وصلنا في الحلقة السابقة، من واقع استعراضنا لطبيعة وتركيبة الحكم والدولة القائمة في اليمن، والعقد الاجتماعي القديم والمتخلف الذي لايزال يَستند إلى شرعيته ويقوم على أسسه ومعاييره ومحدداته المناطقية الطائفية القبلية (( الجيوبوليتكية )) حتى اليوم. الى نتيجة مؤداها أن هذا النظام ودولته بات متخلفاً بكثير وعائقاً رئيسياً أمام عملية التطور والتقدم والتحديث والمعاصرة، وأن كل المؤشرات والشواهد والدلائل تشير الى حقيقة أيلولته الى الإنهيار والسقوط وأن أمر سقوطه النهائي ليس إلا مسألة وقت. وانتهينا في تلك الحلقة الى الوقوف أمام السؤال الكبير، عن شكل وطبيعة ومضمون النظام السياسي الجديد المتوقع بروزه وقيامه على أنقاض النظام القائم المحكوم بالسقوط حتماً.. وعن صيغة ومضمون العقد الاجتماعي السياسي الوطني الجديد، التي تفرض الضرورات والأساسيات الوطنية الملحة أهمية وحتمية التوصل اليه، مُلبياً لطموحات وآمال الشعب بكافة شرائحه ومكوناته المتعددة ومعبرة عنها، كأساس يُشاد على صرحه النظام السياسي الجديد المتجاوز، تاريخياً، للنظام الراهن المؤكد سقوطه، والدولة الجديدة المأمولة في ظله. إن مسألة تحقيق إتفاق ووفاق وطني عام حول شكل ومضمون وطبيعة العقد الاجتماعي الجديد، تحت أي مسمى أكان(( الميثاق الوطني اليمني المعاصر )) أو(( العهد الوطني اليمني )) أو أي تسمية أخرى، بات من أكثر الضرورات والمطالب الشعبية الوطنية وأشدها إلحاحاً، كوسيلة وأداة فاعلة لعملية إنقاذ وطني عاجل يحول دون إنزلاق اليمن، وطناً وشعباً، إلى هاوية مصير قاتم مظلم سحيق، من ناحية وهادياً وموجهاً لانطلاقة وطنية جديدة عملاقة لإعادة بناء وتشييد صروح حياتنا الجديدة الواعدة عدلاً وتقدماً ومساواة وازدهاراً وعزة وكرامة.. إن مطلب صياغة هذا العقد الاجتماعي الجديد ـ أيا كانت تسميته وعنوانه، وضرورته ـ ظل طلباً مثاراً وحياً منذ ما بعد قيام النظام الجمهوري الجديد في 26 سبتمبرعام 1962م، وكان- آنئذٍ- ولفترة زمنية ليست قصيرة، مداراً لحوارات ومناقشات شتى هنا وهناك،دشنتها واوضحت معالمها، حوارات ومناقشات واطروحات الشهيد الوطني الكبير/محمد أحمد محمد نعمان، إلا أنه ما لبثت ان أُخمدت وأُسدل عليها ستار التجاهل والتغاضي والإهمال لأسباب ودواعٍ عديدة ومتباينة لا نريد هنا إعادة التذكير بها وإنما إستلهام عِبرها واشرافاتها المستقبلية المبكرة، فلقد كانت المصلحة الوطنية العليا،ولا تزال حتى اليوم، تتطلبها وتفرضها كضرورة لرسم معالم المستقبل والمسيرة الوطنية صوبه، قبل وفوق أية مصالح او مكاسب او امتيازات لهذا الفئة أو تلك من مكونات المجتمع اليمني التي قد تتضرر على نحو أو آخر. ان العقد الوطني الاجتماعي الجديد، الذي نطالب بصياغته بالحاح، هو تلك (( الوثيقة )) التأسيسية التاريخية المعبرة عن وفاق وإتفاق وطني عام، تحت إسم ((الميثاق أو العهد الوطني)) أو ما شابه ذلك، والذي يرسم بوضوح المعالم والأسس والمضامين الرئيسية للنظام السياسي الجديد المنشود أو الدولة الحديثة المتطورة التي ننشدها.. تلك الوثيقة أو الميثاق أو العهد الوطني الذي يشكل(( المرجعية العليا )) للدستور الجديد لطبيعة الدولة وفلسفتها وشكلها ومضمونها وسلطاتها وعلاقاتها ببعضها وبالمجتمع، والمحققة لمبادئ ومعايير (( المواطنة المتساوية )) والمشاركة الحقيقية والفعلية والكاملة لكل فئات وشرائح ومكونات المجتمع دون إقصاء او تهميش او غُبن او ظلم.. ولقد كان من الأهم والأجدى والأنفع بدلاً من الدعوات الهزلية والبهلوانية للحوارات الوطنية التي قامت وتقوم، بدواع لأهداف إخراج (( السلطة )) او الأطراف السياسية الاخرى من دوامة أزماتها ومآزقها الأنية الضيقة، وهي الحوارات التي لم تتمخض سوى عن تعميق وتأجيج أزماتنا ومشاكلنا الوطنية وتفجيرها أحياناً، كان الأجدى والأهم والأنفع بكثيرجداً لو إتفق الجميع، بنوايا صادقة ومقاصد نبيلة ومسئولية أخلاقية رفيعة، الى عقد (( مؤتمر حوار وطني عام )) يضم ممثلين حقيقيين وفاعلين لشرائح وفئات وتكوينات المجتمع اليمني، وقواه السياسية والاجتماعية الفاعلة والجادة والأمينة، بمنأى تام عن رغبات ومحاولات البعض إحتواء ذلك المؤتمرعبر الإستقواء والتسيُد والإحتواء على الآخرين ولهم.. وإنما على معايير وأسس ومبادئ الندية والمساواة والتكافؤ الحقيقي الفعلي، لمناقشة وبلورة مضامين ومبادئ وأهداف العقد الاجتماعي الوطني الذي نحن بأمس الحاجة إليه والى إعتماده كمرجعية عليا ملزمة للجميع وطنياً واخلاقياً وقانونياً …الخ، لكنه ومن المؤسف حقاً، والمدمر لكياننا الوطني برمته، أننا نرى ونلمس المحاولات المتعمدة المستمرة لتجاهل مثل تلك المهمة الوطنية التي تعلو فوق كل ما عداها والتهرب من إستحقاقها والعمل من أجلها، وصرف انظار الشعب وتوجيهها في إتجاه قضايا ومشكلات ثانوية وغيرسامية، من قبل القوى المتحكمة والمسيطرة التي تخشى على ضياع وفقدان مصالحها ومكاسبها وإمتيازاتها غير العادلة وغير المشروعة على حساب مصالح الوطن والشعب العليا.. واذا كان من غير المستغرب والمتوقع، منطقياً ان تعمل (( السلطة الحاكمة )) بفعل مصالحها ومكاسبها وإمتيازاتها غير المشروعة، على عرقلة وإجهاض والحيلولة، بشتى السبل والوسائل، دون انعقاد (( مؤتمر حوار وطني عام )) لإعلان صيغة العقد الاجتماعي الوطني الجديد، بأي تسمية يُتفق عليها، فإن ذلك لا يعفي القوى والأحزاب السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني الجادة والشخصيات الاجتماعية المؤثرة من المسئولية والتقصير في ترجمة وإنجاز مثل ذلك العقد الاجتماعي الوطني الجديد والبالغ الأهمية والضرورة لحاضر البلاد ومستقبلها دون انتظار موافقة (( السلطة الحاكمة)) او مشاركتها فهي لن توافق ولن تشارك في مهمة وطنية كهذه تعتبر بمثابة النفي لها والسالب لشرعيتها المتهالكة.. والمُهدد لأوضاعها الفاسدة ومصالحها غير المشروعة التي دمرت البلاد وأدخلتها في دوامات الفقر والبطالة والإحباط والفتن والحروب الداخلية المدمرة.. ولهذا فلقد كان من واجب ومسئولية، أحزاب اللقاء المشترك، جميعها ككتلة أو من يقبل منها، والحوثيين، وقادة فصائل الحراك الجنوبي في الداخل وممثليهم، ومنظمات المجتمع المدني الجادة والفاعلة وممثلي الكيانات النقابية الطلابية والعمالية من يقبل الدعوة منها، والقيادات المعارضة البارزة في الخارج من الرموز التاريخية للجنوب وغيرهم، والمجالس والشخصيات القبلية المنادية والعاملة للتغيير والمساندة له فعلاً وقولاً، أن تتداعى وتعمل على التهيئة والإعداد والتحضير والتنظيم العملي المدروس والدقيق لعقد (( مؤتمر للحوار الوطني التاريخي العام )) لإنجاز مهمة وطنية تاريخية عظمى تتمثل بالخروج بصيغة متفق عليها للعقد الاجتماعي او الميثاق او العهد الوطني الجديد المُلح والمهم للغاية والمنقذ لبلادنا وشعبنا والمحدد لمعايير وأسس وشروط وطبيعة ومضمون ومعالم النظام السياسي الجديد والبديل الأمثل والإيجابي والمتجاوز للنظام السياسي القائم والمتداعي والمتهالك وطرحه على فئات وشرائح ومكونات مجتمعنا اليمني لمناقشته والحوار حوله وإثرائه بالملاحظات والرؤى الجديدة ما أمكن. ثم إعتماده، بعد ذلك، في صيغته النهائية، وحشد وتعبئة كافة الطاقات والقوى والإمكانيات البشرية والمادية والمعنوية وتوجيهها في حركة شعبية سلمية وهادرة ومتصاعدة وشاملة نحو فرضها والانتصار لها والشروع في وضعها موضع التطبيق العملي في أرض الواقع. ومما لاشك فيه بل من المتوقع والوارد، ان تعمل (( السلطة الحاكمة )) الفاسدة المتهالكة والمترنحة، بكل ما تملكه من وسائل وسبل وإمكانيات، لعرقلة وإحباط إنعقاد مثل ذلك المؤتمر التاريخي المهم ووضع العراقيل والعقبات أمامه، لكن ورغم ذلك فإنه إذا أنعقدت الإرادة الصلبة المصممة والحاسمة، فليس هناك من مستحيل يصعب تجاوزه والقفزعليه، إذ ليس شرطاً ضرورياً إنعقاده، وفق الطرق التقليدية المعتادة في قاعة كبرى اوميدان فسيح واحد، بل يمكن إعتماد عدة وسائل واساليب إلتفافية متعددة للوصول الى الهدف النهائي المرسوم له، المهم مشاركة كل القوى والأحزاب والمنظمات والفعاليات السياسية والاجتماعية والمدنية وغيرها المشار اليها آنفا، في نقاش وبلورة صيغة العقد الاجتماعي الوطني الجديد ليس مرة واحدة بل مرات عديدة يتم عبرها التفاعل والأخذ والرد مع ما تبلوره كل قوة على حدة حتى يتم تحقيق مشاركتها التفاعلية الكاملة بها جميعاً إلى أن يتم التوصل الى الصيغة النهائية للمشروع التاريخي المأمول، وتبدأ بعدها الخطوات الميدانية العملية للحركة الشعبية الشاملة والمتصاعدة القوة والإتساع والحسم النهائي، شعبياً وسلمياً، للصراع القائم في الواقع والمُفرز بين(( حركة الشعب الشاملة )) من جهة و(( السلطة الحاكمة )) المتسلطة الفاسدة المتحللة والمتهالكة من جهة اخرى، وهو الصراع الذي سيحسم حتماً لصالح الشعب وإرادته.. ولعل من بين أهم وأبرز ما يجب ان يتضمنه مشروع (( العقد الاجتماعي الوطني الجديد )) المؤمل الأسس والمضامين الرئيسية التالية: اولا: التـأكيد الحاسم على مبدأ (( المواطنة المتساوية والعادلة )) بين أبناء اليمن جميعاً ددون تمييز او إستئثاراو إقصاء او تهميش او إلغاء، من خلال أحكام الدستور والمنظومة القانونية الجديدة. ثانيا: تحريم كافة أشكال وممارسات إحتكار السلطة والحُكم والإستئثار والتحكم به من قبل طائفة او فئة او أسرة او منطقة مهما كانت الاسباب والدواعي والحيلولة دون حدوثه مسبقاً. ثالثا: صيانة وتأمين وحماية الحياة السياسية العامة من خلال الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات وتحريم أية ممارسات او أعمال تقوم بها أجهزة الدولة ومؤسساتها التنفيذية لإفساد وتخريب وإختراق وتمزيق تلك الحياة السياسية ووضع عقوبات وزواجر رادعة وقوية ضد مثل تلك الممارسات الهدامة .. رابعا: وضع ضمانات وإجراءات فعالة لحماية الحريات الفردية والعامة وإزالة كل ما من شأنه الحد منها وتقييدها وتجريم أي فعل اوممارسة للتاثيرعليها سلباً.. خامسا: تحقيق المشاركة المباشرة والفعلية والحقيقية لكافة شرائح وفئات ومكونات المجتمع في قيادة وإدارة الدولة بمختلف تركيباتها ومستوياتها وسلطاتها دون إستثناء من خلال إعتماد صيغة (( الدولة الاتحادية )) الكاملة للنظام السياسي وطبيعته وعلاقاته بما يكفل إعادة توزيع (( تمركز السلطات )) وحصرها بسلطة المركز، على الأقاليم والتقسيمات الادارية الجديدة.. سادسا: التأكيد الصارم على أهمية استقلال ونزاهة وحيادية القضاء وعمله وتحريم أي شكل من أشكال التأثير عليه او التدخل في شئونه من قبل أي جهة او مسئول مهما كان مركزه وسلطته وحصر شئون السلطة القضائية كلها بالقضاة أنفسهم ادارياً ومالياً ومهاماً وسلطة.. سابعا: ابتداع الأليات والتشريعات اللازمة والمحققة تحقيقاً حقيقياً ومناسباً لتداول السلطة سلمياً، ووضع سقف محدد، سواء من حيث الفترة الزمنية او عدد الدورات الانتخابية المتتالية، التي لا يجوز – بعد إستنفادها- لأي سلطة او حزب الإستمرار في إحتكار الحُكم اوالإستئثار به، سواء عبر الانتخابات او بدونها.. إذ من غير الطبيعي في ظل نظام ديمقراطي اتحادي تعددي ان يواصل حزب حاكم سيطرته على الحُكم، مثلا، لعشرين سنة متتالية حيث أن وضعاً كهذا يشير الى خلل وفساد في النظم والأليات القائمة في الدولة حتماً، يوجب دراسته وتحليله وتغييره على نحو دائم ومستمر.. ثامنا: التأكيد الحاسم باعتبار كافة أشكال التعذيب وإمتهان كرامة الانسان والتعدي عليها جريمة عظمى يعاقب القانون مرتكبيها بأقسى العقوبات الرادعة والتأكيد على عدم سقوطها بالتقادم الزمني.. وتاسعا: إنهاء سيطرة الدولة على وسائل الإعلام مكتوبة ومنطوقة ومرئية، وتحويلها الى مؤسسات عامة مستقلة لها شخصيتها الإعتبارية المستقلة وتؤدي مهامها ورسالتها الإعلامية بمهنية وإحتراف فني، وعدم تسخيرها لخدمة سلطة او حزب مهما كان وعلى الاطلاق.. هذا وفي اعتقادي أن عقداً اجتماعياً وطنياً جديداً يتضمن ما يتضمن تلك المضامين والأسس والمعالم الرئيسية المذكورة آنفا وغيرها على نفس السياق والغاية، سيشكل بداية مرحلة تاريخية جديدة تماماً في حياة ومسيرة شعبنا اليمني الوطنية وإيذاناً بإعادة وتصحيح المسار والإنطلاق نحوغد أكثر إشراقاً وازدهاراً وتقدماً ونهضة وحرية ومساواة وعدلا، وتلك هي المبادئ والقيم التي مكنت الشعوب والأمم العظيمة والحية من تحطيم قيود ماضيها المتخلف والفاسد والمهين والإنطلاق المذهل الى ذُرى المجد والحضارة والرقي الذي اصبح مضرب المثل للبشرية جمعاء.. ونحن في اليمن لسنا أقل أصالة وإرادة وعزماً من تلك الشعوب والأمم ولنا فيها عبرة ومَثل.. وقبل الختام بقي لي أن أؤكد على حقيقة راسخة منعاً لأي لبس او سوء فهم قد يقع فيه البعض،وهي أنني ماكنت يوماً ولن اكون داعياً او عاملاً من أجل إثارة او شرعنة أي كيانات او تكتلات طائفية مذهبية او قبلية او مناطقية على الاطلاق فذلك مما يتناقض تناقضاً كلياً مع أفكاري وقناعاتي وتوجهاتي السياسية،وأعتبر أي مسعى نحو ذلك بمثابة إنتكاس او نكوص الى الوراء السلبي وأنا أسعى دائماً الى الامام والى الأكثر تقدماً والاكثر ايجاباً والأوسع نطاقاً على المستويين القومي والإنساني كله .. فهل نحن فاعلون؟ يقيناً إنا لقادرون وفاعلون باذن الله تعالت قدرته. صحيفة القضية السبت 12/2/2011 م بريطانيا ـ شيفلد ـ 22 /11/2010م