إن ما حدث في ساحة التغيير في العاصمة صنعاء بعد وصول (مسيرة الحياة) المنطلقة من ساحة (الحرية) بتعز إلى صنعاء بعد مسيرة راجلة استغرقت خمسة أيام متواصلة وما تلا ذلك من اشتباكات ومنازعات وصدامات مؤسفة، وما تخلل أشهر الثورة الأحد عشر الماضية من أحداث مماثلة في بعض الأحيان، يعد أمراً بالغ الخطورة على واقع الثورة الشعبية العظيمة ومسارها ومستقبلها، ويسيء إليها ويشوه صورتها الجميلة ويؤثرسلباً على قوة اندفاعها على طريق تحقيق أهدافها، ويبدو أن تلك الأحداث المؤسفة وما سبقها، وبحسب ما وصلنا من معلومات، ناتجة عن إصرار العناصر الحزبية المحسوبة على التجمع اليمني للإصلاح وتشبثهم بغرض سيطرتهم الأحادية وهيمنتهم على منصة وإدارة الساحة والتعامل مع سائر التكتلات والمكونات والقوى المشاركة في الثورة كتابع وملحق بها، وتهميش دورها وكبت صوتها وتبهيت مشاركاتها، والإستقواء عليها بالإستعانة بجنود مسلحين تابعين للقوى العسكرية التي أعلنت تأييدها السلمي للثورة الشعبية السلمية. وعلى الرغم من أن الجميع يعرف ويعترف للتجمع اليمني للإصلاح بأنه أكبر وأقوى الأحزاب السياسية في الساحة بدون منازع وأكثرها تنظيماً وفاعلية وتأثيراً، وأنه لعب دوراً بارزاً ومهماً في مسيرة الثورة وتصاعد وتائرها، وخاصة بالنظر إلى أن كل المساعدات والدعم المالي المقدمة من جهات محلية وخارجية، تقريباً، تأتي عبره ومن خلاله وبنظره، إلا أن مما لا شك فيه كون تلك الأحداث والمواجهات في صفوف ومكونات الثوار تلحق أضراراً لا يستهان بها بمسيرة الثورة ومستقبلها في فترة تعد الأكثر دقة وحساسية في مسيرة الثورة، وتؤثرسلباً في قدرتها على تسريع تحقيق أهدافها المحددة، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنها تطرح جملة من علامات الاستفهام والهواجس والشكوك الجدية حول مدى مصداقية والتزام القوى والحركات ذات المرجعيات الدينية الإسلامية، وعلى رأسها وفي المقدمة منها تجمع الإصلاح، بالقبول بالديمقراطية والتعددية الحزبية والقبول بالآخرين والتعايش معهم وحق الجميع في التعبيرعن آرائهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية وحرية الحركة والتنظيم دون قيود أو ترهيب، وما قد يترتب على ذلك من آثار ونتائج خطيرة في ضرب التجربة الديمقراطية الوليدة والالتفاف عليها ومصادرتها لصالح العودة إلى النظم الشمولية الأحادية الديكتاتورية، ويتساءل الكثيرون، ولهم الحق أن يتساءلوا، إذا كانت تلك الأحداث والممارسات تجري في وقت لم يسيطروا فيه بالكامل على الحُكم فكيف سيكون الحال إذا أصبحوا حُكاماً؟! إن محاولات البعض لتصوير ما حدث على أنه مُوجَه ضد مجاميع (حوثية) وهو تصوير يجانب الواقع والحقيقة، فإن ذلك لا يعطي مبرراً مشروعاً لتلك الأحداث والمواجهات، فحتى لو افترضنا، جدلاً، أن مسيرة الحياة كانت حوثية، وهو أمرغير صحيح، أوَلا يستحق ذلك أن يُعبرالجميع لهم عن مشاعرالامتنان والشكر، ثم إذا كانت المواجهات كانت مع الحوثيين في الساحة، فهل التصادم معهم ومواجهتهم واجب ثوري لازم رغم كونهم مكوناً من مكونات الثورة وقواها؟. والواقع أن الاشتباكات والمواجهات بدأت، حسب ما تؤكد المعلومات، مع (ناصريين) من المشاركين في مسيرة الحياة، امتدت بعد ذلك لتشمل آخرين غيرهم أرادوا تمكينهم من ممارسة حقهم في التعبيرالإعلامي عن أنفسهم وأهدافهم من على منبر المنصة المحتكر من قبل مكون واحد من مكونات الثورة وهو التجمع اليمني للإصلاح، ذلك أن التعدد والتنوع مما يقوى الثورة ويثريها وليس مما يضعفها أو يهددها. ويعلمنا التاريخ الإنساني، بمختلف مراحله، بأن الثورات الكبرى التي أحدثت تغييراً جذرياً شاملاً لواقع حياتها وأثٌرت عميقاً على مسار التاريخ، كانت جميعها وبدون استثناء، معبرة عن شعوبها بمختلف قواه وفئاته وشرائحه، وضمت في صفوفها كافة القوى والفئات والحركات السياسية والاجتماعية الملتفة والمتحالفة حول هدف استراتيجي واحد يعبر عن مصلحتها المشتركة رغم ما بينها من خلافات وتباينات وتصادم مصالح خاصة لكل منها على حدة، وهو هدف تغيير وتصفية الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي القائم بهياكله ومؤسساته ومنظوماته وقيمه وثقافته.. الخ. وتنتصر الثورة، دائماً، بمدى توحد كل قواها ومكوناتها وحركاتها وفئاتها حول هدف الثورة الاستراتيجي الجامع لها كلها والمُعبر عن مصلحتها المشتركة، وبعد انتصار الثورة، ومع تحولها من شرعية الثورة إلى شرعية الدولة تبدأ عملية الفرز والغربلة لكل القوى والمكونات المشاركة في الثورة ،حيث تؤكد القوى والمكونات الأكثر تقدمية وفاعلية وتطلعاً سيطرتها، وتُزاح تلك الغير قادرة على مواكبة آفاق التطورالشامل المنشود بالوسائل والأساليب السائدة في مرحلتها التاريخية وزمانها ومستوى رقيها، وغالباً ما كانت تتسم بالعنف والدموية في الماضي.. أما اليوم وفي زماننا وعصرنا الراهن فإن الفرزوالغربلة والفرض والإزاحة للقوى والحركات والمكونات المختلفة للثورة عبر العملية الديمقراطية والانتخابات النزيهة والتداول السلمي للسلطة.. ولهذا تأتي ثورة تنشب الصراعات والانشقاقات والتمزق في صفوفها أثناء مراحل مسيرة فعلها الثوري كان مصيرها السقوط والفشل والانتكاس. وبناءً على هذه الرؤية فإن على جميع أحزاب وقوى ومكونات ثورتنا الشعبية العظيمة أن تعي وتدرك تمام الإدراك بأن انتصارالثورة النهائي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تلاحم ووحدة صفوفها حول هدفها الاستراتيجي المتمثل بالتغييرالجذري والشامل لواقع البلاد بالغ السوء والتخلف والانهيار، وأن لا صوت يجب أن يعلو على صوت ذلك الهدف، وإذا كانت جميعها تتحمل المسؤولية الوطنية التاريخية في ضمان انتصار الثورة فإن التجمع اليمني للإصلاح يتحمل، على وجه الخصوص، القدرالأكبر من المسؤولية في ذلك لأنه الأكبر والأقوى وجوداً وتأثيراً، ولأنه صاحب المصلحة الأكبر في العمل على إطفاء ووأد كل أسباب وبواعث الصراع والانقسام باعتباره، وفقاً لرؤى وتقديرات الكثيرين، هو الأوفر حظاً في الوصول إلى السلطة عبر الديمقراطية بعد انتصار الثورة والتحول إلى الشرعية الدستورية. وفي حالة إصرار الإصلاح وتشبثه بفرض سيطرته وهيمنته الأحادية، على سائر أحزاب وقوى وحركات ومكونات الثورة في مختلف ساحاتها، سواء عبر استغلال وتوظيف وحدات عسكرية من الجيش الذي أعلن تأييده للثورة الشعبية السلمية وحمايتها.. أو من خلال احتكاره لمصادرالدعم والتمويل المالي القادمة عبره.. فإنه يرتكب خطاءاً سياسياً كبيراً سيؤثر سلباً على قوته ومكانته ودوره وتأثيره، إذ سيدفع كثيراً من أحزاب وقوى ومكونات الثورة إلى إقامة تحالف فيما بينها لمواجهته وسيؤلبها ضده ولو من قبيل ردة الفعل للحفاظ وحماية ذاتها ووجودها كإجراء حتمي وطبيعي. إن التركة التي سترثها الثورة بعد سقوط السلطة الحاكمة الفاسدة جد هائلة ومهولة، والتحديات التي ستواجهها بلادنا بالغة الخطورة، تفوق قدرة حزب واحد بعينه، مهما كان حجمه وقوته على مجابهتها ومعالجتها، مما يستدعي ضرورة تضافر وتعاون كل قوى وأحزاب ومكونات الثورة، بدون استثناء أو إقصاء عبر إطار سياسي ائتلافي وطني واسع يقود مرحلة ما بعد انتصار الثورة استناداً إلى صيغة ديمقراطية توافقية بناءة تشرك الجميع في العمل الوطني ولا يستبعد أحداً أو تهمشه. فالثورة أكبر وأعظم من قدرة حزب لمفرده أن يحتويها أو يحتكر تمثيلها والتعبير عنها، وليُعبر الجميع، دون استثناء، عن آرائهم ورؤاهم واجتهاداتهم بكل حرية وبدون قيود، ولنلتزم جميعاً بالنضال السلمي الديمقراطي بعيداً عن العنف والإرهاب والإكراه، فالثورة ثورة الجميع وبالجميع من أجل الجميع. والشعب هو المرجع والحكم بإرادته الحرة والنزيهة. شيفلد – بريطانيا 28-12-2011