كان حديثنا المنشور على صفحات(( الوحدوي)) في عددها السابق بعنوان (( حوارات الإصلاح والمعارضة .. دوافع وآفاق))، منصباً بالمقام الأول على توضيح مدى الأهمية البالغة لتلك الحوارات واللقاءات وفقاً لرؤيتي الشخصية، وجاء الحديث من منطلق الاهتمام والحرص الشد يدين على سلامة وتطور مسار -ما اعتقد بانه- أهم حدث سياسي في مسيرتنا الديمقراطية الوليدة في الاتجاه الايجابي.. ولم أكن اتصور عند كتابة ذلك الحديث انه سيثير قدراً لا بأس به من سوء الفهم والتأويل لمراميه ومقاصده، وهو ما لمسناه في عدد من اللقاءات وجلسات المقيل. فمنهم من رأه محاولة لتوسيع وتعميق هوة خلاف مُتصور بين المؤيمر الشعبي وشريكه في الحكم الإصلاح!. وآخرون نظروا اليه بأنه يهدف الى إثارة خلافات داخل الإصلاح ذاته!. وهناك من اعتقد بان الحديث قد تحامل على الإصلاح في سياق انتقاداته وصولا الى خلق اجواء غير ملائمة تدفع بالحوار واللقاء بين المعارضة والإصلاح الى الفشل أو على الأقل الى التعثر! وحقيقة الأمر، وبأمانة، أنني ما إلى أي من تلك التأويلات جميعها قد رميتُ فيما كتبت أو قصدت مطلقا، وانما قصدت ماهو أكبر وأهم من كل ذلك بكثير انطلاقا من رؤية مستقبلية بناءة.. ولعل سبب سوء الفهم والتأويل لمرامي ومقاصد الحديث يعود، اساسا، الى طبيعة صياغته العُجْلي.. وهو ما دفعني الى ضرورة العودة مجددا لاستكمال الحديث حول لقاء الإصلاح واحزاب المعارضة توضيحاً لما غمض وتفصيلا لما أُجمل في الحديث السابق. وفي عودتنا الجديدة هذه الى الموضوع السابق، لعله من المستحسن ان تكون بداية العودة مجددا وقفة سريعة أمام مجمل التأويلات المشار اليها آنفا.. فنقول: * ان التأويل القائل بان هدف الحديث إحداث وقيعة بين شريكي الحكم ( المؤتمر والإصلاح)، انما ينطلق من منهج يفسر الأحداث والوقائع تفسيراً تآمرياً، والتفسير التآمري للتاريخ، بل وأي تفسير اُحادي لأحداث التاريخ، دائماً ما يكون تفسيراً مغلوطاً أو في احسن الأحوال مشوهاً، فليس هناك من مبرر يدعونا أو يدعو غيرنا للانشغال بتدبير وقيعة أو فتنة بين حزبين حاكمين مؤتلفين، فالمؤتمر الشعبي وتجمع الإصلاح اختارا، عن قناعة واعية وإرادة حرة، طريق التعاون والتحالف والائتلاف الحاكم بينهما ثلاثياً، في البداية، ثم ثنائياً، وفقاً للحسابات السياسية لكل منهما وفي ظل ظروف ومقتضيات مرحلة سياسية معينة، وليس مستبعداً، ولا هو من كوارث الزمن، ان يقررا ذات يوم فك تحالفهما وانهاءه عندما تتغير حسابات كل منهما وتتبدل ظروف ومقتضيات الواقع السياسي العام للبلاد، بل يعتبر ذلك من ضرورات اللعبة السياسية الديمقراطية واصولها، التي لايوجد في قاموسها ولا تقبل بمنطق الزواج الكاثوليكي الأبدي في قوانينها. * اما القول بان هدف الحديث إثارة الخلاف داخل الإصلاح، فيُعبر عن رؤية سطحية جداً للامور، فالتجمع اليمني للإصلاح تنظيم حزبي سياسي عقائدي عريق وشديد الإنضباط، يملك مشروعاً سياسياً، أو على الأقل معالم مشروع، واثبت خلال وجوده الممتد لعشرات السنين قدرة مشهودة على إدارة شؤونه الداخلية بطريقة حالت، حتى الآن، دون حدوث فرقعات أو تشققات داخل كيانه، وهو الى ذلك احد حزبين أو ثلاثة احزاب تقريباً نستطيع ان نطلق عليها صفة الحزب الحقيقي باطمئنان في بلادنا، ولهذا فمن السذاجة المفرطة أن نتصور حديثاً صحفياً يمكن ان يُحدِث ذلك التأثير المُتوَهم داخل حزب شأنه كما ذكرنا. * ويبقى أخيراً ذلك الاعتقاد الذي تصورهدف الحديث وكأنه محاولة لإفشال أو تخريب الحوار واللقاء، وهو تصور بعيداً تماماً عن الحقيقة، فإن ما اعتبره اصحاب هذا الاعتقاد بمثابة انتقادات وتحامل على الإصلاح لم يكن كذلك، بل كان محاولة اجتهادية لرسم ابرز معالم الوضع السياسي الذي نشأ بعد الوحدة وحتى الان باسلوب شديد الايجاز، اردنا التأكيد على حقيقة أن الإصلاح لو اتخذ لنفسه منذ إعلان قيامه مساراً ونهجاً محايداً ومتوازناً بين شريكي دولة الوحدة ( الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي) فإنه ـ أي الإصلاح ـ كان مُهئاً ومؤهلا ليكون القوة السياسية الوحيدة البديلة لحكم البلاد، تلقائيا وبارادة جماهيرية واسعة، كحل لأزمة تصاعد حدة الخلاف والمواجهة الشاملة بين شريكي الوحدة. واضافة الى ذلك تعمدنا التركيز على الإصلاح كنوع من المكاشفة والمباشرة لاحساسنا المسبق، بل وتخوفنا من ان مسيرة الحوار واللقاء بين الإصلاح والمعارضة سيقابلها الكثير من الدسائس والمؤامرات الهادفة الى اجهاضه ووأده في المهد، وسُتسرَب وثائق واسرار وغيرها في هذا السياق، ولهذا حرصنا على التنبيه مبكراً لكل ذلك، حتى يتنبه الجميع ولا يقعوا في فخ تلك المحاولات. تلك كانت وقفة سريعة أمام ما ذهب اليه البعض من سوء تأويل لمقاصد الحديث السابق، ننطلق بعدها لمواصلة الحديث حول موضوع الحوار واللقاء بين المعارضة والإصلاح الذي اسفر سريعاً عن الاتفاق حول ما اطلق عليه(( البرنامج التنفيذي لضمان حرية ونزاهة الانتخابات)) . والواقع ان اكثر ما يثير الدهشة، حقاً، ان يُجابه مثل ذلك الحوار واللقاء والاتفاق بحملة وهجوم إعلامي مُركَز ومُكثف من وسائل الإعلام التابعة للمؤتمر الشعبي والأحزاب الصديقة له ليس له ما يبرره أو يستدعيه،خاصة اذا علمنا ان حوارات ولقاءات عديدة تمت وتتم بين المؤتمر الشعبي واحزاب مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة وغيرها، ولم يصدر عن الاخرين اي اعتراض أو رفض!فالديمقراطية ان لم تكن حواراً وتعايشاً وتفاهماً وتفاعلاً بين الاحزاب والبرامج والأفكار بشكل مستمر ومتواصل فماذا عساها ان تكون اذن؟ ان قلق البعض وتخوفه من حوار ولقاء الإصلاح والمعارضة لمجرد عدم اشراك المؤتمر الشعبي العام في أعماله، إنما هو قلق وتخوف قائم على غير محله تماماً، فإشراك اومشاركة المؤتمر الشعبي في حوار ولقاء كهذا سيؤدي حتماً وتلقائياً الى إشراك أو مشاركة الأحزاب الاخرى الصديقة للمؤتمر، وفي ذلك تمييع وتخريب وإفراغ له عن أي محتوى أو مضمون حقيقي وجاد،حينها سيتبارى الجميع في التذمروالشكوى من ضيق الأحوال وفساد الأوضاع وتدهور البلاد، ثم ينفض السامرعن آهات وحسرات تندب حظنا العاثر دون ان تتحدد المسؤولية ويُشخص الداء ويُعرف السبب، وينتهي الامر بحفظ القضية الوطنية وتسجيل مسؤوليتها على مجهول! ان مثل ذلك التفكير الذي يتجه غريزياً نحو ضرورة شمول المشاركة في مجالات العمل السياسي للكل وللجميع وإلا حدثت كارثة، تفكير يُحركه ويتحكم به العقل الباطن السياسي المشبع والمثقل بتراكمات مرحلة طويلة من الأفكار والبرامج والتربية العقائدية ذات المنحى الاحادي الشمولي المطلق، يتجلى بشعارات ذات بريق ورنين مثل (( الإجماع الوطني)) و(( الإنقاذ الوطني)) وغير ذلك من الشعارات التي من المفترض غيابها عن قاموس الديمقراطية والتعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة.. الخ، لتحل محلها شعارات ذات طبيعة اخرى مختلفة تماماً ، مثل (( التكتلات)) و(( التحالفات)) و(( الائتلافات )) السياسية بين القوى والاحزاب السياسية، قائمة ومبنية على عملية فرز سياسي إجتماعي موضوعي مواكب ومستجيب لتطورات الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. أما ان نفزع بين الحين والآخر ونطالب بالحوار واللقاء والتفاهم بين الجميع وبالجميع للجميع، فماذا يمكن ان يطالب هذا (( الجميع)) من (( الجميع)) ؟ ومن منهم المُطالب او المتضرر؟ ومن منهم المسؤول وصاحب السلطة ؟ وعندما يصبح الجميع مسؤولين ومطالبين في آن معا، فماذا بقي هناك من دواع ومبررات وموجبات لتعدد الاحزاب والتنافس السلمي عبر صناديق الانتخاب والتداول السلمي للسلطة بين الاحزاب وغير ذلك؟؟ يقيناً نكون حينئذ أقرب الى مفهوم وطبيعة واساليب حكم الحزب الواحد المطلق او الحكم الديكتاتوري العسكري المتزين بديكور ديمقراطي زائف ولامعنى له حقيقيا. ان تجربة الديمقراطية القائمة على تعدد الاحزاب رغم انها حديثة العهد في بلادنا ، فانها تعرضت الى ذلك وهي لاتزال في المهد لعملية رهيبة ومنظمة من التشويه والإفساد والتخريب، بقوة سلطان الدولة وجبروتها وامكانياتها الهائلة، شراء للذمم وافساداً للاخلاق والضمائر، والتآمر لإحداث صراعات وانشقاقات داخل الاحزاب، وزرع وتفريخ احزاب صُورية كثيرة باستخدام مختلف وسائل الترغيب والترهيب اللاشرعية، بل واللااخلاقية، الى الحد الذي يمكننا القول فيه بان تجربة التعددية الحزبية الديمقراطية تعرضت فور ولادتها لتشوهات خطيرة واضرار بليغة اثرت تأثيرا سلبياً عميقاً على عملية نموها وتطورها الطبيعي، ورغم ان التجربة في مرحلة ولادتها الاولى قد شهدت حالة من السياب والفلتان المهزلي المتمثل بتلك الكثرة غير الطبيعية في الاعلان عن ولادات احزاب غاليبتها الساحقة إما صورية مُتعمدة قُصد بها تخريب وافساد المسيرة الديمقراطية في مهدها،كما قلنا، وأما أنها تلقائية عفوية جاءت تعبيراً عن حالة القهر والكبت والقمع طويلة المدى في الماضي .. ولم يكن كل ذاك ليشكل عائقاً يَحُول دون القدرة على صنع الانتصار للديمقراطية الحقيقية لو استطاعت الاحزاب الحقيقية، على قلتها، امتلاك الوعي والقدرة اللازمة لادارة وقيادة عملية فرز سياسي جاد وهادف الى بلورة وتشكيل (( تكتلات))أو(( ائتلافات))أو ((تحالفات)) سياسية حزبية كبيرة تمثل وتعبرعن اتجاهات سياسية وفكرية رئيسية، اذ لو امكن تحقيق مثل ذلك الهدف الاستراتيجي، أو على الأقل البدء به، لكنا قد نجحنا منذ وقت مبكر في وضع اساس صلب لطريق الانتصار التاريخي لقضية الديمقراطية، ولكانت كل الاحزاب الصورية المفرخة، على كثرتها، قد تساقطت تلقائياً،وان هي بقيت فلن يتعدى دورها الشاهد على تخلف وهزالة وضحالة تفكيراصحابها وصانعيها لا أكثر! ان ذلك هو السبب الرئيس وراء اهتمامنا البالغ بموضوع الحوار واللقاء بين الإصلاح واحزاب مجلس التنسيق الاعلى للمعارضة، وحرصنا الشديد على ان يتوفر له أفضل الاجواء والمناخات التي تمكنه من بلوغ غايته المنشودة، فلعل أهم ما يميز ذلك الحوار واللقاء انه يقوم بين احزاب عقائدية حقيقية تمتلك مشاريع، أو على الاقل اُسس ومقومات مشاريع وان اختلفت فيما بينها فذلك امر طبيعي ومطلوب في نفس الوقت، والمؤمل ان يكون ذلك الحوار واللقاء مؤهلا وقادراً على إدارة وقيادة عملية الفرز السياسي على طريق اعادة تشكيل وصياغة الخارطة السياسية الديمقراطية في بلادنا بالدفع والعمل على خلق قوى سياسية كبيرة تمثل وتعبر تعبيرا حقيقياً وجاداً عن اتجاهات سياسية وفكرية رئيسية وإنهاء واقع التمزق والتشتت وتعدد الكيانات الحزبية الصغيرة دون اساس أو مبرر من تمايزات فكرية وسياسية واضحة المعالم والقسمات.. ان مجرد الحوار واللقاء بين الإصلاح والمعارضة، لا يكتسب اهميته على ما تمخض عنه وفي وقت قصير من(( برنامج تنفيذي)) بينهم يتعلق بضمان انتخابات حرة ونزيهة فحسب،و لكن اهميته الحقيقية اكبر واشمل من ذلك بكثير، فما تمخض عنه ليس برنامجاً تنفيذياً على نحو دقيق، بل يمكن اعتباره برنامج عمل مشترك يحتاج الى خطط تنفيذية وعمل متحقق في الميدان، ويكفي ان نمعن النظر في مدلول الايحاءات والاشارات، التي تضمنها ذلك البرنامج في مقدمته وخاتمته، وخاصة التركيزعلى الأوضاع العامة للبلاد، اقتصادية واجتماعية وسياسية، والاشارة ذات المغزى الكبير في خاتمته التي حرصت على التأكيد على كون الإتفاق على برنامج العمل المشترك ثمرة المرحلة الأولى للحوار وابقاء الباب مفتوحا على(( آفاق مستقبلية لتنسيق أبعد بين احزاب اللقاء)) كما اورده البرنامج. ومما لا شك فيه ان كل ذلك يجعلنا امام حقيقة لامِراء فيها مؤداها ان ذلك الحوارأو اللقاء انما وِجِد ليبقى وبدأ ليستمر، ولم يعد هناك من مجال، في رأيي، للاعتقاد بأن اهدافه آنية تكتيكية في إطار ما يُعرف بالمناورات السياسية، بل يبدو بأن اهدافه استراتيجية بعيدة المدى، نتمنى ان يحقق ما يجعله جديراً بالإندراج ضمن إطارالعمل التاريخي لإعادة صياغة وصنع الحياة والمستقبل المشرق الواعد على ارضنا بالديمقراطية والعدل والمساواة، وعبر بِناء دولة المؤسسات الحديثة، دولة القانون والنظام والأمن والاستقرار والآمان، والتي تزول منها كافة مظاهر الفساد والافساد والتسلط والهيمنة والقهر، وتنتفي من ارجائها صِوَر الغلبة المستندة الى منطق القوة الغاشمة والاخضاع الجبري، ويصبح الشعب كل الشعب حاكم وسيد بنفسه ولنفسة بالحق والعدل والاخاء والوحدة. والحقيقة ان من مقتضيات نجاح لقاء سياسي كهذا صَرفَ نظره نهائياً عن كل أشكال المساومات السياسية الهادفة الى اللهث وراء الحصول على فتات السلطة والحُكم، فالحُكم في المحصلة النهائية مجرد وسيلة لغايات نبيلة وعظيمة. ولو استطاع هذا الحدث السياسي الهام، المتمثل بحوار ولقاء الإصلاح والمعارضة، ان يخوض غمار انتخابات حرة ونزيهة برلمانية ومحلية وينجح في خلق كتلة معارضة سياسية قوية داخل مجلس النواب، لكان ذلك أهم وأعظم خطوة على طريق الانتصار لقضية الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة بمختلف مجالاتها، ولكان ذلك كافياً تماماً ومحققاً لمهام واهداف المرحلة الأولى للحوار واللقاء تُمهِد وتُعِد لمراحله اللاحقة، وهو الهادي الى سواء السبيل. صحيفة الوحدوي