حقوق الانسان بين الرؤية الغربية والرؤية السعودية

تثور من فترة الى أخرى مواجهات إعلامية وسياسية بين دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية من جهة، وبين بعض الدول العربية والاسلامية وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي والسعودية من بينها على وجه الخصوص، وذلك حول موضوع حقوق الانسان ومسألة الديمقراطية على نحو أشمل، واتضحت تلك المواجهات المتقطعة بشكل اكثر بروزا منذ ما عرف بازمة الخليج على وجه التحديد.. الى حد بات يُحتم علينا أن نتخذها لحوار ونقاش ودراسة مستفيضة ومتعمقة من كافة الجوانب بهدف وضعها في موضعها الصحيح والموضوعي دون عُقد او أحكام مسبقة تتحكم في صياغتها رؤى شخصية او اهواء ونزعات فردية.. ويهمني الى حد كبير، قبل الشروع في تسجيل بعض الخواطر الاولية حول هذه القضية ـ بالغة الحساسية ـ ان اؤكد باني لا اقصد من وراء هذه الخواطر ان تكون دفاعاً وانتصاراً للرؤية السعودية، لأن موقفاً كهذا بالاضافة الى كونه امراً لستُ معنياً به مباشرة، فاني اشعر واظن ان السعودية ليست بحاجة الى من يدافع عن وجهة نظرها او يقوم بتبريرها، وعلى الجانب الاخر فان هذه الخواطر الاولية لا اقصد من ورائها ان تشكل موقفاً معادياً للغرب وأمريكا على رأسه،ذلك انني ازعم باني من اولئك الذين ينظرون الى الغرب على انه قوة هائلة يختزن امكانيات جبارة في مختلف المجالات وخاصة مجال العلوم والتكنولوجيا والحضارة ويحمل رسالة انسانية في حمل مشعل الحرية والانتصار لقيم التضامن والعدل والمساواة والتكامل على صعيد العالم كله.. اذن فالخواطر والاراء التي نزمع طرحها حول مسألة الديمقراطية وحقوق الانسان ورؤية مختلف الاطراف ازائها، انما تهدف الى محاولة اثارة حالة من الحوار والنقاش العام حول قضية هي بكل تأكيد تدخل في صميم اهتماماتنا، وتمس بشكل مباشر مجمل حياتنا واوضاعنا ومكوناتنا التاريخية والحضارية .. ولعله من المهم للغاية ان نتفق – بادى ذي بدء- على ان مسألة حرية وحقوق الانسان ، التي ظلت منذ اقدم العصور –ولاتزال- تمثل اشكالية كبرى تؤرق الفكر الانساني عبر مختلف مراحلة وتميزت عطاءاته النظرية بتنوع وتعدد وتباين الاراء والاجتهادات الهادفة الى ايجاد صيغة حل ملائم لتك الاشكالية . اقول ان مسألة حرية وحقوق الانسان هذه تشكل وبدون ادنى ريب الهم الرئيسي المشترك للناس جميعا بمختلف اجناسهم وثقافاتهم ودياناتهم ومستويات تطورهم .. فالجميع يسعى على اختلاف المنطلقات والمناهج والغايات الى تعزيز حرية الانسان .. ومع اننا نشعر بقدر من الارتياح ازاء التحرك والنشاط الامريكي خاصة ، والغربي عموما ، في مجال دعم ومساندة ودفع الجهود الرامية الى الانتصار لحرية الانسان وحقوقه وكرامته ونؤيده ونباركه في منحاه الانساني العام الذي يتجرد تماماً عن تَحكُم القناعات السياسية والمصالح النفعية الخاصة ، والذي ينظر للانسان كإنسان بصرف النظر عن انتمائه العرقي او الديني او الثقافي .. فاننا من جهة اخرى لانملك الا ان نقف وقفة موضوعية يشوبها شئ من القلق والجزع معا .. ان ذلك التحرك والنشاط الغربي والامريكي منه على وجه الخصوص قد اتخد لنفسه مساراً واتجاهاً واضحاً وجلياً نحو استخدام كافة وسائل الضغط ، لفرض نموذج بعينه هو النموذج الغربي بشقيه ( الاقتصادي) بفرض الاسلوب الرأسمالي في الانتاج  و( السياسي ) بفرض الاسلوب الليبرالي القاضي بتعدد الاحزاب بكل ما يرتبط بهذين الاسلوبين من قيم وافكار واخلاقيات ، وضمان تطبيقه في كل مجتمعات العالم بصرف النظرعن واقع تطورها التاريخي، ومكونات شخصيتها تاريخياً وحضارياً، واختلاف طبائعها وامزجتها.. وازاء ذلك نجد انفسنا وجها لوجه امام سلسلة من الاسلة الكبيرة والجادة لابد من الاجابة عليها اجابات واعية ومستوعبة: ـ هل المنهج الاقتصادي الرأسمالي هو الاسلوب الامثل لتحقيق التنمية السريعة والمتكاملة في المجتمعات شديدة التخلف؟ ـ وهل المنهج الليبرالي في المجال السياسي هو المنهج الوحيد الذي استقر عليه الفكر الانساني، باعتباره الحل السحري لمشاكل مجتمعات العالم قاطبة متقدمة ومتخلفة؟ ـ ثم هل منظومة القيم والافكار الغربية تلك هي التي يجب على البشرية جمعاء ان تلتزم وتتقيد بها طوعاً او كرها؟ والواقع انني لا ازعم المقدرة على وضع اجابات معقولة لمجمل تلك الاسئلة، ولكنني اكتفي فقط باثارة جملة من القضايا اراها جوهرية ومنها: ـ ان المنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بل وحتى مساعدات الغرب عموماً لدول في العالم الثالث، تمارس على تلك المجتمعات سياسة ضغوط بشعة تصل الى حد حرمانها من الحصول على احتياجاتها الغذائية الضرورية، لاخضاعها بالقبول بالنمط الرأسمالي في التنمية، في حين ان هذه المجتمعات لا تزال ترزح تحت وطاة ظروف تَخلُف وانحطاط مريع بينما يعلم الكثيرون ان المنهج الاقتصادي الرأسمالي انتهجته في المجتمعات الاوروبية طبقة رأسمالية ناشئة على انقاض منهج طبقة اقطاع انزاحت بحكم التقدم وحلت محلها طبقة جديدة. كانت لها فلسفتها وكان لها منهجها المُحقِق لمصالحها ضمن سياق تطور تاريخي طبيعي.. فاذا ما نظرنا الى واقع كثير من مجتمعات العالم الثالث التي تعيش اوضاعاً شديدة التخلف وتتعامل مع اخلاط متداخلة من مراحل تاريخية شبه بدائية ـ عشائرية ـ اقطاعية ـ ، بل حتى شبه عبودية، فهل بمقدور الغرب ان يرشدنا السبيل لنفهم كيف يمكن له ان يفرض على مجتمعات هذا شأنها النظرية الرأسمالية في التنمية، وهي لاتزال بعيدة عن الوصول الى اعتاب عملية تفاعل اجتماعي حقيقي يَنتُج عنه فرز طبقي حقيقي، فاي طبقة من الطبقات الاجتماعية، التي لاتزال غير موجودة بمفهومها العلمي والتاريخي في هذه المجتمعات، سوف يحملها الغرب مهمة تطبيق المنهج الرأسمالي.. ولعل الكثير يعلم ان الرأسمالية لاتوجد إلا في ظل تنمية صناعية واسعة ؟ فهل يريد الغرب من وراء ضغطه لفرض الرأسمالية كمنهج لاقتصاديات تلك المجتمعات المتخلفة ان يُوكِل المهمة لطبقاته الرأسمالية نيابة عن رأسمالياتنا التي لم توجد يشكلها المتعارف عليه في مجتمعاتنا ؟! ام أنه يريد ان يربط طبقاتنا الرأسمالية التي لاتزال وليدة تتشكل بعجلة طبقاته واحتكاراته الرأسمالية الجبارة بحيث يضمن لنا دور الوسيط التابع الذي يُروِج لمنتجاته ويُصرفها في بلداننا ؟ ـ ومثل الحال السابق تتصاعد الضغوطات وتزداد شراسة من المنظمات الدولية ومن الغرب وهي ضغوطات يراد لها في المستقبل القريب ان تصل الى حد استخدام القوة المسلحة والحصار الشامل للمجتمعات بحجة المطالبة بحقوق الانسان وتطبيق الديمقراطية والواقع ان المطلوب ايضا تطبيق النموذج الغربي الليبرالي كاملا غير منقوص .. ومثلما قلنا في سياق الحديث حول النقطة السابقة بانه عندما تشكلت طبقة رأسمالية في مجتمعات الغرب وقامت بثورتها الدامية لتصفية طبقة الاقطاع وتعبيراتها السياسية والفكرية، صاغت لنفسها منهجاً رأسمالياً يحقق لها المضي قُدماً فيما عُرِف بالثورة الصناعية .. فقد كان لزاماً عليها ان تصيغ لنفسها بناء نظرياً متكاملاً في السياسة والمجتمع والثقافة والمعرفة والنظرة الى الكون الى آخره، فكان انتاجها النظري للمنهج الليبرالي الحر في المجال السياسي بكل مضامينه من حرية الفكر والرأي والاجتماع والنشر.. الخ. وتعدد الاحزاب من ضمنها، وقد كان ذلك المنهج الليبرالي متسقاً ومتناغماً مع سائر مناهج النظرية الرأسمالية وملبياً ومحققاً لمطامح ومصالح تلك الطبقة الرأسمالية الناهضة هناك.. غير ان محاولات فرض وتطبيق المنهج الليبرالي على مجتمعات لم تتبلور فيها بعد ولم تتشكل طبقاتها الرأسمالية، لايمكن ان ينتج عن ذلك سوى نتائج سلبية وعكسية بالغة الخطورة والتأثير المدمر لمسار التطور التاريخي الطبيعي لتلك المجتمعات المتخلفة.. ولعل ابلغ دليل على هذا القول ما حدث إبان مراحل الاستقلال الوطني حينما انسحب الاستعمار العسكري عن كثير من البلدان المستعمَرة في العالم الثالث المتخلف، وخلّف وراءه صفوة حاكمة أُريد لها ان تُطبق منظومة الافكارالغربية وخاصة المنهج الرأسمالي في الاقتصاد والمنهج الليبرالي في السياسة كتعدد الاحزاب وحرية الصحافة..الخ. ولم تكن نتيجة تلك التجربة سوى ان مُنيت النُخب الحاكمة بفشل ذريع وهزيمة نكراء مهدت السبيل لسلسلة الانقلابات العسكرية، ولقد كان مرد ذلك الفشل ان تلك النُخب ارادت فرض نموذج فوقي لم تتوفر له ولو الحدود الادنى من التبلور والتشكل والفرز الاجتماعي الطبقي وحتى الاحزاب التي حاولت انشائها انذاك كانت بمثابة جُزر ممسوخة ومعزولة عن بيئتها ومحيطها الاجتماعي، ولم تجد لنفسها مرتكزات في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ترتكز عليها وتكسبها المقدرة والتاثير بل والمشروعية ايضا، ذلك ان التعسف في فرض أنماط فكرية جاءت كإفراز طبيعي لعملية تفاعل اجتماعي في نطاق مرحلة تطور تاريخي طبيعي مرت بها مجتمعات أوروبا على واقع وظروف مجتمعات لاتزال تعيش مرحلة البداوة الاولى او ماشابهها، يُعتبركارثة فادحة النتائج والعواقب.. وفي اللحظة الراهنة التي نعيشها جميعاً، ليسمح لنا الغرب وأمريكا بالذات ان نوجه سؤالا اليهم مؤداه هل يعتبرون الاحزاب المتقاتلة حالياً في الصومال احزاباً سياسية تعبرعن حاجة ضرورية وطبيعية ام انها مجرد واجهات معاصرة شكلية لصراع قبائل وعشائر قديم وعميق الجذور؟؟ وهل يعتبرها ظاهرة ايجابية أم عامل خراب ودمار مأساوي لم تشهد الانسانية له مثيلا منذ امد طويل ؟! وحقيقة الامر فان الاحزاب التي نشأت في مجتمعات العالم الثالث، او على وجه التحديد في معظمها، لم تكن إلا مِسخاً للديمقراطية وتشويهاً لجوهرها الإيجابي الخلاق، بل واصبحت بمثابة مهزلة واضحوكة لممارسة ديمقراطية عرجاء وشوهاء وفاسدة في الغالب.. ولعل من الواجب المُحتِم عليّ هنا ان استدرك موضحاً ان ذلك لايعني بحال من الاحوال موقفاً معادياً لتعدد الأحزاب والديمقراطية، لكنه فقط يوضح ان اي محاولة قسرية لفرض قيم وافكار معينة على العالم كله يُعتبر ضرباً من ضروب النرجسية والتعصب الاعمى لايقيم اعتباراً لخصوصية وظروف ومكونات المجتمعات المتخلفة والمتباينة،بل لعله ـ وهذا هو الخطر ـ تعبيرعن نزعة من نزعات الإستعلاء العنصري الممقوت.. ان محاولة فرض تعميم نموذج فكري واحد على العالم اجمع باستخدام كافة اشكال الضغوطات بما في ذلك استخدام القوة العسكرية واستخدام الغذاء لأهداف ومطامح سياسية والإختباء خلف شرعية متهاوية ومأسورة تمثلها أطلال شيء اسمه الامم المتحدة، لهو امر بالغ الخطورة وغير مسبوق في التاريخ الانساني كله تقريبا.. وهل الفكر الانساني ـ عبر مسيرة عطائه الطويل ـ لم يُنتِج سوى ذلك النموذج وحده؟! ومن الذي اعطى شهادة عالمية بتفرد ذلك النموذج وعلى أي مشروعية من عقل او قانون او عُرف يستند اصحاب ذلك النموذج في فرضه على البشرية بأسرها؟! ومن هذا الذي نصب من امريكا ـ والغرب معها ـ بوليس أداب عالمي يؤدب العالم كله ويفرض عليه بالقوة او بغير القوة نموذج سلوك خاص؟؟ وللامانة نقول ان هذا الذي يجري في عالم اليوم الذي يدلف نحو عتبات القرن الواحد والعشرين باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، يُحيي في اذهاننا ذكرى اليمة ومريرة انسانياً عندما بدأت جيوش الاستعمار القديم تبسط سيطرتها بقوة السلاح على شعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، كان هذا الاستعمار القديم يُنجِز هدفه الاستعماري تحت شعار(( حمل رسالة الحضارة الى الشعوب المتخلفة)) بهدف تمدينها وتطويرها في حين ان الذي حدث عكس هذا تماماً مما يعلمه الجميع، ونسال الله القوي القادر ان لايكون شعار ((حقوق الانسان والديمقراطية)) هذه الايام مُنذراً بحركة استعمار جديد باختلاف الوسائل والاساليب فقط، ولعل ما يبعث على القلق العميق هو تخوفنا من ان تفاجئنا أمريكا ذات يوم ـ بحجة ذلك الشعار الفضفاض ـ فتطلب منا ان نتخلى عن ديننا الاسلامي بدعوى انه يتناقض مع الديمقراطية وحقوق الانسان كما تراها هي! وقبل ان نتطرق الى مناقشة اُسس الرؤيتين الأمريكية والسعودية إزاء مسألة (( حقوق الانسان والديمقراطية)) يجدر بنا ان نشير الى حقيقة اخالها واضحة للجميع وهي ان نقل او فرض نموذج فكري معين تقضي بطبيعة الحال نقل الجو والثقافة والقيم والمسلكيات التي ارتبطت ارتباطاً عضوياً بعملية نشوء وتطور ذلك النموذج حتما.. وانطلاقا من هذا الفهم دعونا نحاول ان نرسم ملامح رئيسية لخطة الولايات المتحدة الامريكية في هذا الصدد، وأمامي فقط بعض تصريحات للسيد ((تيم ويرث)) مستشار وزارة الخارجية الأمريكية اقتطف منها العبارات التالية: ـ وسيتم زيادة ميزانية متابعة الامم المتحدة لحقوق الانسان بصورة كبيرة وسوف تُوفِر الميزانية الجديدة المال اللازم لإعداد سلسلة من مراقبي حقوق الانسان وفحص سجل انتهاكات حقوق الانسان الثابتة في كل دولة على حده.. ـ ان خطة الولايات المتحدة سوف تتضمن مساعدة الامم المتحدة في إقامة حكم القانون ووقف عمليات التعذيب وإنهاء الصراعات الاقليمية والداخلية. ـ ان الخطة الأمريكية التي ستتضمن برامج حقوق المرأة والسكان قد تتعارض مع بعض التقاليد الاجتماعية في بلدانهم.. وقال ان رد الولايات المتحدة على ذلك هو أنها ستطرح سؤالا: (( ما هو الجزء في تقاليدكم الاجتماعية الذي يقول انه يتعين حرمان المواطنين من الحماية من جماعات حقوق الانسان العالمية؟)) ـ عندمانتحدث عن حقوق الانسان لايمكننا ان نحققها من خلال وضع بعض الاستثناءات وان اي مسألة مرتبطة بالميلاد أوالثقافة او الموقع الجغرافي لايمكنها ان تحد من حقوق الانسان الثابتة غير القابلة للتغيير. ـ ان الولايات المتحدة الامريكية الان تتحرك نحو نظام يكون التركيز فيه على نشر الديمقراطية وحقوق الانسان وحماية البيئة والتعامل مع زيادة السكان. وانها مستعدة للقيام بدور الريادة في هذا التغيير العالمي، ولن نقبل اي اضعاف لهذه المبادئ. هذه كانت اذن مقتطفات مختصرة من تصريحات المسؤول الأمريكي واضحة في معناها ومدلولها بما فيه الكفاية. وفيما يتعلق بنا كمسلمين بصفة عامة لابد لنا ان نعيد التاكيد بأننا على يقين راسخ بان ديننا الاسلامي السماوي الحنيف قد كفل للانسان ـ كانسان ـ بصرف النظر عن عرقه او ديانته او لونه حقوقاً ثابتة تفوق هذا الذي يدعوننا اليه اليوم، لابل ان ديننا اتسع ليشمل حقوقاً واجبة التنفيذ حتى للحيوان. وان ديننا الاسلامي قد تضمن تعاليم وقيم واخلاقيات هي من الاحترام والتقديس لدينا الى درجة يصبح من المستحيل فيها ان نساوم عليها او نُفرط بها إرضاء لأمريكا اوغيرها تحت اي ظرف كان ولأي مبرر كان.. ذلك ما ينبغي ان يكون معلوماً تماماً للجميع.. الى ذلك فان إيماننا ثابتاً بأن منظومة التعاليم الاسلامية قد كفلت للانسان حرية وحقوقاً تفوق ما هو مطروح في عالم اليوم، ذلك اذا مافهمنا الدين الاسلامي فهماً سليماً صافياً بعيداً عن كل ما يُمارس بإسم الاسلام من عُنف وإرهاب وقتل من قبل بعض الجماعات الاسلامية، ليس هنا مجال لمناقشته وان كُنتُ آمل العودة اليه في مقال مستقل باذن الله. وفيما يتعلق بالسعودية ـ وارجو ان يكون واضحاً انني تعمدت إختيار السعودية كنموذج لوضعها الحساس والخاص دينياً وليس لأي إعتبار آخر ـ فاننا يمكن ان نفهم جيداً ان تطالب أمريكا بحرية الانسان وبحماية حقوقه والحفاط على كرامته، ومعارضة اللجوء الى التعذيب والضغط النفسي والجسدي الذي قد يمارس على الانسان فيها، بل ويمكن ان يكون مفهوماً ايضاً ان تطالب أمريكا بتطور النظام السياسي نحو مزيد من المشاركة في اتخاذ القرار وفي الادارة.. الخ.لكن ان تتصور أمريكا والغرب معها إمكانية ان تصبح السعودية في نمط حياتها كإحدى الولايات الأمريكية او الدول الأوروبية مثلا تحت دعوى الديمقراطية او حقوق الانسان او غيره، فان ذلك من قبيل الشطحات الفكرية والشطط في التفكير والإبحار في موج الخيال.. ذلك ان السعودية بلد تتموضع في ارضه ديارهي أقدس مقدسات المسلمين جميعاً وتهفو نحو رحابها الطاهرة افئدة قرابة المليار مسلم على امتداد العالم اجمع.. انها بلد لاتَعني ولاتُهم السعوديين وحدهم، بل هي في صميم اهتمام كل مسلم، وهي بلد ـ الى ذلك ـ تتفرد بخصوصية بالغة الحساسية من بين جميع بلدان العالم قاطبة، ولها الى جانب تلك الخصوصية الشفافة واقع اجتماعي وثقافي ونمط حياتي ومسلكي لم يتقرر بمعزل او بعيد عن تلك الخصوصية المتفردة، بل في اطار من ايحاءاتها ومقتضياتها المعقدة، ووفقاً لهذا الفهم فان أي استهداف للسعودية في اتجاه الضغط عليها لفرض النموذج الغربي اقتصاداً وسياسة وثقافة ونمط حياة، سوف يعني تلقائياً انه استهداف لكل مسلمي العالم دون استثناء. ولا اريد هنا متعمداً استعراض بعض الجوانب الايجابية للتجربة السعودية في مجال ضمان الاستقرار والأمن وصرامة القضاء وصون املاك وحقوق المواطنين ولا في مجال التعليم وعدد الطالبات السعوديات في مختلف مراحل التعليم حتى ارقى مراحله الجامعية، وتحقيق قدر من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وتحقيق فائض تصديري في انتاج الحبوب والغذاء وحتى تصدير انواع الزهور الى العالم، وبناء قاعدة صناعية وزراعية هامة، فذلك ما احرص على تحاشيه لأسباب وعوامل شتى. ولكنني فقط اردتُ ان اشير الى أنه بالنسبة لمجتمعات كمجتمعات ((العالم الثالث)) تحتل مسألة تحقيق الاستقرار السياسي، وكفالة الأمن والأمان للمواطنين، مكانة ربما تسمو في غالب الاحيان عما سواها من مسائل اخرى، واذا ما كان لزاماً علي ان اعطي مثالاً واقعياً حياً فاني ساتجه مباشرة الى الصومال، لقد كان نظام حكم الرئيس محمد سياد بري سيئاً في ديكتاتوريته وفي قبليته وفي اُسريته، ومع ذلك اعتقد ان كثيرين يتفقون معي بأن الأوضاع التي جاءت بعده كانت ولاتزال إلى ما شاء الله كارثة مأساوية بكل المعايير والمقاييس والرؤى! والشاهد ان عملية تطوير النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي عملية تاريخية ناتجة عن شبكة من التفاعلات والافرازات الطبيعية لعملية التطور والتقدم الحتمي والطبيعي، لكنها في كل الاحوال لايمكن ان تأتي بفعل اعتساف قهري يتخطى المراحل بعملية قفزب ((البرا شوت)) في اتجاه آفاق مجهولة المصير وخيمة العواقب غالبا.. واذا كانت ـ أمريكا وحلفاؤها الغربيون ـ حريصون حقاً على ان يكون لهم دور نشط وفاعل في هذه المنطقة العربية ـ الاسلامية ـ التي تحتل مكان القلب من جسم العالم، فان عليهم ان يمدوا جسوراً حقيقية ويفتحوا قنوات اتصال فعالة بينهم وبين هذه المنطقة الحساسة، يُدار عبرها حوار حضارات خصب وخلاق تنتفي من ثناياه نزعات الفرض والهيمنة والاستعلاء العنصري المتعصب، إن حواراً مفتوحاً وعقلانياً ومثمراً بين الغرب والمنطقة العربية الاسلامية سوف يكون جديراً ببلورة صيغة تعاون وتكامل مثمر ومفيد ومحقق لمصالح الطرفين بكل تأكيد.. ولعله مما يساعد كثيرا على الوصول الى صيغة ايجابية كهذه ان تحاول ـ امريكا والغرب معها ـ استبدال لغة واسلوب المجابهة والمواجهة العدائية للاسلام، بلغة واسلوب جديدين يقومان على الحوار والنقاش الحر والودي المُفضي الى فهم دقيق وصادق لبعضهما البعض والقائم على الاحترام المتبادل لقناعات وخيارات كل منهما والمحقق في الاخير لتفاهم مشترك يقودهما على طريق تعاون وتكامل يكفل لكل منهما تحقيق مصالحه المشروعة وغاياته النبيلة، دون ان يكون هناك بالضرورة: سيد يُملي وعبد يُطيع ولا آمر يأمر وتابع يُنفذ بل حوار ارادات وتفاعل ثقافات وانفتاح ديانات. وبدون ذلك فلن نقف في محطات الانتظار سوى ترقباً للحظة الطوفان العظيم.   صحيفة الشورى  

موضوعات ذات صلة