الحكم المحلي .. والخيانات العظمى ! )صحيفة الشورى)

منذ ان طُرحت فكرة تطبيق نظام ((الحكم المحلي )) في بلادنا ، عقب اقامة دولة الوحدة اليمنية الواحدة للوطن اليمني الواحد في 22 مايو 1990م ، والساحة السياسية تشهد نقاشات وحوارات ساخنة ومتواصلة ، بعضها عبر نفسه من خلال الكتابات الصحفية ، ومعظمها انحصر داخل الجلسات الخاصة (( والمقايل )) المنتشرة في كل مكان من مدننا الرئيسية ، مما يدل على الأهمية والحيوية البالغة للفكرة موضوع النقاش بصرف النظر عن حقيقة تباين وتناقض الرؤى  والتصورات والاتجاهات ازاء مسألة (( الحكم المحلي )) بين مؤيد متحمس ، ورافض متعصب  وموافق وسطي بينهما .. واحتدام النقاش والحوار وتأججه يعد ظاهرة صحية تعبر عن الحيوية والخصوبة في الفكر . رغم ان بعض الاخوة غالى كثيرا في محاججته لبيان فساد الفكره وذهب الى حد اتهام المؤيدين لنظام (( الحكم المحلي )) بالخيانة العظمى ، والارتباط بدوائر اجنبية معادية تستهدف الشعب والوطن اليمني برمته ! وشطح البعض الآخر موكداً ان (( الحكم المحلي)) سيقود الى تقسيم وتمزيق البلاد الى دويلات وسلطنات ومشيخات .. الخ ! والواقع انه اذا نحن استثنينا قلة من اصحاب تلك المواقف المغالية والشطحات غير العقلانية وغير الواقعية ممن يعبرون عن موقفهم الرافض بالمطلق لنظام (( الحكم المحلي)) استناداً الى اهداف ومصالح وارتباطات خاصة بهم ، فانه لابد من الاعتراف بان قدراً من التخوف والشكوك حول صلاحية الحكم المحلي وملاءمته لظروف كظروف بلادنا ، بات يسيطر ويتحكم بعدد لا يستهان به من الشخصيات العامة  والرسمية ممن لاترتبط مواقفهم ازاء هذه المسألة بارتباطات واهداف ومصالح خاصة ، وربما استطاع ذلك البعض الشاطح والمغالي في رفضه للفكرة ان يمتد بتأثيراته على هؤلاء بشكل او بآخر .. ولعل السبب الرئيسي لمثل تلك الحالات يرجع – في اعتقادي – الى ما يثيره المنطوق والمدلول اللفظي لكلمة (( حكم )) من غموض ولبس وتداخل في المعاني والغايات ، وأكاد اجزم يقيناً انه لو كنا استبدلنا كلمة (( الحكم المحلي )) بكلمة اخرى مثل (( مجالس البلديات)) او (( الادارة المحلية )) حتى مع بقاء مضمون وصلاحيات وطبيعة نظام (( الحكم المحلي )) على ما هي عليه بالكامل ، لما ثار جدل ولا استعر نقاش ولما رمى البعض الآخرين بتهم الخيانة بمختلف مستوياتها واشكالها ، ولكان الامر كله قد سار بشكل طبيعي وهادىء .. على انه ، وفي سبيل تحري المزيد من الدقة والموضوعية ، ينبغي علينا ان نشير الى ان طبيعة المدلول اللفظي لكلمة (( الحكم المحلي )) لم تكن هي السبب الوحيد لاثارة تلك الزوبعة التي لاتزال مثارة حول قضية الحكم المحلي ، بل ان هناك اسباباً اخرى لعل من ابرزها طرح فكرة الحكم المحلي مقترنة بمبدأ قيام المجالس المحلية بانتخاب المحافظين ومدراء المديريات ، وهو امر وجده غلاة الرافضين لنظام الحكم المحلي مما يعزز اطروحاتهم غير الواقعية بالمخاطر المهلكة للحكم المحلي على مصير الوطن ومستقبله ! ان الضرورة الوطنية ، ازاء كل ذلك ، باتت تحتم علينا اجراء مناقسة هادئة وموضوعية حول قضية (( الحكم المحلي )) في بلادنا باقصى قدر مستطاع من التجرد والشعور بالمسؤلية للخروج بتصورات ايجابية ومعقولة حولها لا تكون محل خلاف واسع وتباين عميق . وبادئ  ذي بدء نجد لزاماً التاكيد على حقيقة رئيسية تشير الى ان اتجاه شعوب ومجتمعات ونظم العالم الثالث خاصة نحو: * التخفيف والحد من سطوة نظم الادارة شديدة المركزية ، وما يترتب عليها من فساد وعجز وبيروقراطية معرقلة ومحبطة . * توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في تحمل أعباء تطبيق نظم (( الادارة او الحكم المحلي )) انما يستهدف ضمن ما يستهدف تحقيق اهداف رئيسية من اهمها :  * مسئوليات العمل الوطني بمختلف مجالاته ، بدءا بمستوى الوحدات الادارية للدولة ، وتعويده على ممارسة حقوقه في حكم نفسه بنفسه ، وممارسة الرقابة والمحاسبة على اعمال الاجهزة التنفيذية وتقويم ادائها .. * تلبية الاحتياجات الاساسية والملحة للمجتمعات المحلية ،وفقا لما يشعر به ويحسه أبناء ذلك المجتمع المحلي نفسه ، وضمان الرقابة الشعبية الفعالة لسلامة تنفيذ واقامة تلك المشاريع بعيداً عن العبث والفساد واهدار المال العام . ومن البديهي والحال هذه ان نظام الحكم المحلي جزء لا يتجزأ من النظام العام للدولة يرتبط به ارتباطا وثيقا من خلال التزامه بالتشريعات والقوانين النافذة في البلاد ، وهو محصور في مجالات الخدمات والتنمية المحلية ولايتعداه الى المجالات السيادية الوطنية ، وعلى نحو اكثر وضوحا فليس من شأن مجالس الحكم المحلي ان تخوض في المسائل الدفاعية والامنية والمالية والتعليم والخارجية ، فتلك مسائل وطنية سيادية تقررها الدولة ، تنفذ سياساتها المجالس المحلية على مستوى وحداتها الادارية . وعلى هذا الاساس يتضح امامنا جلياً عدم وجاهة الزوبعة المثارة ضد نظام الحكم المحلي ، حيث ان الحكم المحلي وفقاً لطبيعته المشار اليها يعتبر- بحق-  حاجة ملحة وضرورية من اجل الوطن ومصالح المواطنين ، ومما لا شك فيه انه الوسيلة الفعالة المثلى للتغلب على العديد من الازمات والاختلالات والارباكات التي تعاني منها اوضاعنا العامة في شتى المجالات .. ومع ذلك فاننا نعتقد ان مسألة تطبيق ((نظام الحكم المحلي )) في بلادنا ،ربما يكون من المحقق للمصلحة العامة ان تسير وفقا لخطوات ثابتة متدرجة ومدروسة تكفل لها النجاح في تحقيق الغايات النبيلة المرجوة منها. وفي هذا الصدد نؤكد ان الجوهر الحقيقي لنظام ((الحكم المحلي ))هو تاكيد دور وسلطة المجالس المحلية  المنتخبة على مستوى الوحدات الادارية فوق دور وسلطة الاجهزة التنفيذية.. وذلك يعني منح الشعب مسئولية الرقابة والاشراف والتوجيه والمحاسبة دائما ، وذلك هو جوهر الديمقراطية وغايتها النهائية ، واذا ما تم الاتفاق على هذا المبدأ فان الطريقة التي سيأتي عبرها المحافظون ومدراء المديريات لن تكون ذات اهمية كبرى سواء عبر التعيين او عبر الانتخاب .. بيد انني اعتقد انه اثناء المراحل التطبيقية الاولى لنظام الحكم المحلي ، فان مجيء المحافظين ومدراء المديريات عبر قرار تعيين من السلطات العليا للدولة سيكون افضل بكثير من مجيئهم عبر انتخابات المجالس المحلية المنتخبة رقابة واشرافاً وتوجيهاً ومحاسبة . ولعله من المحقق للتوازن الايجابي الفعال ان ينص القانون على حق المجالس المحلية المنتخبة في ان تطلب باغلبية ثلثي اعضائها من السلطات العليا تغيير المحافظ او مدير الناحية وترفق بطلبها شرحاً للاسباب والمبررات الداعية لذلك الطلب .. والواقع ان قيام (( الحكم المحلي )) على مثل هذه الاسس يحقق توازنا فعالا بين السلطات المركزية والسلطات المحلية ، وتُرشد من ادائهما ، فالسلطات المركزية سوف تجد نفسها ملزمة بان تختار محافظين ومدراء نواحي اختيارا سليماً يراعي معايير الكفاءة والقدرة والنزاهة والشعور بالمسؤلية ، اضافة الى شعور هؤلاء بان عليهم ضرورة العمل الصادق والجاد لكسب ثقة المواطنين ومجالسهم المحلية المنتخبة وإلا تعرضوا للعزل ، كما ان المجالس المحلية المنتخبة ستشعر بان وجودها وجود فعال وليس شكلي او صوري من خلال السلطات الممنوحة لها في الرقابة والاشراف والتوجيه والمحاسبة … الخ . وذلك كله ، ضمن سياق الديمقراطية الوليدة في بلادنا ، يعد بمثابة محكات عملية تطبيقية ومدارس يتعلم فيها الجميع ، حكاماً واحزاباً ومواطنين ، اساليب ممارسة الحياة الديمقراطية وجعلها اساساً يحكم ويضبط كافة سلوكياتهم وحركتهم اليومية في الحياة ، وصولا الى تمثيل مبادئ وقيم ومثل الديمقراطية وجعلها جزءا لا يتجزأ من نظام حياتهم في العمل العام وفي المنزل وفي الوظيفة وفي الشارع وفي العلاقات الاجتماعية .. وبذلك نتجنب مزالق الشطط والغلو في احكامنا على بعضنا ، ونبتعد عن تسليط اسواط الاتهامات الفظيعة ضد مخالفينا في الرأي . والله الموافق

موضوعات ذات صلة