“صندوق الإقتراع” .. المفترى عليه! (الحلقة الثالثة)

توقفنا في الحلقة السابقة امام سؤال مستخلص من سياق الحديث ؛ مؤداه هل صحيح مايدعيه النظام الحاكم في اليمن بانه نظام ديمقراطي ومتقدم ايضا ؟! وبالعودة الى سياق حديثنا في الحلقتين السابقتين ، والذي حاولنا فيه رسم المعالم او الملامح الرئيسية للديمقراطية والليبرالية منها ، على وجه الخصوص ، وعلى ضوئه ، فاننا هنا نتوقف في محاولة لرسم ابرزمعالم وملامح وطبيعة النظام الحاكم في اليمن ، ومقارنته بمعالم وملامح وطبيعة النظام الديمقراطي الصحيح السابق بيانه ، للخروج باجابة واضحة وموضوعية حول حقيقة ادعاء النظام بانه ديمقراطي من عدمه .                                                  وباطلالة سريعة ومختصرة لطبيعة النظام الحاكم في اليمن وتركيبته وادائه ووظيفته ، يمكننا رسم ابرز واهم ملامحه ومعالمه  على النحو التالي : 1) البيئة والمناخ الموضوعي  الناشئ في اطارهما : تتميز البيئة والمناخ الموضوعي السائد ، والذي نشأ النظام وترعرع واستوى في ظلهما بدرجة عالية من التخلف المريع والمستفحل حضاريا وتعليميا وثقافيا واجتماعيا ، حيث لاتزال بُناه وقواه وعلاقاته تنتمي الى مرحلة القرون الوسطى ، في قواه القبلية العشائرية السابقة للدولة الحديثة ، في النِسب العالية جدا من الامية والجهل التعليمي والثقافي، وانسلاخه عن الارتباط بالدولة سياسيا واقتصاديا ومعيشيا ، اذ لايزال خاضعا ، في الغالب ، لمنظومات تقليدية تهيمن عليه . 2) الاوضاع الاقتصادية والمعيشية : وتتميز بمستويات عالية جدا من الفقر والبطالة التي وصلت الى درجة تنذر بخطر داهم ، في ظل سلطة لم تولي معالجة هذه المشكلات المتفاقمة اهتماما جادا ، وباتت عاجزة عن ايجاد الحلول والمعالجات السليمة والفعالة لها ، مع تصاعد آثارها ومفاعيلها ونتائجها الاجتماعية والسياسية الخطيرة . 3) نظام حكم يفتقر الى اية رؤية او مشروع وطني : على امتداد 32 عاما متواصلة هي عمر النظام الحاكم ؛ لم يستطع ، بل انه لم يُرد او يرغب ، تكوين ادنى رؤية او مشروع وطني اولي للنهوض بالبلد وتحديث بُناها واوضاعها والدفع بتطويرها والارتقاء بمستوياتها واوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، من خلال مشروع معاصر يشرع في بناء واقامة الدولة الحديثة ذات الرسالة والوظيفة الوطنية الشعبية المعاصرة ، ليس هذا فحسب ، وانما راح يدمر وينقض ويُقوِض مداميك واسس ومقومات الدولة الحديثة الوليدة ومشروعها الوطني الذي بدأ يأخذ طريقه في ميدان التحقق العملي ابان فترة حكم الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي القصيرة جدا ! ليقيم على انقاضها واطلالها المنهارة بنية سلطة ” الفرد – الاسرة – القبيلة ” ، وفرض على مشروع ” دولة الوطن والشعب والمواطنة ” واقع الانسحاب والتلاشي والسقوط ، ليحل محلها بُنى وهياكل شكلية لدولة صورية يديرها تكنوقراط لايملك سلطة القرار والفعل ، مقتنعاً باداء دور الموظف المطواع لدى “سلطة فعلية ” موازية ، غير ظاهرة على المسرح السياسي بشكل واضح ، تتكون من قادة عسكريين يسيطرون ويحكمون قبضتهم على القوات المسلحة ، وينتمون في البداية الى قبيلة بعينها ثم من عائلة او اسرة محددة ، هذه السلطة غير الظاهرة امتلكت وسيطرت ، تماما ، على مفاتيح ومصادر وادوات القوة والثروة والسلطة فاصبحت تحتكر ” القرار” وتتحكم به وتفرضه ، طوعاً او كرها ، على سلطة “الدولة” الشكلية الصورية الظاهرة للعيان كواجهة لها واداة تنفيذ متخصصة ، وكان من الطبيعي والمنطقي ان يقتصر دور ومهمة “السلطة الشكلية” على خدمة “الحاكم الفعلي” وكسب رضاه واستحسانه، وفي مقابل دورها ومهمتها تلك لم تنسى او تغفل عن اخذ نصيبها من المكاسب والمغانم اللا مشروعة عبر الفساد والإثراء اللاقانوني ! واُزيحت معايير وشروط رسالة الدولة او الحكم ووظيفتها ومسئوليتها الوطنية والاخلاقية في خدمة الشعب وتحقيق اهدافه وطموحاته والنهوض بحاضره ومستقبله ، واصبح تبؤ المنصب حظاً وشطارة يجب استغلاله للاغراض الشخصية دون تأخير او تباطؤ تحسباً للتغيير او التبديل! 4) تعزيز واحكام القبضة البوليسية الحديدية : وبغياب وانعدام المشروع الوطني للنهضة الشاملة ،ورسالة “دولة الوطن والمواطنة والشعب” ، تم تغييب “الجماهير” وتهميشها واقصائها عن لعب دور القوة “الضامنة ” “الحامية” “البانية” للمشروع والدولة الوطنية الحديثة التي لم يعد لها وجود فعلي حقيقي ، واستعاضت ” السلطة ” الحاكمة عن “الجماهير – الشعب ” بتعزيز وتقوية نفوذ وسلطة وهيمنة ” الأجهزة والقوى الأمنية ” وأطلقت يدها واُعطيت مساحة لامحدودة من حرية الحركة دون قيد او عائق لبسط وإحكام قبضتها الحديدية المطلقة على مقاليد واوضاع البلاد في كافة المجالات كذراع طويلة وباطشة للسلطة الحاكمة في مواجهة وقمع اية احتمالات للتململ والسخط والتحرك الشعبي ضد السلطة ورموزها ، وبهذا استحقت السلطة الحاكمة ، عن جدارة واستحقاق ، صفة ” السلطة او الدولة البوليسية ” بكل معانيها وخصائصها واساليبها ، اذ اصبحت ، عبر ذراعها البوليسي المتضخم والرهيب ، وبواسطة مندوبيها المعينين في كل وزارة ومؤسسة ومرفق وهيئة وسفارة وجامعات ومعاهد ونقابات وغيرها ، هي صاحبة السلطة الفعلية والقرار النافذ في ادارة المرافق الرسمية المذكورة والتحكم بسياساتها واجراءاتها ووظائفها ، اضافة الى التحكم في التوظيفات الجديدة او الترقيات او النقل او حتى الفصل من الوظيفة ، ويسري الوضع نفسه على قبول الطلاب في الجامعات والثانويات والمعاهد والبعثات التعليمية الخارجية ، لقد اصبح مندوب “اجهزة الامن البوليسية ” صاحب القرار والسلطة  الفعلي الوحيد فوق القيادات والتسلسلات الوظيفية القائمة كلها على اختلاف درجاتها ومستوياتها . 5) تخريب وافساد وتدمير الحياة السياسية الحزبية الطبيعية : لقد قامت السلطة الحاكمة ، عبر ذراعها الرهيب ” الاجهزة الامنية ” المطلقة السلطات والصلاحيات ، والبعيدة عن المساءلة والنقد والتقييم حتى ضمن اطار السلطة الحاكمة الشكلية الصورية ، بأسوأ واخطر عملية تخريب وتدمير وإفساد وإعاقة النمو والتطور الطبيعي لمسيرة وحركة الاحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والقوى والفعاليات الاجتماعية النشطة والمثيرة لهواجس ومخاوف السلطة ، على نحو لم نشهد له مثيلا طوال التاريخ اليمني المعروف ، قديمه ووسيطه وحديثه ، باستغلال وتوظيف كافة امكانيات الدولة وسلطاتها وثرواتها وجبروتها ، وبالاستعانة بأحدث واخبث الوسائل والاساليب البوليسية والاستخباراتية ، من الترهيب والترغيب والاغراءات والقمع والتعذيب والقتل او بالتلويح بها ، لإحداث الصراعات والانقسامات والانشقاقات داخل صفوف الاحزاب والمنظمات المدنية والقوى الاجتماعية والشخصيات المستقلة النشطة ، واختراق صفوفها وتفريخ واستنساخ مسميات واشكال حزبية وهمية موازية لها ومتصادمة معها بمساندة ودعم وتشجيع الاجهزة الأمنية البوليسية ، شكلت في مجملها ، اخطر عملية تخريبية تدميرية وافسادية للمسيرة الطبيعية السوية للحياة السياسية والحزبية والديمقراطية الوليدة في اليمن ، وهو ما أدى الى إضعاف وتهميش وشل فاعلية وتأثير الكثير من تلك الاحزاب والمنظمات والفعاليات في الساحة . 6) التحكم والتزوير وسع النطاق للانتخابات : انطلاقا من وعي وادراك السلطة الحاكمة الفعلية للاهمية الكبرى التي تكتسبها عمليات الانتخابات ومايترتب على مخرجاتها ونتائجها من آثار واوضاع ، طلبت من اجهزتها الأمنية البولسية صاحبة النفوذ والسلطة والتأثير الواسع والحاسم ان تضع مسألة الانتخابات ؛بمختلف مراحلها ومستوياتها ونتائجها على راس قائمة اولوياتها البالغة الاهمية كأولوية اولى لانشطتها وحركتها وعملها ، بما يضمن تحقيق السيطرة والتحكم في مساراتها ومختلف مراحلها وتزوير نتائجها والتلاعب باجراءاتها لضمان فوز مرشحي السلطة ورجالها فيها بشكل ساحق او غالب على اقل تقدير ، ولابد لنا من الاعتراف ان تلك الأجهزة نجحت نجاحاً ملحوظاً وملموساً في هذه المهمة والدور الموكول لها ، بدءاً من مرحلة ” قيد الناخبين وتسجيلهم ” في جداول وسجلات القيد ، ثم عبر مرحلة ” الاضافة والحذف ” فيها اي غربلتها وتصفيتها ، مرورا بتسجيل ” المرشحين ” ثم غربلتهم من خلال الطعون والاعتراضات ، وايضا عملية اختيار وتشكيل لجان ادارة الانتخابات ، الإشرافية والأساسية والفرعية ، وكيفية توزيعهم على المحافظات والمديريات والدوائر ، وفرز اعضائها وتصنيفهم من حيث الأحزاب والمرشحين الذين يمثلونها ، وانتهاءا بالعملية الاخيرة للانتخابات المتمثلة ” بيوم الاقتراع وحركة الصناديق ” ، وعملية فرز واحتساب الاصوات وإعلانها . والواقع ان الأجهزة الأمنية البوليسية النافذة والقوية التأثير ، لعبت اوسع وانجح لُعَبِها واساليبها في التأثير والتحكم والتزوير للعملية الانتخابية ، على امتداد كل دوراتها ، وفي كل مرحلة من مراحلها ، ساعدها وهيأ لها ذلك الفهم الشائع والسائد الذي يحصر اساليب وعمليات التزوير على المرحلة الاخيرة للانتخابات ، اي الاقتراع والفرز ، في حين انه من الواضح والجلي تماما ان التأثير والتزوير يبدأ حتى قبل بدء مرحلة ” القيد والتسجيل ” ويستمر في كل مراحل العملية الانتخابية اللاحقة ، لتصبح المرحلة الاخيرة بشقيها مجرد تحصيل حاصل لما حصل وتم في المراحل السابقة كلها ، حتى وان بدا ان المرحلة الاخيرة تسير سيراً حسناً رغم حقيقة كونها غير ذلك . ففي بلد مثل اليمن ، يغيب فيها واقع حكم القانون ، واحترامه وسيادته ، ولا يوجد فيه قضاء نزيه ومحايد ومستقل غير خاضع للتأثيرات والإملاء والتدخل ، ولاتتوفر فيه ابسط معايير وضمانات حماية حقوق وحريات المواطن والناخب خاصة ، بل وضمان حماية حياته وكرامته ، وتنعدم تماماً ضوابط وضمانات وآليات تمنع او تحوول دون تعرض الموظف والعامل وحتى الطالب للتهديد او التعرض الفعلي للفصل التعسفي من وظيفته وعمله وجامعته ومدرسته ، او هضم حقوقه المشروعة في الترقية والمكافأة والحوافز ، اوتمنع وتوقف ، على الإجمال ، تعرض اي مواطن ناخب ، تاجراً  كان ام صاحب عمل حر ، لاية اضرار او اجراءات انتقامية بسبب حقه وحريته في اختيار وانتخاب من يريد بملئ ارادته الحرة ، كالاعتقال او تلفيق واختلاق تهم باطلة او تعريض اسرته واقاربه للانتقام والاضطهاد ، وغير ذلك من الشروط والاحكام والضمانات الكاملة والنافذة والمحترمة ، فان كل الادعاءات والتأكيدات و ” الأيمان المغلظة ” بوجود ممارسة ديمقراطية سليمة وصحيحة ونزيهة ، مهما تعالت اصواتها وارتفع ضجيجها ، تصبح كاذبة وباطلة وغير ذات معنى بالمطلق ، وتجارب الانتخابات كلها التي مررنا بها وعايشناها واختبرناها تؤكد وتبرهن على ذلك ، فالناخبون ، في غالبيتهم الساحقة الا قليلاً من الواعين والمؤمنين برسالتهم ودورهم ، القت اجهزة الامن البوليسية في روعهم ، عبر عملية ايحاء وغسيل دماغ مكثف ومبرمج ، انهم سوف يتعرضون للإنتقام وخسارة مصالحهم مالم يصوتوا لمرشحي الحكومة ! وكثير من رؤساء واغصان لجان الادارة الانتخابية من ممثلي احزاب المعارضة او المستقلين جرى التأثير عليهم واخضاعهم بفعل الترهيب والتخويف والوعيد إن هم لم يغضوا النظر عن اساليب التزوير والتلاعب سواء بصناديق الاقتراع او بعملية فرز الاصوات واحتسابها او اباحو – مجرد بَوحْ – بما تعرضوا له ، ويلعب افراد الامن والجيش الموجودين ، دائماً ، داخل اماكن الاقتراع ، بحجة الحماية وضمان الأمن والهدوء يلعبون دوراً رئيسياً في عملية استبدال الصناديق الأصلية بأخرى جرى تعبئتها مسبقاً ! وفي حالة إخفاق تلك الوسائل في تحقيق هدفها لسبب او لآخر يتولى بعض المشائخ وذوي النفوذ في بعض تلك الدوائر في انتزاع الصناديق والاستيلاء عليها بالقوة وايصالها الى منازلهم وتولي امرها كما يجب!! وفي دوائر اخرى يبدو ان ناخبيها في اغلبيتهم الساحقة عاقدوا العزم على التصويت وانجاح مرشحين غير مرشحي السلطة ، فهناك اسلوب فعال وحاسم لترجيح النتيجة لصالح مرشح الحكومة من خلال زيادة اعداد رجال الجيش والامن داخل المعسكرات القائمة ضمن نطاق الدائرة او الدوائر المعنية حيث يُرجِحون باصواتهم التي يدلون بها بالأمر والضغط العسكري وعبر تزويدهم ببطائق اقتراع جاهزة ومعدة سلفاً لإدخالها في الصناديق والزامهم بالإتيان بالبطائق الفارغة التي يتسلمونها في مراكز اقتراعهم داخل معسكراتهم !! ثم تأتي الاساليب والوسائل التي يحرمها القانون اصلا وتتمثل بقيام مسئولي السلطة التنفيذية وقاداتها من المدنيين والعسكريين في استغلال وتوظيف مواقعهم ووظائفهم وتجنيد وتعبئة امكانيات وقدرات وممتلكات الدولة ضمن دائرة مسئولياتهم وتسخيرها ، علناً وجهرا ، للدعاية والتأثير على الناخبين وكسب اصواتهم لمرشحي الحكومة ، ناهيك عن رصد وتخصيص وصرف مبالغ مهولة من الاموال العامة وبدون اسقف او تحديد لها بل بشكل مفتوح لتمويل وشراء الحملات الانتخابية واصوات الناخبين لصالح مرشحي السلطة ! اضف الى ذلك مايتم اعتماده وتقريره وصرفه من اغراءات ومكاسب غير مشروعة مثل المشاريع الخدمية، والمواد الغذائية، والمكافأت المالية، والمناصب، والوظائف ، لصالح او بهدف ترجيح كفة مرشحي السلطة من خلال التأثير على الناخبين وشراء اصواتهم .. اشرنا في سياق هذه الحلقة الى ستة من ابرز واهم معالم وملامح السلطة الحاكمة في اليمن ، بقي امامنا عدد من الملامح والمعالم التي نَودْ استكمال تسجيلها ، وذلك ماسنتناوله في الحلقة القادمة والاخيرة باذن الله تعالى . بريطانيا – شيفيلد 11 سبتمبر 2010 م     

موضوعات ذات صلة