الصفوة .. وإشكالية تناقض الخطاب السياسي

  (الشورى) تعيش مجتمعات ما يعرف ب(( العالم الثالث)) او بعبارات اخرى المجتمعات المتخلفة او النامية ، في ظل واقع حياة يتميز بالركود والتخلف الحضاري الشامل الذي يعكس اشكالاً من المعاناة والعذاب الناتج عن سيطرة ظروف الجهل والمرض والتخلف بجميع صوره على حياة شعوبها وحاضرها ومستقبلها وذلك بحكم تدني وهبوط وتأنر مسيرة تطورها التاريخي الطبيعي اما بتأثير ظروف موضوعية تعيشها تلك المجتمعات او بتأثير ظروف وعوامل خارجية فرضت عليها فرضاً، منها ما كان مرتبطا بالاحتلال او الاستعمار العسكري الأوروبي لأوطان هذه المجتمعات ومنها ما كان ناتجا ـ ولا يزال ـ بطبيعة العلاقات الظالمة وغير العادلة التي يقوم عليها النظام الاقتصادي العالمي وهو النظام الذي يتحكم بمسار وغايات العلاقات بين (( الشمال)) و(( الجنوب)) . فالاستعمار العسكري القاهر الذي ظل جاثما على تلك المجتمعات لحقب طويلة من الزمن وما مارسه من عملية نهب واستثمار واستنزاف لثرواتها وخيراتها لصالح تقدم وتطور البلدان الاستعمارية وحدها، فانه الى ذلك تعمد تشويه وتعويق عملية التطور الطبيعي لتلك المجتمعات بهدف الابقاء على واقع وظروف التخلف والركود الحضاري الشامل حتى تظل تلك المجتمعات بمثابة اسواق مستهلكة لمنتجاته،ومرتعا لاستغلال ثرواته ومواده الخام، وعمل الاستعمار ـ بكل السبل والوسائل ـ على اجهاض وتشويه عوامل وشروط النمو والتبلور الاجتماعي الطبيعي لقيام طبقة راسمالية وطنية حقيقية تكون مؤهلة وقادرة على النهوض بدورها التاريخي في قيادة مسيرة التنمية الشاملة لمجتمعاتها بجميع مجالاتها الصناعية والزراعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، ولعل كل ما خلفه الاستعمار لنا في هذا المجال،ـ وتابعه في نفس النهج وباختلاف الوسائل النظام الاقتصادي الدولي ـ هو خلق شرائح رأسمالية مبشرة لا تستند ولا هئ مؤسسة على قاعدة مادية صلبة تقوم على التصنيع الواسع، وبغياب وجود مثل تلك القاعدة المادية الواسعة الناتج عن غياب وجود طبقة رأسمالية وطنية بالمعايير المتعارف عليها، فقد غاب بالنتيجة الحتمية الدور التاريخي للرأسمالية في قيادة مسيرة المجتمع حيث كان اقصى ما تستطيع القيام به تلك الشرائح الرأسمالية الغربية، ونفس هذا الدور التشويهي الاجهاضي الذي فرضته القوى الاستعمارية على عملية التبلور واكتمال النضوج الاجتماعي الطبقي مُورس ايضا علي نظام التعليم ومناهجه وغاياته. وهكذا وجدت مجتمعات ((العالم الثالث)) نفسها عندما نالت استقلاليتها وحريتها من قبضة الاستعمار العسكري حيث وجدت نفسها محتارة تائهة وسط واقع مريع من التخلف الشامل مضافا اليه ما خلفه الاستعمار من مشاكل وازمات بسبب سياسة تشويه وتخريب عوامل وشروط تطور المجتمع تطورا تاريخيا طبيعيا كل ذلك في ظل استمرار السيطرة والهيمنة الاستعمارية باشكال جديدة تقوم على فرض علاقات اقتصادية دولية تفتقر الى ابسط قيم العدل والانصاف والتكافؤ بحكم احتكار الغرب للثورة الاقتصادية وعلوم التكنولوجيا… الخ وفي ظل واقع بالغ التدهور والتعقيد كهذا ، فان شرائح الصفوة او (( الانتلجنسيا)) او الفئات المثقفة والمتعلمين في هذه المجتمعات، لم تتمكن من التقاط (( اللحظة التاريخية)) فتمسك بزمام المبادرة لقيادة مجتمعاتها برؤى نظرية واضحة وموضوعية نحو تحقيق غاياتها وتطلعاتها المشروعة في اعادة صنع الحياة الجديدة على ارضها والنهوض بمستويات حياتها في مختلف المجالات نحو الافضل .. فلقد تبين بكل وضوح، ان تلك الصفوة او النخبة المثقفة كانت تعيش في دوامة عاصفة من الحيرة والتيهان والضياع اشد واعمق مما نحس به وتعانيه سائر الفئات الاجتماعية الاخرى .. ولعلها ــ بسبب ذلك ــ تتحمل قدرا كبيرا من المسئولية فيما اصاب كثير من مجتمعاتها من حالات الصراعات والانقسامات والتفجيرات الداخلية التي عاشتها فترات طويلة بعد مرحلة الاستقلال الوطني ، والتي جنت على تلك المجتمعات اكبر جناية واثرت سلبيا على حاضرها ومستقبلها بما اهدرته من طاقات وما بددته من امكانيات كان ثمنها باهضا وفادحا. ولقد كان الامل معقوداً على مقدرة تلك النخب في صياغة رؤى برامجية تحقق مطلب حشد وتعبئة وتوجيه طاقات وامكانيات المجتمع نحو انجاز المهام الوطنية العاجلة والملحة غيران هذا الامل قد خاب في معظمه، ولعل هناك عدد من الاسباب التي حالت بين تلك النخب وبين القيام بدور رائد من اهمها: * ان تلك النخب راحت تصرف كل جهدها تقريبا في ميادين تسابق محموم ومتسارع لنقل شتى الافكار والنظريات والايديولوجيات المطروحة في المجتمعات المتقدمة نقلا حرفيا ميكانيكيا دون ادنى مساس بقداسة النصوص حتى وان كانت نصوصا مترجمة ترجمة هزيلة وخاطئة .. وتبارت تلك النخب بعد ذلك على فرض مختلف خياراتها الفكرية المنقولة بكافة وسائل الفرص بما فيها استخدام السلاح والعنف ، وحتى لو كان ثمن ذلك انهاراً من الدماء والافاً من الارواح.. ولم تتنبه تلك النخب ، وسط اندفاعها المهووس الى الحقيقة الاساسية التي تؤكد ان الافكار والنظريات والايديولوجيات ليست سلعاً مادية يمكن شحنها في حقيبة والتنقل بها من مجتمع الى آخر بل هئ نتاج عملية تفاعل وافراز طبيعي ، ضمن سياق تاريخي بين جملة من الظروف والعوامل والاجواء شانها شان النبات الحي الذي لا يمكن ان يُزرع وينمو ويكتمل الا وسط تُربة ومناخ وبيئة محددة تحديداً دقيقاً وكاملا، ويستحيل زراعته في غير بيئته ومناحه وتُربته، إلا في اقفاص التجارب الزراعية الزجاجية المغلقة شريطة اصطناع تربة واجواء وبيئة مشابهة تماما.. وهذا لا يعني مطلقا فرض حظر وقطيعة كاملة مع عالم الافكار والتجارب الانسانية، بل على العكس من ذلك من المفيد الاطلاع عليها ودراستها واستيعابها واستخلاص ما يمكن الاستفادة من عبره ودروسه.. * وفي المقابل فان تلك النخب ـ او معظمها ـ لم تبذل ولو جهداً اقل من جهدها السابق في دراسة واقع مجتمعاتها دراسة علمية موضوعية مستفيضة بهدف الوصول الى تشخيص وتحديد دقيق لذلك الواقع من حيث مستوى تطوره التاريخي وقواه الاجتماعية ومشاكله الواقعية في اطار خصوصية تشكله التاريخي والحضاري الذي يَصنع خصوصية سيكولوجيته. وبالتالي صياغة حلول مناسبة واقعية لمشكلات واقعية ومعاشة، وبدلا من ذلك انطلقت تلك النخب بحماسة واندفاع لغرض انتقائيتها الفكرية المنقولة وترديد مقولاتها وصيغها وحلولها في واقع يشعر شعورا حقيقيا وعميقا بحالة من الغُربة والاغتراب حيالها حيث لا تربطها وشائج قربى بمشاكله المعاشة، بل ان تلك المجتمعات باتت تحس ان تلك النُخب غريبة عنها ومستهجنة. * والشاهد ان تلك النخب عجزت عن امتلاك المقدرة على ابداع رؤى نظرية برنامجية، يتوفر لها عامل الموضوعية والواقعية الناتج عن استيعاب خصائص الواقع وطبيعة مشكلاته من جهة، وعامل التجديد والمعاصرة الناتج عن استيعاب وهضم مختلف الافكار الانسانية وتجارب الشعوب بعصارات من افراز بيئتنا نحن.. وبسبب هذا العجز ظلت مجتمعاتنا تعيش سلسلة لا متناهية من التجارب والاخفاقات والمراجعات والانتكاسات، كانت نتائجها وتأثيراتها مفزعة ، وكان الثمن الذي تكبدته مروِعا.. ويبدوان النُخب المثقفة لا تزال ، في جزء كبير منها ، تجتر وتعبر عن جوهر تلك الاشكالية الفكرية القديمة ولكن بأشكال واساليب اتجاهات جديدة مختلفة .. ولو حاولنا الابتعاد عن التجريد واخذنا نموذجاً تطبيقياً فاننا سنجد حال كثير من النُخب المثقفة في بلادنا اليمن يعش ، بشكل اوبآخر، دوامة تلك الاشكالية التي تتجلى بتعبيرات متجددة ، واذا كان حال النُخب المثقفة في مجتمعات العالم الثالث قد نحى منحىً نقلياً حرفياً للافكار والايديولوجيات في المراحل الماضية فان جزءاً لايستهان به منها في الوقت الراهن نراه يتخذ منحىً انتقائياً يتسم في بعض الاحيان بحالة من الازدواجية والتناقض الفاضح في ثنايا الخطاب السياسي الذي ترفعه.. ففي بلادنا- اليمن – على سبيل المثال ـ شرع الخطاب السياسي للنُخب المثقفة بعد تحقيق الوحدة في 22مايو سنة 1990م بتبني شعار(( الديمقراطية)) تبنياً كاملاً تقريباً مبشراً بها ومؤكداً على تطبيقها ،وكان واضح تماما ان (( الديمقراطية)) التي يعنيها ذلك الخطاب السياسي هي (( الديمقراطية الليبرالية )) بكل ابعادها ومضامينها من تعدد احزاب وحرية صحافة وحرية الاضراب والتظاهر والتعبير وغيرها من الحريات الفردية والعامة ، وهي الديمقراطية التي اعلنتها في اوروبا الطبقة الرأسمالية الناهضة ابان الثورة الصناعية الكبرى .. وفي مفهومها العام الواسع فان الديمقراطية كما يعرفها الجميع تقريبا هئ باختصار (( حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه )) .. الى هنا وخطاب بعض النخب المثقفة يبدو عاديا وطبيعيا ومتسقا مع نفسه وليس لدينا عليه نقاش او اعتراض او مشكلة مثارة . ولكننا نشعربحالة من الدهشة والاستغراب والاستهجان ، عندما نجد بعضاً من النُخب المثقفة التي ترفع شعار الديمقراطية في خطابها السياسي ، تعود فتنقلب على اعقابها- فجأة- وتنبري مبررة او مدافعة او متبنية لبعض الممارسات والمواقف التطبيقية التي لا يختلف عليها اثنان على كونها لا تتفق مع روح الديمقراطية ومضامينها الحقيقية بل تتصادم معها ،  واذا ما كان علينا ان نورد استشهادات واقعية على ذلك فاننا فقط نكتفي بايراد بعض منها :  * فمثلا عندما يُنفِذ عُمال وموظفو مرفق من المرافق اضرابا عن العمل ، وهو حق مشروع ومكفول دستوريا ، وبمقتضى ما يترتب على نهج ديمقراطي ، فاننا نجد بعضا من النخب المثقفة تنبري لتأصيل وتبرير وإسناد وترديد ما يقوله المسئولون من اتهامات وتهديدات للقائمين بالاضراب مثل وصمهم بالخيانة والتخريب والتآمر ، و .. و.. الخ . وهي من بقايا الصيغ الجاهزة التي تستخدمها الأنظمة الديكتاتورية الشمولية القمعية .. * وعندما يكتب احد الكتاب رأياً في صحيفة تقوم عليه الدنيا ولا تقعد ويتعرض لصنوف من الارهاب والقمع والملاحقة والمحاكمة ، ويتم استخدام (( قانون الصحافة )) وملحقاته لوأد الرأ ي والرأي الآخر ، وبعض النُخب المثقفة التي تملأ الساحة ضجيجاً حول الخيار الديمقراطي نراها في مقدمة الصفوف في المطالبة بتضييق الخناق على حرية الرأي والنشر .. الخ . * واما اذا عَقد بعض الناس اجتماعاً اومؤتمراً علنياً ، فان تُهم الطائفية والقبلية والعنصرية والارتباط التآمري بقوى معادية خارجية ، تنهال عليهم من كل حد ب وصوب . * واذا ما قيل بضرورة الأخذ بنظام (( الحكم المحلي )) على مستوى الوحدات الادارية للبلاد وتمكين المواطنين فيها من انتخاب مسئوليهم التنفذيين ، تطالعنا اراء بعض النخب المثقفة وتُجهد نفسها في توضيح ان الناس لايزال مستوى وعيهم محدوداً نظراً لسيادة الجهل وغياب الوعي وان الواقع لا يحتمل ان ينتخب مواطنو مديرية او محافظة مسئولهم التنفيذي (( مدير المديرية ومحافظ المحافظة ))، وان ذلك لو حدث فان البلاد ستتحول الى سلطنات ومشيخات ودول متعددة ! كل هذا يقوله بعض النُخب المثقفة في لحظة لاتزال اصداء خطابها السياسي السابق تردد في الآفاق حول حكم الشعب وارادة الشعب واختياره الحر وضرورة الاحتكام الى راي الشعب ! وفوق هذا وذاك فان الشعب عندما يُطلب منه ان يَنتخب سلطات الدولة العليا يكون الخطاب السياسي مشحوناً بالتاكيدات اليقينية ان الشعب بكامل وعيه وقواه العقلية وانه في ذروة الوعي وقمة القدرة على حسن الاختيار ، اما اذا تعلق الامر بانتخابات على مستوى ادنى غاب وعي الشعب وفقد قدرته على حسن الاختيار !! وهذا لايعني اعلان موقفي من هذا الاسلوب او ذاك ، ولكنه فقط مثال لتناقض وازدواجية خطاب بعض الصفوة السياسي .. فما هئ الحكاية اذن ؟ وهل الخلل في طبيعة المنهج ام في شخصية الصفوة ؟ ومن وجهة نظري فان ثمة خللاً عاماً ومركباً تتداخل فيه عوامل واعتبارات شتى.. * فمن ناحية ، الجميع يدرك ان الديمقراطية نظاما او منظومة متكاملة وشاملة من الافكار والقيم والسلوكيات والنظم والمؤسسات ..الخ وعندما نتفق جميعا على الاخذ بالخيار الديمقراطي فلا بد ان ناخذه كاملا بعيدا عن المزاج والهوى الانتقائي، او نقول ان ظروفنا واوضاعنا ومرحلة تطورنا التاريخي ليست مؤهلة بعد للأخذ بالخيار الديمقراطي ، ونبحث عن شي آخر، اما اللجوء الى الاسلوب الانتقائي فانه لا يعبر الا عن روح انتهازية غير بناءة. * وقد اتفق مع بعض اطروحات بعض تلك النُخب ان طبيعة واقعنا وظروفنا الموضوعية ، لا توفر القاعدة المادية الموضوعية لتطبيق الخيار الديمقراطي، شريطة ان يكون موقفنا واضحا ومعلنا، ونطالب بالشروع في صياغة نظام يحقق القدر المطلوب من الحريات العامة والاساسية للفرد والمجتمع يتفق مع ظروفنا الموضوعية ومرحلة تطورنا التاريخي ، وعلى سبيل المثال فان احداً لا يستطيع ان يقطع جازماً بان الانتخابات العامة اتت بالافراز الافضل ، بل على العكس اتت بالافراز الاسوأ في بعض جوانبها ، كما ان التعيين والاختيار قد يأتي بالأفضل او الاسوأ تبعاً لمعايير وشروط الاختيار او التعيين وتَوفُر الضمير اليقظ لسلامته.. المهم هو ان نحاول الابتعاد عن اجواء المزايدة وانعدام المصداقية في اصدار احكامنا على الاشياء والوقائع . * واخيراً فان الديمقراطية بمفهومها المتكامل وحتى تصبح نظام حياة للفرد والمجتمع، فانها ستظل شعاراً مزيفاً تتخفى وراءه ابشع ممارسات الديكتاتورية والقمع والاستبداد ، ما لم ندرك ونعي تمام الوعي انه بدون اقامة مؤسسات دولة حقيقية مثل استقلال القضاء ونزاهته ، وسيادة القانون والنظام ، وبسط الامن والاستقرار، و الفصل بين السلطات ، وصَون الحقوق وتاكيد المشروعية، بدون ذلك فان الحديث والضجيج حول شعار الديمقراطية يصبح هُراء يذهب مع الريح، وليس له على ارض الواقع والممارسة العملية التطبيقية من نصيب . 

موضوعات ذات صلة