نحو حوار وطني واسع وصريح بعيداً عن السباب والاتهامات والتخوين والإقصاء

الحلقة الثانية

في الحلقة السابقة من هذه الدارسة وجهنا دعوة مخلصة إلى إجراء حوار وطني واسع وشامل وصريح حول كافة القضايا والمشكلات الوطنية الكبرى ، وأوضحنا أن الضرورة وواجب ومسئولية المواطنة باتت تفرض وجوباً على أبناء شعبنا اليمني الواحد ، وخاصة قواه وطلائعه الواعية المثقفة السعي إلى تنظيم وإدارة ذلك الحوار الوطني الواسع المعول عليه إخراج تفكيرنا وتعاطينا وتعاملنا إزاء تلك القضايا والمشكلات والهموم الوطنية المصيرية من السراديب المظلمة ، تحت الأرض والهمس الخافت داخلها إلى دائرة الأفق المضيء المشرق الفسيح والحوار الحر والمفتوح والمسموح  بهدف قطع الطريق على مرضى العقول والقلوب وعميان البصر والبصيرة وقاصري النظرة وأسرى أوضاع وأجواء التخلف والحقد والفرقة وإيقاف معاول هدمهم وتخريبهم التي يعملونها بوعي أو بدون وعي ومسئولية في كياننا وتفكيرنا ووحدتنا الوطنية التي ظلت قوية راسخة عبر مختلف مراحل التاريخ الوطني لبلادنا . وحتى لا نتركهم يدفعون ويقودون بلادنا نحو الكارثة والهلاك ووعدنا في الحلقة السابقة التي كانت بمثابة مدخل تمهيدي لحلقات الدراسة القادمة ان نواصل الحديث تباعاً وإسهاماً متواضعاً نقدمه في الحوار المنشود قدماً إلى الأمام . وفي هذه الحلقة التي ستكون بمثابة مقدمة للدراسة نجد لزاماً علينا بادئ ذي بدء أن نسلط الأضواء الكافية حول الحوار الذي نتصور ضرورته وحتميته من أجل وطننا وشعبنا في حاضره ومستقبله الواعد المشرق وبهدف توضيح ما هية ذلك الحوار وطبيعته ومبررات وأسباب الدعوة إليه وما هي أهم وأبرز القضايا والمشكلات الوطنية الإستراتيجية التي نتصورها ستشكل محاور أساسية لأعماله وفعالياته وتحديد الأطراف والقوى المعنية المطلوب مشاركتها فيه وأخيراً تصور الأهداف والغايات المطلوب تحقيقها من ورائه وكذا الأساليب والآليات الموصلة إلى تحقيقها فالحوار الوطني الواسع الذي نعنيه هو : من حيث ماهيته وطبيعته : حوار ومناقشة ودارسة شاملة وجادة تشارك في أعماله وفعاليته كل فئات الشعب وقطاعاته وقواه الاجتماعية والسياسية والحزبية والثقافية والمهنية والعلمية أفراداً وجماعات وغير مقتصر على الأحزاب وقياداتها حاكمة وغير حاكمة تجسيداً لمبدأ أن الشعب مصدر السلطات جميعاً وإشراكاً  فاعلا له في تقرير مصيره وادارة وتوجيه وقيادة شؤون حياته وان يكون الحور سلمياحراً وديمقراطياً ومفتوحاً وصريحاً تنتفي من أجوائه وأعماله كافة صور وأشكال الترهيب والترويع والتخويف وبعيدا عن لغة الاتهامات والتخوين والتكفير والإقصاء وممارساتها وأساليبها المختلفة بحيث لا يكون فيه محاورون يشهرون السيف موظفين ومستغلين جبروت الدولة وقوتها وسلطانها ترهيباً وكبتاً وآخرون يحنون جباههم ورقابهم خوفاً وتسليماً وخضوعاً فهكذا حوار لا يمكن أن نسميه حواراً ونقاشاً حراً ومفتوحاً بل هو أقرب إلى سياسة الإملاء والفرض بغير إرادة واقتناع حر ومبدئي .. وهو ما يفتقد عادة إلى أي قدرة وإمكانية حقيقية وفاعلة لبناء وطن حر فرد مزدهر قوي وكريم وموحد البنيان .. ومن هنا فإن تصورنا لما هية وطبيعة هذا الحوار الوطني والشعبي الواسع أن يكون عاماً ومفتوحاً لا يستغني أو يستبعد منه أي رأي أو صاحب رأي وتوجه ووجهة نظر مهما كان منطلقه وغايته وأن تفتح طاولة أعماله وأنشطته لكل القضايا والهموم والمشاكل والآراء والتوجيهات والأفكار ووجهات النظر دون حجر أو قيد ، وبما أن الحوار شعبي واسع وعام ، فمن المفيد والمحقق للنتائج الإيجابية المرجوة ألا تقتصر أعماله وفعالياته على المركز – العاصمة فقط – بل ينبغي أن يمتد ويتواصل إلى مراكز ومدن محافظات البلاد كامتداد لمثيله المنعقد في المركز _العاصمة _ . ومن حيث أسبابه ومبرراته : فإن الحوار المنشود تفرضه وتحتمه جملة الحقائق والمؤشرات المخيفة والمفزعة حقاً التي تشير إلى أن بلادنا تسير بشكل حثيث إلى هاوية سحيقة وانهيار شامل ، إذا استمرت مجمل أوضاعها العامة على ما هي عليه الآن ونكتفي بتسجيل أهم تلك الحقائق والمؤشرات كما يلي : 1-  إن الدين الخارجي للبلاد تزايد خلال عام واحد ليصبح حوالي 6.2 مليار دولار عام 1998م في حين كان عام 1997م حوالي 5.7 مليار دولار  ويمثل ما نسبته 119% من الناتج الإجمالي المحلي ، فإذا أضفنا إلى الدين الخارجي الدين المحلي والسلف الممنوحة للحكومة محلياً الذي كان في عام 1997م يعادل 1.25 مليار دولار فأصبح في عام 1998م 1.58 مليار دولار فإن مجموع الدين الخارجي والمحلي أصبح في عام 1998م 7735 مليون دولار أي بنسبة 150% من إجمالي الناتج المحلي . 2-  إجمالي قوة العمل الفعلية في البلاد يصل إلى حوالي 4.5 مليون تقريباً في عام 1998م ويدخل سوق العمل سنوياً ما بين 120-150 ألف عامل جديد ، في حين بلغت نسبة البطالة ما يقارب 40% من قوة العمل الفعلية نتيجة عجز الاقتصاد الوطني وعدم قدرته على استيعاب أية عمالة جديدة بسبب عشوائية سياسة الإصلاح المالي والإداري والاقتصادي التي تتبعها الحكومة وعزوف وغياب تدفق الاستثمارات نتيجة الاختلالات الأمنية وعدم الاستقرار وغياب سيادة القانون والقضاء التجاري النزيه والكفؤ وغير ذلك من العوامل وعلى رأسها الفساد المستشرى . 3-  اتساع نطاق الفقر إذ تقرر دراسات دولية أن يصل عدد الفقراء عام 2000 ما يقارب 8 ملايين نسمة أي بنسبة حوالي 43% من مجموع السكان . 4-  التزايد السكاني الرهيب حيث سيصل عدد سكان اليمن في عام 2031م حوالي 50 مليون نسمة . 5-  توقع تعرض مناطق واسعة من البلاد في صنعاء والمرتفعات الشمالية خلال سنوات قليلة قادمة إلى حالة الجفاف المائي التام مما سيحتم على الحكومة ترحيل ما يقارب عشرة ملايين نسمة وإعادة توطينهم في المناطق الساحلية من البلاد لسهولة تحلية مياه البحر . 6-  هذا إضافة إلى تدني وتدهور مستويات ونوعية ومحدودية نطاق الخدمات التعليمية والصحية والخدماتية في البلاد . وعلى جانب أخر وخطير نرى شبه غياب لوجود سلطة الدولة الحديثة وغياب القضاء النزيه والمستقل وعدم سيادة القانون وتطبيقه واستفحال الاختلالات الأمنية واضطراب الاستقرار العام في البلاد والأخطر من كل ذلك اهتزاز وتخلخل بنيان الوحدة والتلاحم الاجتماعي الوطني ، وتنامي وتعمق وتصاعد حدة مشاعر الكراهية والتباغض والعداء بين فئات المجتمع وقطاعاته ، فمنذ ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م ومروراً بمسلسلات الصراعات والحروب الداخلية والتي كان أخرها حرب صيف 1994م وأثارها ونتائجها السلبية العميقة لا تزال تقرع مسامعنا بشكل مكرر ومتواصل سيل من الاتهامات لا تكل ولا تمل يرمي بها كل صاحب رأي مخالف أو معارض سياسي فرداً كان أم جماعة تارة بالعنصرية (قحطاني – هاشمي – عدناني) وأخرى بالطائفية المناطقية (يمن أعلى ويمن أسفل) وثالثة بالمذهبية (زيدي – شافعي – حنفي) ورابعة بالانفصالية والشطرية (جنوب – شمال – وسط) خامسة با لقبلية (حاشد – بكيل – مذحج – حمير .. إلخ) وسادسة بالتخوين والتكفير الديني (جمهوري – ملكي – إمامي – شيوعي – عميل – إرهابي – سلفي – وهابي – كافر – مرتد .. إلخ ) . ولعل أكثر ما يبعث على الدهشة والاستغراب أن سيل الاتهامات عادة ما تستخدمها القوى الحاكمة المسيطرة على الدولة والقوة والثروة وتوجهها ضد أناس يعيشون في الشارع على هامش الحياة لا يمتلكون حولاً ولا قوة ولم نستطع حتى الآن أن نفهم كيف وبأي قوة أو سلطة يستطيع أمثال هؤلاء المهتمين فاقدي السلطة والقوة والثروة تحقيق ما تتهمهم به السلطات الحاكمة عملياً .. غير أن البعض يرى ، وقد يكون على حق ، إن السلطات الحاكمة بأسلوبها هذا إنما تمارس أسلوب الإسقاط النفسي لما تمارسه هي عملياً وتطبقه من تلك التهم فتلصقه على المغلوبين على أمرهم لمنعهم من الاحتجاج والرفض لممارسات الحكم وسياساته غير الوطنية تحت تأثير الترهيب والترويع لهم فيقبلون بالخضوع والسكوت أي بعبارة أخرى كما قال القائل : “رمتني بدائها وانسلت” . ولهذا وبفعل مثل تلك السياسة والحملات الاتهامية التي تطلق جزافاً وبدون ادراك نتائجها وأثارها السلبية الخطيرة والمدمرة نرى اليوم : 1-  العلويين الفاطميين ومعهم الهاشميون والعدنانيون يشعرون بقلق وخوف حقيقي من أنهم محل استهداف منظم لتصفيتهم و إبادتهم . 2-  والقحطانيين يشكون من تعرضهم لمخطط تمزيقهم وتشتيتهم بإثارة الفتن والصراعات والحروب داخل صفوفهم . 3-  اليمن الأسفل يشكوا تهميشه وإضعافه ، واليمن الأعلى يبكي حرمانه وإهماله . 4-  وقبائل بكيل تشعر بالتململ والتبرم ، وقبائل حاشد تتضجر لأنها لم تنل حقوقها ومصالحها ، وقبائل مذحج وحمير تتحفز وتتربص . 5-  ورجال الأعمال والبيوتات التجارية المعروفة تعيش حالة فزع ورعب لأنها ترى مؤشرات وإجراءات تهدف إلى تدميرها وإنهاء دورها لصالح خلق رجال أعمال وبيوتات تجارية جديدة وإحلالها محلها باستخدام نفوذ الدولة وسلطتها ومسئوليتها . 6-  والجيش والأمن يشكو أوضاعه وأحواله المعيشية القاسية . 7-  والعاطلين عن العمل وهم مئات الآلاف موصدة أمامهم أبواب وفرص العمل في حين يحصل عليها البعض لاعتبارات غير شرعية . وغير ما ذكرنا أنفاً يرسم أمامنا مستقبلاً بل وحاضراً مخيفاً ومأساوياً تواجهه بلادنا وشعبنا وينذر بالانهيار والهاوية السحيقة .. كل ذلك يعطي بوضوح المبررات والأسباب الموضوعية الوجيهة التي توجب الحوار الوطني الواسع والصريح بل وتحتمه بأسرع ما يمكن لتشخيص وتحليل مشاكلنا وأزماتنا وقضايانا الوطنية والخروج بشكل موضوعي وأمين ودقيق والخروج بصيغة عملية وصائبة للخروج مما نحن فيه والانطلاق نحو النهضة والرقي المنشود . ومن حيث القضايا والمشكلات الوطنية محل الحوار : فهي تتشكل من مجمل السلبيات والاختلالات والازمات والفساد والانفلات ا وغيرها بعبارة أخرى فإن الحوار الوطني المنشود مطلوب منه الوقوف بجدية ومسئولية أمام مهمة وطنية كبرى وهي إقامة وبناء الدولة الحديثة دولة النظام والقانون والمؤسسات واللامركزية والديمقراطية وأن يؤخذ بعين الاعتبار خصوصية اليمن التاريخية عبر العصور والتي تؤكد على ضرورة تقسيم البلاد إلى مخاليف ونقل سلطات الإدارة المحلية الكاملة إلى مجالسها في توزيع للسلطات بين المركز الكيانات المحلية وتحقيق مشاركة فعالة في السلطة ذلك أن عبرة التاريخ تؤكد أن ضمان وحدة الكيان الوطني لليمن لم يكن يتحقق في أفضل صورة سوى في ظل وضع لا مركزي كالذي أشرنا والعكس صحيح . . أما من حيث أطرافه المشاركة : فهي كل الأطراف والقوى التي طالتها الاتهامات سابق الإشارة إليها العنصرية والطائفية والمذهبية والانفصالية والشطرية والملكية والجمهورية وغيرها ، وليس غرضنا أو هدفنا من وراء المطالبة بمشاركة الأطراف والقوى المتهمة كلها بدون استثناء في هذا الحوار الوطني تأكيد وجود تلك الأطراف والقوى وتقنين المسائل المتهمة بها ظلماً بفاقية أو (اقتسام كعكة الوطن) فذلك ما لا نؤمن به ولا يمكن أن ندعو إليه مطلقاً بل بهدف الوصول إلى صيغة متكاملة موضوعية ومتكاملة لبناء الدولة المؤهلة والقادرة على النهوض بأعباء المشروع الحضاري الوطني بمشاركة وإسهام وتوافق الجميع بدون استثناء أو تمييز أو إقصاء ، وما لم تتحقق تلك الصيغة الوطنية بمشاركة الجميع على قدم المساواة فقد نجد أنفسنا ذات يوم ، وهو ما لا نتمناه وقد ذهب كل في طريق وهدف يختاره فأما وطن يكفل الكرامة والمواطنة المتساوية لجميع أبنائه ودولة تتعامل مع جميع مواطنيها على قدم المساواة والعدل والحق والقانون دون تمييز أو تحيز وإما طوفان يدمر كل شيء ولا يعلم مبتداه ومنتها أحد سوى الله وحده وهو ذاته هدف ومقصد وغاية الحوار الوطني الواسع والصريح الذي ندعو إليه . وسوف نتناول في الحلقة التالية بإذن الله تعالى طبيعة الخصوصية اليمنية تاريخياً وكيف يمكن حل إشكالية رئاسة الدولة أو المرجعية العليا للبلاد فإلى اللقاء .   ملحوظة : الأرقام الواردة في المقال مأخوذة من كتاب الباحث الدكتور / يحيى صالح محسن .  

موضوعات ذات صلة