الانتخابات المصرية وانعكاساتها على ثورات الربيعالعربي صحيفة الوسط

“مصر” .. “مصري”، أرض وإنسان.. جغرافيا وتاريخ تفاعلا معاً وتضافرا على نحو عبقري ليصنعا ويُشيدا أعظم حضارة في التاريخ الإنساني لا تزال تبهرالدنيا وتشد انتباهها وإعجابها حتى اليوم، رغم إيغالها في القدم الزمني السحيق. إنسان ظل منذ أكثر من سبعة آلاف عام شديد الارتباط على نحوعضوي ومتواصل بدولته ذات الوظائف السياسية والزراعية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ارتباط فرضته الطبيعة المنبسطة لأرضها الممتدة والمترامية التي فرض وحدتها الأبدية  “نهر النيل ” الخالد العابر منذ الأزل لأرضها من أقصاها إلى أقصاها. مصر، الإنسان والأرض هذه كانت عبر مختلف مراحل التاريخ، ولا تزال، برغم تعثرات هنا وانكفاءات مؤقتة هناك، القوة الرائدة والقائدة والمعطاءة لمنطقتها وبلدان محيطها الإقليمي الممتد من تخوم شبه القارة الهندية وآسيا الوسطى مروراً بالوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وممتداً إلى الحوض الشمالي للبحرالأبيض المتوسط، متحكمة بمساراتها وتفاعلاتها وتطوراتها، ومؤثرة في أوضاعها ومواقفها، أي بعبارة أخرى كيفما تكون مصر تكون بلدان ومجتمعات محيطها الإقليمي الواسع، إيجاباً أو سلباً، وكانت دائماً من المناعة والصلابة، بحيث تتحطم على عتباتها وتخومها القوى الغازية والطامعة في السيطرة والهيمنة، وترتدعنها منكسرة خائبة منهزمة. وخلال مرحلة تاريخ المنطقة المعاصر، وتحديداً في فترة خمسينيات القرن العشرين المنصرم وحتى سبعينياته أو ثمانينياته، وهي فترة صعود ثورات التحررالوطني والمد القومي الثوري الذي شهدته منطقتنا العربية والمنطلق -أساسا- من مصر ممتداً في أرجاء الوطن العربي بقيادته الأبرزممثلة بالزعيم التاريخي جمال عبدالناصر وانتكاسته وانحساره اللاحق، كانت مصرهي الرائدة والقائدة والمؤثرة بعمق في محيطها القومي في الحالين ، حال الصعود والمد القومي الثوري، وحال نكسته وانحساره وتواريه عن الساحة منذ سقوط مشروعه الرائد في مصر، إلى أن عاودت الشعوب العربية انتفاضتها وثوراتها الشعبية السلمية العارمة، بدءاً بتونس تلتها مصر واليمن وليبيا إضافة إلى إرهاصات وتململات وتوثبات هنا وهناك على امتداد رقعة الوطن العربي الكبير بدوله وشعوبه في وقت زمني واحد بدأ خلال شهر ينايرعام 2011م وإن استمرت الثورة لأكثر من عام ونيف في بعض الدول العربية، فيما اتفق على تسميته ( ثورات الربيع العربي ) التي بدت فيه ثورة الشعب المصري متميزة في جموعها وقوتها ووعيها ووضوح رؤيتها وثبات موقفها وإصرارها وعزمها الذي لا يلين لإسقاط النظام الحاكم، وأيضا الموقف المبدئي الحاسم للمؤسسة العسكرية الوطنية التي رفضت الامتثال لطلبات رأس النظام ورموز حكمه بمواجهة ثورة الشعب وقمعها وانحيازها إلى صف الشعب وحماية ثورته العادلة، وأضافت ثورة مصرسمة بارزة تمثلت بسرعة وقوة ردود الفعل الشعبية في مواجهة المخاطر والتحديات المهددة للثورة، فكلما أفرطت قوات أمن النظام أو بلاطجته في قمع الثورة بالقوة والعنف، ترد الجماهير فوراً بالتدفق الفوري لجموع شعبية أكبر وأوسع، وتمكنت الثورة من إسقاط رأس النظام ومساعديه وأركان حكمه ورموزه الفاسدة وفرضت إرادتها بإحالتهم للمحاكمة والحساب، لم يكن للقوى والأحزاب السياسية التقليدية القائمة، سواء بصفة معلنة مرخص لها قانوناً أم بصورة واقعية عملية غير معلنة ولا مصرح لها، أي دور يُذكر في التخطيط والإعداد للثورة وتفجيرها في مرحلتها الأولى، وإنما التحقت بها لاحقاً وشاركت في أحداثها وفاعلياتها ومساراتها عبر قطاعاتها الشابة أولا ثم بالانخراط الفعلي في خضمها بعد ذلك مباشرة، بمختلف اتجاهاتها ومشاربها الفكرية والسياسية يسارية وليبرالية وقومية ووطنية وإسلامية وعلى رأسها وأهمها  (جماعة الإخوان المسلمين) الذين لعبوا دوراً مهماً ومؤثرا في تصاعد فعاليات الثورة ورفدها بجموع متزايدة من أعضائها وأنصارها ودعمها ماديا ولوجستيا، وبالأخص، نقل خبراتها وتجاربها المتراكمة الطويلة في التنظيم والحشد والتعبئة ومواجهة أساليب ووسائل القمع التي تتبعها أجهزة أمن النظام ومليشياته الاحتياطية.. الخ، وخلال ذلك انضوت كل تلك القوى والأحزاب السياسية التقليدية في إطار ضمني يمكن تعريفه على أنه إطار القوى والأحزاب والشخصيات المؤيدة للثورة والمناصرة لها، بنوع من التفاهم والتنسيق المحدود مع شباب الثورة من خلال تكتلاته وائتلافاته التي تكونت على عجل تحت هديرالثورة وتسارع إيقاعاتها وتصاعداتها المتلاحقة، وتولت تلك القوى والأحزاب مهمة إدارة الاتصالات والحوارات والتفاهمات السياسية الهادفة إلى إنجاز قدرمن الاستجابة لمطالب الثورة وأهدافها المعلنة، والاتفاق على مرحلة انتقالية محددة زمناً ومهاماً لإعادة إنشاء وبناء مؤسسات الدولة البديلة للنظام القائم الذي أسقطته الثورة، وبشكل يكون أكثر تعبيراً وانسجاماً مع معطيات الثورة ونتائجها وأهدافها، ورغم حقيقة كون معظم قيادات تلك القوى والأحزاب السياسية التقليدية ظلت مضطربة ومتخبطة وعدم قدرتها السريعة على تكوين رؤية واضحة ومحددة لتشخيص وتحديد معالم الوضع الجديد الناشئ بفعل الثورة وقتها وكيفية التعامل مع معطياته وآثاره ونتائجه إلا أن البعض منها، وخاصة ( تنظيم الإخوان المسلمين) الأكثر قوة والأدق تنظيماً والأوسع شعبية والأوفر مادياً كانت لديه رؤية واضحة ومحددة إزاء الوضع الجديد، تقوم على (تجميد) الثورة وإيقاف حركة تصاعدها دون إنهائها وتصفيتها، تجميدها خوفاً من انفلات زمامها وخروجها عن السيطرة وتوظيف وتجييرمعطياتها ونتائجها سياسياً بما يحقق مصالح وحسابات وأهداف الجماعة، والحرص على عدم تصفيتها وإنهائها وإبقائها في حالة الكمون والترقب يجعلها جاهزة للتحريك والتنشيط مجدداً كقوة هائلة في حالة احتياج الجماعة إلى استخدامها كوسيلة ضغط سياسي وشعبي لفرض رؤيتها وحساباتها ومصالحها السياسية التكتيكية والاستراتيجية.. وهكذا سارت الأمور، سياسياً، في التوافق على تولي ” المجلس العسكري الأعلى” للقوات المسلحة مهام الحكم لفترة انتقالية محددة الزمن والمهام، وبموجب “إعلان دستوري” اُتفق عليه لتنظيم مهام وسلطات وإجراءات المرحلة الانتقالية التي تنتهي بتسليم السلطة لرئيس جمهورية جديد منتخب تسبقه انتخابات تشريعية لانتخاب مجلسي البرلمان (الشعب والشورى) وتشكيل حكومة انتقالية لذات الفترة الزمنية الانتقالية. وكان واضحاً تماماً بأن كل هذه الترتيبات والأوضاع (الانتقالية)، التي لعب تنظيم ( الإخوان المسلمين) دوراً رئيسياً في التوافق عليها وإنفاذها مع سائرالقوى والأحزاب السياسية التقليدية الأخرى، وإن لم يصدرعن قوى وتكتلات شباب الثورة موقفاً حاسماً بقبولها أو رفضها، رغم إصرار بعضها على استمرار فعل الثورة حتى إستكمال كامل مطالب وأهداف الثورة والإسقاط النهائي والكامل للنظام السابق ومحاكمة رموزه وكبار قادته ومسئوليه، قلنا إنه كان واضحاً بأن كل تلك الترتيبات الانتقالية، المتفق عليها، تخدم تماماً رؤية واستراتيجية “الإخوان المسلمين” في الوصول إلى إحكام سيطرته على مؤسسات وسلطات الدولة الجديدة، بحسب رؤية وتقييم وقناعة قيادته، التي تشعر باطمئنان يقيني بأن التنظيم باعتباره أقوى قوة أو حزباً سياسياً في البلاد وأكثرها انضباطا تنظيميا وتأثيراً شعبياً ومقدرة مالية والأقدرعلى التعبئة والتحشيد الجماهيري المليوني وراءه دعماً وتأييداً بالمطلق، فإن خوض الانتخابات، سواء منها البرلمانية أو المحلية أو النقابية أو الرئاسية، ستكون لصالحه بنسبة كاسحة، شريطة تجميد وإيقاف حركة الثورة وتصاعد وتائرها وآفاقها وصولا بها إلى مرحلة الحسم الثوري النهائي والشامل ، ولم يتوان (الإخوان المسلمون) لحظة، من خلال تصريحات قادته وخطابه السياسي والإعلامي، من كيل الوعود والتعهدات المؤكدةعلى أنه لا يسعى ولا يهدف إلى إحكام سيطرته الأحادية على مؤسسات الدولة الجديدة وإنما سيعمل بروح الشراكة بينه وبين قوى وأحزاب الثورة ولن يُقصي أحداً بصرف النظرعن إمكانية حصوله على الأغلبية في الانتخابات، متعهداً، على وجه الخصوص بعدم طرح مرشح يمثله في الانتخابات الرئاسية القادمة، ولا الإستئثار بالحكومة الجديدة عقب انتهاء المرحلة الانتقالية، أو بالهيئة الوطنية لصياغة الدستورالجديد..الخ. غيرأن أياً من هذه (الوعود) و(التعهدات) التي أفرط ( الإخوان) في الإعلان المتكررعنها ذهبت أدراج الرياح وتم نقضها، حيث تابع الرأي العام المصري، مشدوهاً ومدهوشاً، كيف استحوذ الإخوان على رئاسة وهيئات ولجان مجلسي الشعب والشورى، وكيف سمُوا مرشحين اثنين، أحدهما احتياطي في حالة أن يحاط بالمرشح الأصلي، لانتخاب الرئاسة، ومن قبل هذا استحواذهم على غالبية قوام الهيئة الوطنية للدستور بأسلوب أدى إلى إعلان انسحاب الكثير من ممثلي القوى والأحزاب السياسية والمدنية والأهم منها جميعا ممثلو ( الأزهر الشريف ) وممثلو ( أقباط مصر).. الخ من عضويتها احتجاجاً على استحواذ (الإخوان) عليها وبالتالي التحكم بصياغة مواد ومضامين الدستورالجديد، وتعمدوا إثارة (أزمات) مفتعلة عبر البرلمان لإسقاط الحكومة الانتقالية رغم عدم أحقيتهم في ذلك دستورياً، وسيروا مظاهرات إلى مبنى (مجلس الوزراء) وصعدوا الخلاف مع ( المجلس العسكري) الحاكم انتقالياً، مطالبين سرعة تسليمهم للسلطة رغم قرب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وغضوا النظرعن مسيرات الشغب في ميدان العباسية للزحف على وزارة الدفاع واقتحامها دون موجب أو مسوغ مقبول أبداً، مما تسبب في إزهاق أرواح وسفك دماء والدفع بالبلاد نحو هاوية الاضطراب والفوضى وزعزعة الأمن والاستقرار. لولا الشعورالعالي بالمسئولية وضبط النفس وتحمل المعاناة التي اتسم بها ( المجلس العسكري) الحاكم -انتقاليا- مؤكداً حرصه الكامل على مصالح البلاد والعباد، عبر التزامه الدقيق ووفائه الكامل بمسئولياته ومهامه الدستورية المتفق عليها وبناء على الجداول الزمنية المحددة لكل منها على حدة، لتنتهي بتسليمه السلطة لرئيس منتخب في الموعد المحدد تماما. وفي ظل هذه الأجواء والمناخات المشار إليها آنفا جرت (الانتخابات الرئاسية) في موعدها المحدد، وكانت تقديرات الإخوان المسلمين وواجهته السياسية (حزب العدالة والتنمية) وعلى لسان الدكتور محمد مرسي مرشحهم في تلك الانتخابات في إحدى المقابلات التلفزيونية، إنه سيحسمها من الجولة الأولى وبنسبة لا تقل عن 60% من أصوات الناخبين. وهنا تجلت بأنصع الصور وأوضحها، عبقرية وعظمة الشعب المصري وامتلاكه لمستوى رفيع جداً من الفهم والوعي والإدراك لدوره ومسئوليته الوطنية، ليقلب كل التكهنات والتوقعات والتحليلات رأساً على عقب، مُلقناً ومُعلماً ومُربياً قيادات القوى والأحزاب والمنظمات والأفراد والمؤسسات جملة من الدروس والقيم والعبرالبليغة والصائبة، بأنه وحده أي الشعب، صاحب الرؤية الأصوب والإرادة الأنفذ، والحُكم الأعدل، والقرارالمنزه عن الهوى والغرض الآني الزائل، وجاءت نتائج الجولة الأولى للانتخابات مشحونة بالدلالات والمغازي العميقة وذلك: أولا: أن نسبة المشاركة في الانتخابات كانت في حدود 50% أي النصف من عدد الناخبين المسجلين في جداول الانتخابات الرسمية. ثانيا: أن مرشح الإخوان المسلمين حصل على نسبة لا تتعدى الـ24.90% أي ربع عدد المشاركين في الانتخابات. ثالثا: أن المرشح (المستقل) أحمد شفيق، المحسوب على النظام السابق، حصل على نسبة لا تقل عن النسبة التي حصل عليها مرشح ( الإخوان ) إلا بعدد بسيط من الأصوات وتكاد تتساوى مع ذات النسبة السابقة. رابعا: أن المرشح الناصري حمدين صبٌاحي المنتمي إلى حزب صغيرجداً وشبه المعدم مالياً، كان مفاجأة الانتخابات الاستراتيجية بحصوله على نسبة 21.1% من جملة أصوات المشاركين. خامسا: يلي المرشحين الثلاثة: الأول المرشح عبدالمنعم أبو الفتوح بنسبة 18% وعمروموسى بنسبة 11.5%. واقتضت النتائج بإجراء جولة ثانية للانتخابات. ومن بالغ الأهمية أن نقرأ من خلال تلك النتائج أهم الدروس والعِبرْ المستخلصة التي أراد الشعب المصري أن يؤكدها ويرسخها للجميع، أفراداً وأحزاباً ومنظمات ومؤسسات؟ وبها ومن خلالها نستطيع أن نحدد أهمها وأبرزها على النحو التالي: 1)   أن الشعب لا يقبل، على الإطلاق، بأية قوة حزباً أو فرداً أو فئة، يستخفها الغرور أو الجنون، فتعتبر نفسها فوق الشعب، أو وصية عليه، أو متسلطة على إرادته ومشيئته مهما كانت مكانتها وتميزها ونفوذها وقدرتها، وأن الشعب قادر في لحظة تاريخية يحددها، على إخضاعها وإسقاطها بشكل حاسم وسريع. 2)   أن الشعب المصري اليقظ دائماً، هاله وأفزعه وروعه، ما أظهرته بعض القوى والأحزاب وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الواجهة السياسية وإلى حد ما بعض القوى ذات المرجعية الدينية الإسلامية من أساليب وتصرفات وممارسات اكتنفها الاضطراب والتخبط والأخطاء الجسمية في إدارتها وتعاملها مع شئون الحُكم والدولة، على نحو يشير بوضوح إلى عدم تحليها، بما ينبغي لها التحلي به، من شعورعال بالمسئولية والأمانة والحرص قبل كل شيء على مصالح الشعب العليا وتكريس الجهد والعمل لحل مشكلاته وتحسين مستويات حياته ومعيشته وضمان مستقبل أجياله القادمة، ووجوب التضحية بالمصالح والأهواء والمكاسب الشخصية أو الحزبية أو الفئوية في سبيل ومن أجل مصالح البلاد ومستقبلها المنشود.. وبدا الأمر وكأن قيادات هذه القوى لن تتردد في الدفع بالبلاد نحو هاوية الفوضى والاقتتال والدمار من أجل مصالحها وأهوائها الذاتية الضيقة دون أن يهتز لها جفن. 3)   وبدت للشعب مخاوف حقيقية وعميقة من إحتمال إدخال البلاد في دوامة من الفوضى والاضطراب وغياب الأمن والاستقرار مُستدعياً المآسي المروعة التي عصفت ببلدان عديدة كالصومال والعراق وأفغانستان وليبيا وغيرها، فكان عامل الأمن والأمان والاستقرارهاجسه الرئيسي ومطلبه الأكبر والأكثر إلحاحاً وهو ينفذ إرادته ومشيئته الصائبة من خلال صناديق الاقتراع قبل أي عامل أو مطلب آخر، متجهاً لاختيار من رآه الأقدر والأجدر والأكفأ في ضبط الأوضاع وانضباطها ومواجهة كافة مؤشرات الانفلات والتسيب بعزم وحسم لا تردد فيه ولا هوادة بصرف النظرعن هوية وشكل وانتماء هذا المرشح أو ذاك. 4)  أثبتت مسارات ووقائع الثورة، وترتيبات وأوضاع المرحلة الانتقالية، والسياسات والمواقف والأساليب التي اعتمدها وسارعليها تنظيم الإخوان المسلمين وحزبه السياسي الواجهة، وبكل وضوح وجلاء أن الإخوان تسيطرعلى قياداتهم وتتملكهم وتتحكم في تفكيرهم ومنهجهم وقراراتهم نزعة الاستحواذ والسيطرة الأحادية المطلقة ولا يقبلون بإمكانية التعايش والتشارك السياسي مع مخالفيهم من القوى والأحزاب الأخرى إلا إذا فرضت ظروف خاصة ذلك ولفترة مؤقتة ولأهداف تكتيكية آنية، وأن هدفهم الاستراتيجي المحوري، ومعهم بعض القوى الإسلامية، يسعى إلى إقامة وتأسيس (الدولة الدينية) على نحو كلي وشامل وإلغاء واقع التعدد والتنوع من أي لون ونوع، ولهذا لا يمكن الركون أو الثقة بوعودهم وتعهداتهم إذ لا يلبثوا أن ينقضوها دون حرج، بكل ما يمثله نهج كهذا من مخاطر كارثية على تماسك وتلاحم النسيج والبناء الوطني الداخلي وعيشه المشترك.     (5وأخيرا فإن سيطرة (الإخوان المسلمين) على مؤسسة رئاسة الجمهورية في مصر، إضافة إلى سيطرتهم الفعلية السابقة على مجلسي البرلمان والنقابات والمحليات والحكومة التي سيشكلونها عقب انتخابات الرئاسة، واحتمال امتداد سيطرتهم على السلطة القضائية، معناه بشكل تلقائي ومنطقي أن مصر ستصبح أمام نظام حكم أحادي شمولي أشد فجاجة وسطوة وتحكماً من النظام السابق، لأنه على خلاف سابقه سيبررسيطرته المطلقة باسم الله جل جلاله ودينه القويم بحسب فهمهم له ومفاهيمهم حوله بما يتوافق ويسوغ تمريرمصالحهم وأهدافهم الحزبية الخاصة في حقيقة الأمروعلى العكس من ذلك تماماً فإن نجاح مرشح آخر في انتخابات الرئاسة سواء أكان من قوى الثورة أو من المحسوبين على النظام السابق، من شأنه أن يحقق قدراً ولو محدوداً من التوازن بين السلطات ويقلص -إلى حد ما- من إمكانية قيام نظام أحادي شمولي مطلق يستحوذ فيه حزب بعينه على كافة مفاصل ومؤسسات الدولة وسلطاتها.. ولن يشكل أي تهديد أو خطرمن إعادة إنتاج النظام البائد، فالسلطة التشريعية والحكومة والنقابات والمحليات ليست موالية له أو أداة بيده، ومن المستحيل -فعلاً-عودة النظام السابق كما كان. وآمل أن لا تنخدع قوى الثورة، التي حازت على ثقة كبيرة من أصوات الناخبين، بإمكانية الدخول في ترتيبات سياسية لتحقيق المشاركة الجادة في الحُكم، فقد ثبت عدم وفاء (الإخوان) لوعودهم وتعهداتهم، عبر إلحاق نواب للرئيس أو تعيين عدد محدود من ممثليها في الحكومة القادمة، ذلك أن من يؤمن بالمشاركة الحقيقية كان عليه أن يفعل ذلك قبل الانتخابات البرلمانية وتشكيل هيئة الدستور والانتخابات الرئاسية وليس بعد إخفاقه المدوي في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة لاضطراره إلى تحاشي السقوط فيها. فليس ما يعطيه الإنسان منة وصدقة وتفضلا من نفسه، مع بقائه المهيمن والمسيطر، كمن تنتزعه حقا واستحقاقا واجب السداد. إن الأفضل والأسلم، سياسياً أن يُترك تنظيم (الإخوان المسلمين) ليتولى الحكم الشمولي الانفرادي المطلق ويتحمل كامل المسئولية عن ذلك من أن يقبل الآخرون بمشاركة شكلية لا تنتقص من السيطرة الأحادية المطلقة للإخوان على الدولة، بل تزينها وتضفي عليها جمالا ديكورياً وشرعية غير متحققة في الواقع. إن التجربة التاريخية التي يخوض فصولها شعب مصرالعظيم اليوم في أعقاب ثورته الرائدة ستعكس آثارها ونتائجها بعمق على كامل محيطها القومي العربي على امتداده إن إيجاباً أو سلبا.ً فلننتظر لنرى    بريطانيا شيفلد 27 مايو2012م    

موضوعات ذات صلة