والخروج على الإجماع الخاطئ، والخروج حتى على المذهب نفسه، وعدم قصر فكرة الخروج على نظام الحكم جعل منه قاعدة عامة للحياة الفكرية والسياسية، ومن هنا تتضح أهمية هذا الفكر وخطورته، أما انتصاره للحرية ففي آثار دعاته وكبار أنصاره صفحات تتضوع منها روائح الانعتاق من عبادة النصوص وتقديس السلف، وإلى تلك القاعدة “الرسية” الرئيسية يعود الفضل في بلورة معاني التمرد والثورة على التقليد، وعنها ينبثق احترام الرأي والآخر وضرورة مناقشته في ضوء فهم عقلاني بعيد عن العاطفة وحساسية التعصب والجمود”. وعليه يمكن القول أن “الزيدية” تعني:-  ·                   العقل ودوره القيادي.  ·                   الحرية والمسؤولية.  ·                   العدالة بمفهومها الشامل والاجتماعية منها على الخصوص.  ·                   الخروج والثورة على الحكام الظلمة والجائرين والثورة على الجمود والتعصب.  ·                   التسامح والانفتاح واحترام الرأي الآخر. فبأي حديث بعد كل ذلك يقول القائلون عن هذا الفكر العملاق بأنه:- *                 مذهب ملكي يؤسس المرتكزات العقائدية والفكرية والسياسية للملكية. *                   وأنه مذهب يفرض على الناس العبودية والعنصرية والاستبداد. *       وأنه مذهب خارج عن الكتاب والسنة إلا الذين خرجواعنه من علمائه وعادوا إلى الكتاب والسنة!.  ورغم أنني أدرك حقيقة الدوافع التي تدفع البعض إلى تجريد حملة عدائية شعواء ضد الفكر الزيدي.. لكنني أترك للقارئ أن يستنسخ بنفسه تلك البواعث والدوافع في ضوء ما سيعلمه من عظمة وشموخ المبادئ التي أكدت عليها الزيدية.  ولعلي أستدرك بالقول أن ما تمكنت من عرضه من تلك المبادئ هو القليل مما يتضمنه الفكر الزيدي كما أن هذا القليل ينقصه العمق والاحاطة الشاملة.  وعزائي أنني لازلت في مرحلة الدراسة لهذا الفكر الشامخ، على أمل معاودة النقاش في إطلالة أخرى بإذن الله تعالى. مراجع وكتب يمكن الرجوع إليها:- 1.               شرح الأزهار. 2.               الأحكام للإمام الهادي يحيى بن الحسين. 3.               الروض النظير في مجموع الفقه الكبير لشرف الدين الحسين بن أحمد السياغي. 4.               المجموعة الفاخرة مخطوط مصور للإمام الهادي. 5.               التاج المذهب. 6.               الإمام الهادي لعبد الفتاح شائف نعمان. 7.               الاعتصام للإمام القاسم بن محمد. 8.               الزيدية.. د/ أحمد محمود صبحي. الوحدة.. العدد”76″ الأربعاء20جماد الأول1412هـ.. 27/11/1991م.