انتهت فترة الحكم الانتقالية التي اعقبت قيام دولة الوحدة، بإجراء الانتخابات العامة البرلمانية يوم27 أبريل 1993م، وبانتهاء تلك الفترة الانتقالية توقف اللغط الواسع الذي واكبها منتقداً الاسس التي قامت عليها من حيث ما بدا أنه تقاسم واحتكار للسلطة بين الحزبين اللذين صنعا حدث الوحدة التاريخي، المؤتمر الشعبي العام والحزب الإشتراكي اليمني، رغم ان المسألة في جانبها الاكبر كانت نتاج عملية دمج لجهازي دولتين شطريتين،ولم يكن هناك خيار اخرأفضل سواه. وبانتهاء الفترة الانتقالية تلك، تكون بلادنا قد دخلت أجواء ومناخات مرحلة جديدة، يتوقف مستقبل البلاد برمته، على مدى النجاح في إنجاز وإستكمال كافة مهامها ومسئولياتها، واذا كانت (( الفترة الانتقالية)) قد تأسست على تحالف بين ((المؤتمر الشعبي)) و((الحزب الإشتراكي)) باعتبارهما صانعي الحدث الوحدوي التاريخي، فان المرحلة الجديدة التي ولجت بلادنا عتباتها إثر نجاح العملية الانتخابية العامة تقوم على اساس تحالف أو ائتلاف سياسي حاكم يضم الثلاثة التنظيمات الكبيرة ((المؤتمر الشعبي العام)) و((الحزب الإشتراكي اليمني)) و(( التجمع اليمني للإصلاح)) وعلى الرغم من ان مسألة التحالفات بين الاحزاب سواء على مستوى الحُكم أو على مستوى المعارضة، تُعَد مسألة طبيعية ومشروعة، بل ومطلوبة ايضا، في الحياة السياسية الديمقراطية، وتعتبر مألوفة ومعمول بها في الغالب الأعم في النظم السياسية القائمة على التعديدية الحزبية، إلا ان قيام الائتلاف الثلاثي الحاكم اكتسب اهمية بالغة العمق، وحظي باهتمام عال وواسع النطاق ليس على الصعيد المحلي فحسب بل تعداه الى الصعيد العالمي، ولعل مبعث تلك الاهمية وذلك الاهتمام غير العادي يرجع اساساً الى كون أحد اطراف الائتلاف الثلاثي الحاكم تنظيماً أو حركة سياسية اسلامية، وهو ((التجمع اليمني للإصلاح)) في وقت لاتزال فيه قضية العلاقة بالحركات الاسلامية، بل اكثرمن هذا قضية مشروعية وجودها من عدمه، تُمثل إشكالية عميقة، وأزمة عاصفة في كثير من الانظمة السياسية العربية والاسلامية، وعلى مستوى القوى الدولية.. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فقد كانت هناك قناعة واسعة باستحالة ان يلتقي ((الإصلاح))ب((الحزب الإشتراكي)) ضمن إطار تحالفي واحد،بل ولاحتى مجرد تقارب حقيقي، بالنظر الى واقع المجابهة الحادة والمريرة التي سادت علاقاتهما منذ ما بعد قيام دولة الوحدة، واستناد تلك المجابهة في بعض الاحايين على اعتبارات دينية وعقيدية.. والحقيقة انه منذ برز((الإصلاح)) على الساحة السياسية عقب الوحدة تنظيماً قوياً واسع الانتشار والتأثير، ساد البعض منا اعتقاد بانه، في ظل ما تخلل علاقات الحزبين الحاكمين((المؤتمر)) و((الإشتراكي)) من تأزمات وتوترات ومجابهات خطيرة احياناً الى حد تهديد الوطن ومكاسبه،فان ((الإصلاح)) بثقله وتأثيره البارز مؤهل تماماً للعب دور قوة التوازن الفعالة لتقويم وترشيد علاقة الحزبين الحاكمين وتوجيهها بما يخدم المصالح الوطنية ويعزز من المكاسب الديمقراطية، بل ذهب البعض في اعتقاده الى حد التصور بان ((الإصلاح))هو القوة البديلة المؤهلة لقيادة النظام السياسي، بيد ان ((الإصلاح)) في بداية نشأته اتخذ خطاً صدامياً وربما عدائياً الى اخر المدى مع((الإشتراكي)) وهو ما وضعه تلقائياً في موقع الطرف الرئيسي في الصراع السياسي، وافقده ما كان مؤهلا للقيام به من دور ((الحَكَم)) أو قوة التوازن في الوضع السياسي السائد، ولا أريد هنا ان اُصدر احكاماً بمدى خطأ أو صواب ذلك الموقف، لأن تحديد الموقف ينبني على حسابات ورؤى يراها((الإصلاح)) نفسه، فما يراه الاخرون ((خطأ)) من وجهة نظرهم، يعتبره ((الإصلاح))وهو صاحب الشأن ((صوابا)) فالقضية اساساً تتحدد وفق اجتهادات ومنطلقات متباينة في اطار من الرؤى المختلفة.. وأياً كانت طبيعة التباينات في الرؤى والاجتهادات والحسابات المتعلقة بتقويم حقيقة الدور الذي إضطلع به ((الإصلاح)) في مرحلة نشأته الاولى، فان هناك حقيقة واضحة، لااعتقد بان مجال الاختلاف حولها واسع، وهي ان ((التجمع اليمني للإصلاح)) استطاع، خلال الفترة التي سبقت الانتخابات واثنائها وبعدها، ان يحقق نجاحاً مذهلاً في إدراته للعملية السياسية الخاصة به في مختلف المجالات وخاصة خلال فترة الانتخابات، حيث برهن على امتلاكه لمستوى رفيع من الوعي والمقدرة والحنكة بل الدهاء ايضاً في استيعابه لقواعد واصول اللعبة الديمقراطية، في اطار واسع من الفهم لطبيعة المتغيرات الدولية والمقتضيات الاقليمية، وكذا استيعابه الواعي لبعض التجارب المريرة والمأساوية التي خاضتها حركات اسلامية في بعض الدول العربية. ولعلنا جميعا نتذكر ذلك التوقع الذي ساد البلاد على نطاق واسع منذ بدأت بلادنا تستعد للبدء في ترتيبات إجراء الانتخابات النيابية، وهو توقع كاد ان يكون إجماعاً عاماً بأن اليمن مقدمة على تكرار مأساة التجربة الديمقراطية في ((الجزائر)) مع تصور ان الدماء ستكون اغزر بكثير، وكذلك الضحايا والدمار سيكون اكبر واشمل واخطر، وكان واضحاً ان ذلك التوقع قد بني على أساس وجود ((الإصلاح)) كحركة اسلامية ذات ثقل وتأثير محسوسين وواسعين..واعترف ان هواجس وشواغل هذا التوقع تغلغلت الى تفكيري بشكل أو بآخر.. غير ان مسارالأحداث ونتائجها في فترة الانتخابات والفترات التي سبقتها واعقبتها، سار على نحو ايجابي ومثالي الى حد ما ومعاكس لأسس ذلك التوقع بالانفجار الشامل: * فقبل إجراء الانتخابات بفترة لا بأس بها تمكن ((الإصلاح)) ببراعة سياسية مشهودة من خلق أجواء تطبيع تدريجي في علاقته مع(( الإشتراكي)) بلغ ذروته عند عتبات العملية الانتخابية واثنائها، بتبني خطاب سياسي عقلاني مرن ومعتدل يدعو الى التعايش والقبول بالاخرين والاحتكام الى قواعد اللعبة الديمقراطية والتسليم بنتائجها، إضافة الى إلغاء نبرة العداء والمجابهة مع ((الإشتراكي)) واستبدالها بنبرة ودية تدعو الى التعاون والتحالف والتنسيق..الخ. * وفي ادارته للعملية الانتخابية استطاع ((الإصلاح)) بحنكة ودهاء مشهودين ان يكبح جماح الاندفاع والتهور، مستوعباً بوعي عميق حقائق الواقع وحدود الممكن، واستطاع من ثم ـ وبحسب ظني ـ ان يحدد لنفسه هامشاً أو مجالاً معقولاً لوجوده وثقله بما لا يوصله الى درجة التصادم مع حقائق ذلك الواقع وحدود ممكناته المتاحة.. متجنباً بذلك المصيرالمؤسف والمأساوي لبعض الحركات الاسلامية التي تجاهلت الواقع وحاولت القفز عليه والصدام مع قواه السائدة. * القبول بصيغة ((التحالف اوالائتلاف)) الحاكم بينه وبين(( الإشتراكي)) و((المؤتمر))ليعطي الدليل العملي على مصداقية قبوله بقواعد اللعبة الديمقراطية والتعايش والقبول بالآخرين، وليبرهن على إعترافه وإيمانه بالنظام السياسي الديمقراطي بقبوله بأن يصبح طرفاً مشاركاً مع اخرين في ذلك النظام، إن قبول الإصلاح بصيغة الائتلاف السياسي الحاكم يعتبر بمثابة خطوة تكتيكية ذكية لتأكيد مشروعية وامكانية ان تَحكم حركة اسلامية بالديمقراطية، وذلك من خلال الحكم بالمشاركة ابتداء.. ومن مجمل ما سبق، وغيره، استطاع ((الإصلاح)) ان يبعث برسالة واضحة المعاني والدلالة الى مختلف الجهات والاتجاهات، بأن الحركة الاسلامسة مع الديمقراطية بالفعل، ومع العمل السلمي الرافض للعنف والارهاب بالممارسة العملية، وايضاً فان الحركة الاسلامسة تتعامل مع الحقائق والمتغيرات الدولية من مطلق التفاعل والتكامل مع النظام العالمي وليس رفضاً ونقضاً له. وفي اعتقادي ان ذلك النجاح الباهر الذي حققه((الإصلاح)) لايمكن النظر اليه بمعزل عن شخصية رئيسه الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر، برصيده الثري من التجارب والأدوار التي لعبها طوال فترة ما بعد الثورة في العمل الوطني والسياسي، والتي جعلت منه شخصية وطنية بارزة تحظى باحترام وتقدير واسعين على مستوى البلاد عامة، ومما لاشك فيه ان الشيخ عبدالله قد استطاع ان يوظف كل رصيده وسمعته وخبرته وتجاربه الغنية في إتجاه تحقيق ذلك النجاح السياسي المذهل للإصلاح، دون ان يعني ذلك أي انتقاص أو تقليل من قدرات وكفاءات سائر قيادات ((الإصلاح)).. ولعله مما لا يجب ان يغيب عن بالنا ان هذه التجربة السياسية الناجحة التي خاضها ((الإصلاح)) كحركة اسلامية، لن يقف تأثيرها وانعكاساتها الايجابية عند حدود النطاق المحلي لليمن، بل ستكون ـ دون شك ـ نموذجاً رائداً امام كثير من الحركات الاسلامية، يُقتدى بها في نجاح وفعالية عمل الحركات الاسلامية ضمن إطار الديمقراطية ووفقاً لقواعدها واصولها.. ولعلهاتكون اساساً لمراجعة المواقف تجاه الحركات الاسلامية على المستويين الاقليمي والدولي.. وعلى صعيد آخر فان بلادنا، وهي تعيش مرحلة جديدة مختلفة الى حد كبير عن الفترة الانتقالية المنتهية، من حيث استنادها الى مشروعية ديمقراطية قائمة على أساس الانتخاب الحر المباشر، والى صيغة ائتلافية حاكمة أوسع افرزتها نتائج الانتخابات ذاتها، ترتسم في أفق البلاد مؤشرات مشجعة تبعث على قدر مهم من التفاؤل بمسقبل أفضل،، ويمكننا ان نشير الى ابرز معالم تلك المؤشرات على النحو التالي: * شخصيات وزراء حكومة الائتلاف حيث ضُمنت وُجوهاً لم يتولد حولها في السابق انطباعات عامة بالفساد، فكلها تقريباً عناصر نظيفة وكفؤة ومقتدرة وخاصة وزراء المؤتمر الشعبي العام، مما يشير الى وجود توجه مخلص لمحاربة الفساد والانفلات في البلاد. * احساس الشارع بانجازات وأعمال جادة وملموسة وبالذات فيمايتعلق بضبط الحالة الامنية في البلاد، وتواصل الجهود لترسيخ الأمن والاستقرار في البلاد، والحد من انتشار الجريمة والقتل والتخريب.. * بروز مؤشرات جادة لتصحيح الاختلالات الخطيرة داخل الجهاز الاداري للدولة. والمحاولات المستمرة لمعالجة الاوضاع المعيشية المتردية وازدياد الغلاء وارتفاع الاسعار..الخ، وكذا على مستوى الخدمات الصحية المنهارة في البلاد.. * بدء الخطوات العملية الجادة والمسئولة لاستكمال توحيد القوات المسلحة واعادة بنائها على أسس وطنية سليمة وراسخة الجذور. ان تلك المؤشرات الرئيسية أسهمت في الأونة الاخيرة بإنعاش آمال المواطنين وتلهفهم الى حياة افضل يسودها الأمن والاستقرار والرخاء والازدهار.. واذا كان ((الائتلاف الثلاثي الحاكم)) المؤتمر والإشتراكي والإصلاح، قد اختاروا صيغة التحالف أو الائتلاف لحكم البلاد وذلك عمل مشروع وايجابي تفرضه الضرورة الوطنية بالنظر الى حجم وجسامة المهام والمسئوليات المطلوب القيام بها وطنياً، فان مقتضيات الديمقراطية السليمة تقتضي حتماً وجود معارضة حقيقية وقوية لتحقيق إستقامة وفعالية الحياة والممارسة السياسية في البلاد، اذ من المعروف بداهة انه لايمكن تصور ديمقراطية حقيقية في بلد ما في حالة غياب وجود معارضة حقيقية وجادة وقوية، حيث ان مبرر الديمقراطية الاساسي يكمن في وجود حُكم ومعارضة، رأي ورأي آخر وإلا فلا معنى للتغني بالديمقراطية ورفع شعارها .. وفي اعتقادي ان هناك بعض الاحزاب الحقيقية والجادة خارج اطار الائتلاف الحاكم، مؤهلة وقادرة على المبادرة لانشاء تكتل سياسي معارض ضمن اطار النظام السياسي الديمقراطي ووفقاً لقواعده واصوله، واعتقد ان الحكام يدركون، من واقع شعورهم بالمسئولية الوطنية، ان وجود معارضة جادة وقوية يعتبر في صالحهم بالدرجة الاولى بما يحققه من تفعيل وتنشيط للحياة السياسية ينتج عنها ترشيد وتقويم طرفي المعادلة السياسية الحُكم والمعارضة معاً.. وبدون تلك المعادلة أو بغياب أحد طرفيها، لا يكون هناك أي مستقبل للديمقراطية بل ويصبح مصيرها آيلاً الى زوال حتمي بعد ان يضل مستقبل الوطن كله سائراً نحو غياهب المجهول المفزع. صحيفة الشورى