رسالة مفتوحة الى الصديق يحي العرشيالاصلاح الإداريبين جهازين

منذ عدة أشهر خلت كانت تتفاعل في ذهني فكرة مقالة حول ((الوضع الاداري المزري ومسألة الاصلاح الاداري)) ولم تُتِح زحمة الأحداث الماضية الفرصة المناسبة لتنفيذ فكرة المقال وإن ظلت تُلح عليّ الحاحاً شديداً بالنظر الى ما تمثله المسألة الإدارية من أهمية بالغة سواء اردنا ان نضع حداً لحال الانفلات والتسيب والفساد الضارب بجذور عميقة في مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة ..أم اردنا ان نستشرف آفاق مرحلة جديدة وجادة على طريق إعادة صنع الحياة على ارضنا نحو المستقبل الواعد.. فبدون إحداث ثورة إدارية جذرية وشاملة تقوم على أسس علمية واعية فانه من شبه المستحيل ان نتصور إمكانية تغيير الواقع نحو الافضل . وجاء التشكيل الحكومي الجديد بالاستاذ يحيى حسين العرشي ليتولى قيادة وزارة((الخدمة المدنية والاصلاح الاداري)) والحقيقة ان المهمة المناطة بهذه الوزارة مهمة ضخمة ومعقدة وخطيرة الى الحد الذي نستطيع ان نقول فيه ان رؤيتنا لطبيعة المستقبل المنشود لبلادنا انما تتوقف وترتبط ارتباطا كبيرا على طبيعة اداء تلك الوزارة لمهمتها الخطيرة تلك ايجاباً أو سلباً، غير ان الاخ الاستاذ يحيى العرشي يعتبر أحد أبرز القيادات الادارية القلائل في بلادنا كفاءة واقتداراً وهِمةً وحزماً، وكان اختياره موفقاً للغاية، مما اثار في ذهني فكرة المقالة حول مهمة ومسئوليات وزارة غاية في الأهمية يقودها الصديق العرشي، وفضلتُ عن المقالة كتابة رسالة مفتوحة اليه، واثقاً أن ما في ذهنه لا شك اكثر بكثير مما اُريد ان اجذب اهتمامه اليه من قضايا. وأول تلك القضايا ـ عزيزي الوزيرـ ان نظامنا الاداري الراهن نظام متخلف للغاية مفتقد الى القدرة والفاعلية في اداء مهامه ومسئولياته الى درجة مزعجة، بل اكاد اقول أنه بات مصدر إحباط وعذاب ونَكد للمواطنين،ولم يحدث ان عثرتُ على أي مواطن له معاملة معينة لدى جهاز اداري،وهو راضٍ ومرتاح،بل اجدهُ دائماً، شاكياً متبرماً ومتضرراً في احايين عديدة.. ويتعزز الإنطباع يوماً بعد يوم وكأن جهاز الدولة الاداري الهدف الرئيسي لوجوده هو تطفيش ومعاقبة وتهذيب المواطن وليس خدمته بتيسير وتسهيل اموره ومعاملاته، وقد لا نستطيع ان نوجه اللوم الى شريحة الموظفين من المستوى الادنى والمتوسط ،لأن كثيراً من موظفي هاتين الشريحتين يشكون مٌرْ الشكوى ويعانون أشد المعاناة من تسلط وقهر ومزاجية قادتَهُم الإداريين، فالقائد الإداري وفقاً لمزاجه الشخصي بيده وحده ان يرتقي بالموظف الى أعلى المراتب والامتيازات، وفي يده في نفس الوقت ان يُحطمه تحطيماً نفسياً ويُحطِم مستقبله الوظيفي الى الأبد.. وهذه العقدة النفسية التي تعاني منها شريحة واسعة من موظفي الدوله ـ بجميع قطاعاتها ـ تجعلهم يتعاملون مع المواطنين معاملة عصبية متشنجة مبنية على ردود أفعال حادة، وتفرض على الموظف ان يبذل كل طاقته لإرضاء رئيسه وليس لحسن أداء عمله، طالما كان عليه ـ مهما كان مستوى إبداعه وإنجازة ـ لا يجد مُقابله حافزاً وتشجيعاً، وربما لاقى عَنتاً في ذلك. الا تلمس ـ عزيزي الوزيرـ وانت صاحب خبرة إدارية طويلة أن الموظف في بلادناـ مهما كان مستواه ـ اذا اراد الحصول على حقوقه الوظيفية المشروعة أو مترتباتها المالية مثلا، فان عليه ان يترك موقع عمله لأسابيع بل احياناً لأشهرعديدة،متنقلاً من إدارة الى أخرى ومن وزارة الى أخرى ومن مسئول الى آخر في دوامة من المعاملات والمراجعات الميدانية الطويلة العريضة، وغالباً ما تكون النتيجة خيبة أمل وصدمات نفسية تؤثر على طبيعة ادائه لعمله. ودعني عزيزي الوزير احدثك عن بعض انطباعات لاتزال عالقة في ذهني منذ نهاية مرحلة الطفولة التي عشناها في مدينة عدن إبان مرحلة (( الاستعمار البغيض)) وكان هناك عدد من الاقارب والمعاريف يعملون إما موظفين اوعمالا،تصورا ـ عزيزي الوزير ـ أن هؤلاء وامثالهم ظلوا في أعمالهم سنوات طويلة الى أن اُحيلوا للتقاعد دون ان يضطر أي منهم لمبارحة موقع عمله في يوم من الايام لاجراء معاملات تتعلق بوضعه الوظيفي اوحقوقه المالية،ولم يكن أي منهم يترك عمله للحظة واحدة إلا لقضاء إجازة إما مرضية أواعتيادية فقط، كان كل واحد منهم يصله راتبه في مظروف الى موقع عمله مشفوعاً برسالة توضح مستحقاته بالتفصيل، بل حتى ذلك المظروف كان مُعداً بطريقة تمكن الموظف او العامل من مراجعة مستحقاته بوضوح عبر فتحة من الورق الزجاجي حتى يتمكن من التوقيع على استلام راتبه دون حاجة لفتح المظروف، اما اذا استحق احدهم ترقية فإن رسالة تصل اليه قبل موعد الترقية بفترة زمنية تحمل اليه التهنئة بالترقية التي استحقها، وبالمستحقات المالية التي سيتقاضاها بموجب درجته الوظيفية الجديدة، وهكذا بالنسبة للتعيين والنقل الوظيفي دون ان يترك موقع عمله للحظة واحدة.. ولم اعثر في ذاكرتي ان احداً منهم قد اضطر للذهاب الى مكتب مدير أو وزير أو مسئول لمراجعات أو معاملات تتعلق بعمله مطلقا.. وبطبيعة الحال ـ عزيزي الوزيرـ فأنا ادرك تماماً  الفرق بين حجم الجهاز الاداري في مستعمرة عدن انذاك، وبين الجهاز الاداري لبلادنا كلها الان، لكنني ومع ادراكي ذاك فاني أناقش فقط اسلوب وطبيعة الاداء الاداري فقط،ولاشك انكم تدركون تماماً حجم الخسارة الفادحة والارباك الشديد الناتج عن اوضاع ادارية نعيشها بالشكل الذي اشرنا اليه يجد فيه الموظف او العامل نفسه مضطراً لترك موقع عمله لأيام واسابيع وربما شهور لهثا وراء حقوق ضائعة او معلقة أو مهملة.. والنتائج السلبية المدمرة على صعيد الدولة والمواطنين معاً..وبحسب تصوري المحدود فان المسألة برمتها لاتحتاج إلا الى إعادة تنظيم للجهاز الاداري بلوائحة وانظمته واجراءاته والتخفيف من حدة المركزية الشديدة لضمان حسن سير الأداء وسرعته، وخاصة بالنسبة لوزارتكم،((وزارة الخدمة المدنية والاصلاح الاداري)) التي تعتبر الان بالذات أكثر تأهيلا ومقدرة على إحداث ثورة ادارية عميقة وحقيقية.. ولعلي اشعر بحاجة الى ذِكر موقف شدني واثار انتباهي واملي في نفس الوقت فذات يوم قبل حوالي العام كنت اقوم بزيارة لوزارة الخدمة المدنية والاصلاح الاداري ضمن مسعى حميد لإنجاز معاملة احد الموظفين الأصدقاء، واُبلغنا ان النظام يقضي بان نُسلم الملف في إدارة مختصة عند بوابة الوزارة، ونأخذ بذلك سند استلام ثم نعود في موعد معلوم لاستلامه من ذات الادارة مؤشرعليه، ولأن صديقي الموظف كان قد ظفر بي بعد جهد جهيد وخشي ان لايظفر بي ثانية فقد الح عليّ ان اواصل مسعاي كما جرت عليه العادة، ولما كنتُ شديد الخجل فقد استسلمت لإلحاح صديقي، مع انني اشعر بحرج في مثل هذه الحالات، وكان الأخ العزيز الاستاذ حسين الاهجري كريماً ولطيفاً معي حيث انجز لي المعاملة ولم يفته ان يشرح لي النظام، والواقع ان هذا الإجراء الاداري بالرغم من كونه خطوة اولى انعش في نفسي أملاً كنت افتقده تماماً في إمكانية إحداث أي تغيير ايجابي في طبيعة التنظيم الاداري لأجهزة الدولة، ولقد تعززت آمالي بمجيئكم ـ عزيزي الوزيرـ لقيادة هذه الوزارة الحساسة والمهمة، ولوجود قيادات ادارية ممتازة فيها. ثاني تلك القضايا التي اردتُ إثارتهاـ عزيزي الوزير ـ  هي هذه الخلخلة الدائمة وعدم الاستقرار والثبات الاداري، فالمسئول أو القائد الاداري عندما يُعيَن في موقع وظيفي، تسود حالة من الذعر والقلق في اوساط موظفي ذلك الموقع،إما خوفاً على مراكزهم من ان يفقدوها نتيجة إصطحاب ذلك المسئول ل((خُبرته)) وإحلالهم محلهم على طريقة زعماء ((العشائر)) وإما جزعاً من حركة التغييرات والتنقلات الواسعة التي يلجا اليها ـ في العادة ـ كثير من الوزراء والقادة الاداريين، دون وجود دوافع حقيقية لذلك، فقط التغيير لمجرد التغيير، والواقع ان الحاجة ملحة لتحقيق الضبط والانضباط القائم على الاستقراروالثبات، وذلك عبر قوانين ولوائح تُخضع الوظيفة الادارية لنظم وقوانيين ملزمة يُحرم تجاوزها او تخطيها لاعتبارات شخصية او حزبية أو فئوية، ذلك ان كثيراً من الانتهاكات الخطيرة لقانون الخدمة المدنية يقوم بها كبار المسئولين دون ضابط او رادع او رقيب وخاصة فيما يتعلق بمزاجية التعيين ومنح درجات وظيفية دون ادنى مراعاة لتوفير الشروط أو التسلسل الاداري،ولاشك ان مثل هذه التجاوزات المتزايدة والمُخِلة تخلق حالات خطيرة من الإحباط واليأس لدى الموظفين، وتدفعهم الى خيانة مسئولياتهم الوظيفية بالبحث عن حقوقهم في التعيين والترقية بوسائل غير مشروعة، وليس عبر اثبات القدرة والجدارة في الأداء الاداري. وثالث القضايا التي اود التطرق لها،هي تلك الآفة القاتلة لسلامة الأداء الاداري، والمتمثلة بالتضخم والتكدس الوظيفي الذي يزداد يوماً بعد يوم، حيث يمكن للمرء من مجرد المشاهدة العابرة ان يلاحظ بوضوح تكدساً هائلاً للموظفين والعاملين في اجهزة الدولة ومؤسساتها العامة المختلفة، حيث تقارب نسبة من يحتاجهم العمل احتياجاً فعلياً الى من هم في العمل فعلا ما تتراوح نسبته من 1ـ4 وربما تصل النسبة احيانا من 1ـ10.. وواضح ما تسببه هذه الظاهرة من اهدار وتبديد مريع للامكانيات ومن تعطيل وتجميع للكثير من القدرات والطاقات دون مردود أو ناتج عملي يذكر. ان هذه الظاهرة تُعَد بلا شك اخطر المعضلات التي يواجهها الجهاز الاداري الرسمي في بلادنا، وهي الى ذلك محاطة بسلسلة من التعقيدات ذات الحساسية الخاصة، وفي اعتقادي انها باتت تشكل أزمة وطنية حقيقية تتطلب تضافر كافة الجهود والطاقات الوطنية لبلورة الحلول المناسبة لها خاصة وانها ترتبط ارتباطا كلياً بطبيعة النهج السياسي والاقتصادي للبلاد، وأية حلول يتم وضعها لمعالجة هذه المعضلة، لكي يتوفر لها قدراً مناسباً من الواقعية والجدية، ينبغي ان تراعي طرفي معادلة صعبة احدهما التزام الدولة بايجاد اعمال للمواطنين وهو التزام دستوري، وثانيهما تحقيق ترشيد واستثمار افضل للطاقات والقدرات المكدسة وشبه المعطلة.. ولا ادعي هنا قدرتي على وضع او تصور حلول لهذه المعادلة، لكنني فقط اتصور امكانية ان يعاد النظر بصورة سريعة وشاملة بالخارطة الراهنة لتوزيع القوى العاملة على مستوى جميع اجهزة ومرافق ومؤسسات الدولة والقطاعين العام والمختلط، ذلك ان معالجة واقع الاختلال الكبير في توزيع القوى العاملة سواء من الناحية الكمية أو النوعية القائم حالياً ربما شكل الخطوة الاولى على طريق إحداث ثورة ادارية حقيقية وجذرية. تلك كانت بعض القضايا الرئيسية حول مسألة ((الاصلاح الاداري)) الذي بات مطلباً ملحاً احببت إثارتها، وهي اقرب الى الخواطر الشخصية العابرة، وفضلتُ ان تجيء على شكل رسالة مفتوحة للصديق الاستاذ يحيى العرشي، انطلاقاً من إحساسي بجسامة المسئولية التي اُلقيت على كاهله، في ظل جهاز واداء اداري يعاني من ظاهرة التضخم والتكدس والعجز، حيث بات يشكل عائقاً ومُعوِقاً لعملية التنمية والتطوير والنهوض الشامل، وتسوده عوامل الخلل والاضطراب وعدم التنظيم السليم، الى حد يصعب معه تصور مستقبل أفضل لبلادنا في ظله. متمنيا لكم ـ عزيزي الوزيرـ كل نجاح وتوفيق.  صحيفة الشورى

موضوعات ذات صلة