نحو عقد إجتماعي وطني جديد سبيلاً للإنقاذ الحلقة الاولى

تتأسس الكيانات السياسية “الدول” ،المُعبِرة عن الهوية الوطنية لأي شعب او أمة من شعوب واُمم العالم ،عادة ، وعبر مختلف الأزمنة والأمكنة ،على مشروع أو صيغة أو ميثاق يمثل “عقداً اجتماعياً سياسياً تاريخياً” متفق عليه وحائز على رضى وتوافق عام بين كل فئات وشرائح ومكونات المجتمع بكافة قواه الاجتماعية والثقافية والسياسية ، وبه تكتسب “الدولة” المبنية والمُدارة وفقاً وعلى أساس مضامينه وأحكامه وفلسفته وأهدافه ، مشروعيتها ومبررها الوطني والقانوني والأخلاقي . والعقد الاجتماعي الذي تنشأ الكيانات السياسية على ارضيته ، والمبلوِر والناظم لطبيعة الدولة ووظائفها ورسالتها والعلاقات المنظمة لمؤسساتها المتعددة وعلاقاتها بالمجتمع بمختلف قواه وفئاته ومكوناته وأطيافه ، يتخذ عدة أشكال ومظاهر فإما ان يتبلورفي معالمه الرئيسية وملامحه ، من خلال إعلان “ميثاق وطني” تصيغه وتوافق عليه تلك المكونات والفئات والشرائح من خلال تعبيراتها السياسية وطلائعها القيادية ،ونجد مثالاً له في “ميثاق الاستقلال” اللبناني ،او من خلال ترجمته والتعبير عنه في صياغة وأحكام ومضامين وفلسفة الدستور كضابط ومنظم وموجه لمسارات الدولة والمجتمع ، وفي بعض الأحيان نجده في منظومة القواعد العرفية محل الإجماع الوطني والتي تظل محل مراعاة واحترام والتزام وطني صارم من قِبَلْ الجميع ، ومن هنا وبذلك تتأسس “الدول” وتُبنى وتقوم بوظائفها ورسالتها ، و “الدولة” بدورها ، ككيان سياسي ووجود معنوي وكمفهوم ، ليست سوى نتاج ومحصلة لتراضي وتوافق مكونات المجتمع وشرائحه بل وحتى افراده ،على تنازل كل فرد من افراده عن جزء من حقه الطبيعي وسلطته الفردية ، لصالح مشروع ذلك الكيان السياسي أو “الدولة” التي يجب عليها بناء على ذ لك التنازل والتخلي عن حق طبيعي للفرد ، ويلزمها ،الزاماً ، بأن تعمل على رعاية وصيانة وتحقيق مصالح كل فرد وفئة ومُكوِن والتعبير عن أهدافه وتطلعاته ، وبعبارة أخرى ، أن تتولى إدارة وتنظيم تلك المصالح والحقوق والأهداف ضمن عملية توازن دقيق وإيجابي بين مصلحة “الفرد” ومصلحة “المجتمع” وضمان الحيلولة دون تعدي او طغيان اي منهما على حقوق ومصالح الآخرين ، في إطار سلمي وسلس وتلقائي يمنع لجوء اي منها الى أساليب القوة والعنف والتعدي والغصب بما يجلبه ذلك من مخاطر تهدد تهديداً جدياً مباشراً التلاحم والتماسك والوحدة الوطنية للشعب او المجتمع وسلامه الإجتماعي وأمنه واستقراره وتقدمه . وبما أن مفهوم وطبيعة الدولة ووجودها بإعتباره محصلة تجميع أجزاء من حقوق ومصالح أفراد المجتمع تنازلوا عنها طواعية وإختياراً ، لصالح مشروع “الدولة” القائمة ، في وظائفها ورسالتها وفلسفتها ومسارها ، على خدمتهم والسهر على رعاية وتنمية وتطوير حقوقهم ومصالحهم واهدافهم وتطلعاتهم جميعاً ، دون استثناء أو تمييزأو تهميش أو إقصاء لأي مُكّوِن  من مكونات الشعب والمجتمع ، فإنها ، اي الدولة ، بهذا المفهوم وتلك الطبيعة ، ليست إلا مجرد “وجود معنوي رمزي” يستمد “قوته” و “هيبته” و “الزاميته” من أساس ومشروعية كونه قائم على تراضي وتوافق وإقتناع كل المجتمع،أفراداً وفئات وشرائح اجتماعية وثقافية واقتصادية بل وأثنية ، أن وجدت .. فان هذه “الدولة” ، في حالة عجزها او فشلها عن أداء دورها ووظيفتها والقيام بمسؤلياتها الطبيعية التي انشئت ، اساساً ، من أجل النهوض بها وفقاً لصيغة ومضامين “العقد الاجتماعي” الوطني المانح لها الشرعية والمبررالموضوعي ، تحت ضغط وتأثير أسباب وعوامل الإنحلال والتفسخ والفساد والتخلخل وغيرها ، سرعان مايسحب ويطوي من تحت أقدامها بساط المشروعية الوطنية والأخلاقية والمبررالموضوعي لوجودها أصلاً ، وتبدأ فئات وشرائح ومكونات المجتمع بالتعبيرعن عدم رضاها ورفضها بل ومقاومتها للدولة ، التي باتت عاجزة وفاشلة في القيام بمهامها وأداء دورها ومسئولياتها ووظائفها ، واصبحت بمثابة عائق وعقبة معرقلة لأهداف وتطلعات وآمال الشعب في الإزدهار والنهضة والتقدم الحضاري ، عبر تفجرسلسلة متواصلة ومتنامية من التمردات والمواجهات والحروب الداخلية تحت مختلف اليافطات والشعارات والأهداف التي تُعبِر ، في مجملها وتفاعلاتها ، عن هدف واحد وهو مقاومة الدولة وإسقاطها وإستبدالها بكيان سياسي جديد وأكثر تطوراً وحداثة وتعبيراً عن تطلعات وأماني وطموحات الشعب التي تفرضها المتغيرات والتحولات والنقلات النوعية والكمية في كافة مجالات الحياة وترجمة الحقائق الجديدة التي افرزها الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي المتحرك والحيوي والذي عجزت الدولة المهترأة والفاشلة القديمة عن مواكبتها والتعامل معها بإيجابية .                                                                                                 تلك هي المحطات التاريخية للإنعطافات الكبرى في حياة الشعوب والأمم الحية ، والتي تُسقِط وتُنهي مشروعية العقد الاجتماعي المنشئ للدولة الفاشلة المتهالكة والآخذة في التحلل والتفكك والسقوط ، وتفرض وتوجب الشروع في صياغة وبلورة عقد اجتماعي سياسي وطني جديد يقوم عليه بنيان الكيان السياسي الجديد والبديل اي الدولة الفتية المؤهلة والقادرة على قيادة وتوجيه مسيرة الشعب الوطنية الشاملة والانطلاق بها نحو آفاق أوسع وأرحب والصعود بها إرتقاء متسارعاً لدرجات سُلّم النهضة الحضارية المتكاملة والمواكبة لتطورات العصر وإنجازاته العظيمة . إن العرض الواسع نوعاً ما الذي اوردناه آنفاً كمدخل او مقدمة نظرية عامة ومجردة لمفهوم الدولة وطبيعتها وفكرة العقد الاجتماعي الوطني المنشئ لها  والمُكسبها مشروعيتها ومبررها الموضوعي ، كان ضرورياً من وجهة نظرنا ، لأننا من خلال عدسة منظاره يمكننا من الإستناد إلى منهج رؤية أوضح وأدق وأشمل ، لموضوع مناقشتنا في هذه المقالة والمتمثل بحقيقة جوهرية تؤكد بأن تدهوروتردي اوضاعنا الداخلية في اليمن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا وادارة ، والذي اوصل البلاد وجوداً ومصيراً الى حافة هاوية سحيقة مخيفة ، يبرهن على واقع مؤلم مريربأن الكيان السياسي القائم “الدولة” العاجز والفاشل قد وصل الى طريق مسدود تماماً وبات يشكل عائقاً رئيسياً وعقبة كأداء امام اي أمل او إمكانية في التطورالطبيعي والتقدم الإيجابي المنشود ، وبعبارة ادق وأوضح فإن ذلك الواقع المريروالمؤلم قد اصدر حكمه النهائي والقاطع والقاضي بالسقوط التاريخي لكيان الدولة القائم في اليمن وبحتمية الشروع في تأسيس وبناء الكيان السياسي او الدولة البديل على أنقاضها ، وتلك حقيقة لايستطيع نكرانها او التشكيك فيها إلا مُكابر او صاحب هوى ومصلحة شخصية ضيقة .                                                                وبديهي أن سقوط تلك الدولة المهترأة وإنهيارها ، يعني تلقائياً وفي نفس الوقت ، سقوط وإنهيار صيغة ومضمون العقد الإجتماعي السياسي الوطني الذي انشأها وأكسبها المشروعية والمبررالموضوعي الوطني لتلك النشأة والوجود .. والجميع يعلم ان ذلك العقد الاجتماعي السياسي الوطني الذي تأسست بموجبه تلك الدولة قد صِيغ وتبلور على نحو او آخر وفقاً وعلى أساس المقتضيات والحقائق والأوضاع التي تمخضت عن “صلح دعان” بين الإمام يحي محمد حميد الدين كرمز لمقاومة مسلحة وطنية للوجود والسيطرة العثمانية العسكرية على اليمن ، وبين السلطة العثمانية وممثليها في اليمن ، ذلك الصلح الذي وقع حوالي العام 1900م على إثر اضطرار القوات العثمانية الى سحب جيشها من اليمن، معترفة ومُسلِمة بزعامة وسلطة الإمام يحي على “اليمن الشمالي” آنذاك أو اجزاء مهمة منه وفق شروط وترتيبات مالبثت أن سقطت بالإنسحاب العثماني الكامل من اليمن عقب هزيمة الدولة العثمانية على أيدي القوات الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الاولى ، واستطاع الإمام يحي بعدها ان يبسط نفوذه وسيطرته على كامل ماكان يعرف باليمن الشمالي وتأسست بذلك “الدولة اليمنية” في العصر الحديث في الشطر الشمالي من اليمن ، إستنادا إلى “عقد اجتماعي سياسي” غير مكتوب وإنما وفق قواعد عُرفية تم التواضع عليها والتوافق حولها ، مرتكزاً في مصادره ومنابعه ومشروعيته على الأسس الرئيسية التالية :                                                               1) التأسيس على ما اُعتبر – آنذاك – حركة تحرر وطني خلّصت البلاد من السيطرة العسكرية والسياسية الأجنبية وحققت لها الاستقلال والسيادة الوطنية ، وحيث كان يُنظر الى مثل هذا الدور والمنجز ، ولايزال يُنظر اليه حتى اليوم في تاريخ الأمم والشعوب ومسيرتها الوطنية ، بإعتباره مانحاً ومُكسِباً للمشروعية والمبررالموضوعي ، وطنياً وأخلاقياً وتاريخياً . 2) ترسيخ وتأكيد وحسم المكانة والشرعية الكاملة لزعيم وقائد تلك “الحركة التحررية” وهو “الإمام يحي محمد حميد الدين” مضافاً إليه “مشروعية دينية” اقتربت من درجة “القداسة والتقديس” الى حد ما لشخصيته “الكارزمية” الطاغية ومن كونه “إماماً” متحدراً من سلالة آل بيت النبي محمد عليه الصلاة والسلام وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وهو مامّثّل عاملاً اساسياً حاسماً في كسب وإكتساب مشروعية دينية عميقة وراسخة في مجتمع تقليدي محافظ شديد التدين ومتأجج العاطفة الدينية . 3) إكتساب المناطق “الجيوبوليتيكية” الواقعة أساساً في شمال وغرب البلاد ، وهي المناطق التي اُعتبرت المعاقل الحصينة والذخيرة البشرية للقوى الشعبية المناصرة والموالية والمساندة للإمام يحي حميد الدين في حركته التحررية الوطنية ، بإعتبارها “قوة سكانية” مقاتلة وشديدة البأس بحكم طبيعتها الجغرافية القاسية والمعقدة ، وتدين بالولاء والتبعية الدينية – المذهبية للمذهب “الزيدي الهادوي” بالكامل ،تقليدياً ،وعلى مدى قرون طويلة من الزمن ، وملتفة حول  “رمزها” البارز وإمامها “الزيدي الهادوي” الإمام يحي بالمساندة والتأييد والولاء الديني والسياسي المطلق له. 4)ولما كانت تلك المناطق ، بخصائصها الجيوبوليتيكية والسكانية ومعتقدها الديني المذهبي “الزيدي الهادوي” ، وتحت قيادة وإمرة رمزها وقائدها وإمامها “الزيدي الهادوي” ايضاً ، القوة البشرية المقاتلة الموالية للإمام يحي والتي استند عليها وبها في “حركته للتحررالوطني” من سلطة الدولة العثمانية ، وأرض او مسرح الإنطلاق، وقوته في إنجاز وتحقيق “الوحدة السياسية” لليمن الشمالي آنذاك  ، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن تتأسس “الدولة الفتية” وتبنى وتشيد أركانها ومؤسساتها وأجهزتها كلها – تقريباً مع قواها المسلحة المقاتلة ، إعتماداً على تلك المناطق الجيوبوليتيكية وسكانها ذات الانتماء والولاء الديني المذهبي “الزيدي الهادوي” وإمامه السياسي والديني يحي حميد الدين ، وأصبح يطلق مصطلح “اليمن الأعلى” على تلك المناطق المشار اليها ، ومصطلح “اليمن الأسفل” على ماعداها من مناطق الهضبة الوسطى لليمن الشمالي آنذاك والمكونة أساساً من محافظات “إب”  و “تعز” و “الحديدة” و “مأرب” و “البيضاء” وأجزاء من محافظتي “صنعاء” و “ذمار” ، من المناطق ذات الانتماء والولاء الديني المذهبي “الشافعي” و “الحنفي” ، وهكذا إحتكر ماسُمي ب “اليمن الأعلى” الكيان السياسي الحديث “الدولة” بكل تكويناتها ومؤسساتها ومسئولياتها – تقريباً – في الوقت الذي تم فيه إقصاء وإستبعاد وتهميش “اليمن الأسفل” من المشاركة والتمثيل الحقيقي فيها ،رغم أنه كان يمثل آنذاك أغلبية سكانية وأهمية اقتصادية اكبر بكثير .. حقيقة أن تلك الدولة بقيادة ائمتها “الزيديين” وبرغم طبيعتها تلك إلا أنها لم تَعمُد إلى فرض مذهبها بالقوة بإجبار سكان “اليمن الاسفل” على تغيير انتماؤهم المذهبي المغاير لمذهب الدولة ، على نحو ماكان سائداً في أنحاء كثيرة من العالم الاسلامي ، كما حرصت في دورها في القضاء والمحاكم على إصدار أحكامها الشرعية وفقاً للمذهب السائد في تلك المناطق وليس وفقا لمذهبها “الزيدي الهادوي” ، وتلك ميزة إيجابية تُحسب تاريخياً لصالحها . كانت تلك ، إذن ، أهم مصادر ومنابع ومكونات “العقد الإجتماعي السياسي” الذي حدد طبيعة ومكونات وهوية “الدولة اليمنية الفتية” التي تأسست مطلع القرن العشرين ، بقيادة الائمة الزيديين الهادويين ، بمؤسسات وأجهزة وسلطات ، مدنية وعسكرية ، يشغلها قادة وكوادر وموظفين ، غالبيتهم الساحقة ، إن لم يكن جميعهم ينتمون الى “اليمن الأعلى” ذي التركيبة القبلية العشائرية والإنتماء المذهبي الزيدي الهادوي ، وفي ظل ماعُرف بتسمية “النظام الإمامي الملكي” ، وتحت الإسم الرسمي لها “المملكة المتوكلية اليمنية” ، وعلى الرغم من محاولات او إجراءات محدودة للغاية لتطعيمها بتعيينات من ابناء ماعُرف بإسم “اليمن الأسفل” إلا أنها في حقيقة الأمر كانت بمثابة “الإستثناء” المؤكد لل “القاعدة” وليس محاولة للإشراك الفعلي لهم في الحُكم والمسئولية . وعندما انفجرت ثورة 26 سبتمبر عام 1962م بانقلاب عسكري أطاح فيه بالنظام الإمامي الملكي وقضى على دولته “المملكة المتوكلية اليمنية” وأعلن قيام “النظام الجمهوري” الجديد بأهدافه الستة المشهورة وإعلان قيام دولة “الجمهورية العربية اليمنية” كان من المفترض والمنطقي والمتوقع ان تُلغي الثورة ونظامها الجمهوري الجديد وتُنهي وتُسقِط كامل “العقد الاجتماعي السياسي الوطني” الذي تأسس للنظام الإمامي الملكي ودولته المُبادة وفقاً وعلى أساس أحكامه ومضامينه ومعطياته وفلسفته ومرتكزاته واعلان صيغة عقد اجتماعي سياسي وطني جديد يحدد ويرسم معالم وملامح ومضامين وطبيعة النظام الجمهوري الجديد ودولته الجديدة والبديلة .                                               فهل حدث هذا وتحقق واُنجز؟                                                                                              ذلك ماسنناقشه في الحلقة القادمة من هذه التناولة باذن  الله تعالى .       صحيفة القضية  29/1/2011                                                      بريطانيا – شيفلد – 14 نوفمبر 2010م  

موضوعات ذات صلة