الدستور، أي دستور، يعتبر وثيقة ذات شأن عظيم للغاية في حياة الدول والشعوب، إذ على أساسه ووفق قواعده يتقرر شكل ومضمون النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويتحدد في ضوء كل ذلك طبيعة الحاضر والمستقبل بالنسبة لتلك الدول والشعوب وهو ـ الى ذلك ـ يتضمن ضمن ما يتضمنه عقداً اجتماعياً يُنظِم جملة من القواعد والضوابط المُلزِمة التي تحكم طبيعة العلاقة بين السلطات الحاكمة ومواطنيها .. وبناء على كل ذلك فان وضع وصياغة الدساتير ينبغي ان تتم في أطار من الدقة والموضوعية والتجرد عن الأهواء والحسابات الضيقة سواء أكانت فردية أم فئوية أم حزبية ..الخ، وذلك من اجل ضمان ان يكون صياغة الدساتير مبنية على إستيعاب واعٍ للواقع ومكوناته وقواه ومستويات تطوره، ومحققة لاستشراف متطلع لآفاق المستقبل المنشود. فوثيقة الدستور تكتسب اهميتها اساسا من كونها وثيقة يجب ان تستوعب مهام وتطلعات وتحديد مسارمرحلة زمنية كاملة، وذلك حتى لا تكون عرضة للتعديل والتغيير والتبديل في اي وقت وفقاً لحسابات ومصالح واهواء محدودة عارضة، فان تعريض الدستور لحال كهذا يؤدي الى جملة من الانتكاسات والتأثيرات السلبية على جميع مجالات حياة المجتمع ككل، لعل أهمها هز حالة الاستقرار والثبات السياسي النسبي، وفتح مجال لدوامة من التقلبات السياسية والاضطراب العام، وهو ما يؤثر حتماً تأثيراً سلبياً على مسيرة التنمية والنهوض الحضاري لأي مجتمع من المجتمعات.. ولست اريد هنا ان اكرر ما طرحه الاستاذ الدكتورالمفكر ابوبكر السقاف، عبر حلقات مهمة عديدة، حول تلك الانعكاسات والتأثيرات السلبية والمساوئ التي تكتنف عملية إجراء تعديلات دستورية بين حين وآخر، ولكنني فقط اريد القول اننا لا نقف ضد مسألة إجراء تعديلات على الدستورلمجرد كونها تعديلات، لكننا فقط نريد ان ننبه الى مخاطرها إن هي تمت في فترات متقاربة وفي ظل إنتفاء المبررات الموضوعية الحقيقية الموجبة لها. فهل هناك دواعٍ حقيقية، في دستورنا توجب إجراء اصلاحات دستورية؟ الواقع انني ممن يرون وجود مثل تلك الدواعي الموضوعية لاجراء بعض الاصلاحات في وثيقة دستورنا الحالي، وذلك للاسباب الرئيسية التالية: · ان وثيقة الدستور الحالي، صيغت في فترة ماضية اعقبتها فترة اخرى شهدت متغيرات هائلة ومذهلة على الصعيد الدولي العام شملت مختلف المجالات الفكرية والسياسية بما فيها طبيعة علاقات القوى الدولية وتوازنها، واصبحت مسائل مثل ( الديمقراطية وحقوق الانسان والنهج الاقتصادي )، في ظل تلك المتغيرات من المسائل التي تندرج ضمن نطاق الشأن والاهتمام الدولي المباشر، وليس كما كانت سابقا مندرجة ضمن الشئون الداخلية ومقتضيات السيادة الوطنية.. · ان الدستور الحالي جاء في إطلر صيغة وفاقية بين نظامين شطريين متناقضين ابان تلك الفترة، ولم تكن صياغته مبنية على نظرة شاملة واحدة من حيث الفلسفة والمنطلقات والغايات والوسائل المستندة بناءها من اساسها وسياقها الواحد، ويبدو ذلك جلياً من الطابع الانتقائي الوفاقي التلفيقي ، والعيب في ذلك لا يرجع الى مجموعة الشخصيات التي تولت صياغته، بعد جهود مضنية، وانما العيب يكمن في طبيعة الاختلاف والتباين بين النظامين الشطريين من حيث فلسفة ومنطلقات وغايات كل منها آنذاك. · ان الدستور الحالي لم يكن واضحاً ولا حاسماً في صياغته المحدودة والمنظمة لبعض من اهم واخطر القضايا، وتلك الصياغات الغامضة والمائعة لا شك انها كانت كذلك بحكم طبيعة الظروف والاجواء السائدة آنذاك وتناقض رؤية النظامين ازائها، مثل مسألة تعدد الاحزاب واعتبارها الاساس الذي يرتكز عليه النظام السياسي .. اضافة الى عدم ايراد الضمانات الاساسية لتحقيق مبدأ استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وعدم التحديد الواضح لطبيعة ومسئوليات الحكم المحلي.. وهي مسائل جوهرية في غاية الاهمية والخطورة معا.. ربما كانت هناك اسباب اخرى، توجب الضرورة الموضوعية إجراء اصلاحات دستورية بيد انني اكتفي بما ذُكر من اسباب واحسب انها كافية لبيان تلك الضرورة. ورغم ان التعبير الرسمي الشائع تجاه هذه المسألة هو(( تعديلات دستورية)) الا ان الوثيقة التي تضمنت تلك التعديلات والمقدمة من ((المؤتمر الشعبي العام)) و((الحزب الاشتراكي اليمني)) تشير بوضوح وجلاء ان المسألة لا تقف عند حدود ((التعديل)) بل تتجاوزه بمراحل الى مستوى ((الاصلاح الشامل)) إن لم يكن في حقيقة الامر ((تغيير دستوري)) شبه كامل، ومع ذلك دعونا نتفق على ان نطلق على تلك((التعديلات)) مصطلح ((الإصلاح)) لأنه مصطلح يتسع لاستيعاب((التغيير)) على اية حال.. وفي اعتقادي انه لا يوجد هناك ما يمنع او يحول دون إجراء تلك الاصلاحات على اتساعها وشمولها، شريطة ان تتوفر لدى القائمين على تلك الاصلاحات عوامل الشعور بالأهمية البالغة التي تكتسبها هذه العملية وضرورة ان تسفرعن صياغة دستورية واعية ومستوعبة.. موضوعية وعميقة، تنبني على دراسة عملية دقيقة وواعية للواقع الذي نعيش من جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتستوعب حقائق المرحلة التاريخية التي نحياها، وتستشرف آفاق تطلعاتنا وآمالنا واهدافنا المشروعة في المستقبل المنظور، وذلك حتى تجئ صياغتنا للاصلاحات الدستورية مُثلى ومحققة لاقصى قدر من الثبات والاستقرار الدستوري المُفضي الى استقرار سياسي يهيء افضل الظروف والأجواء لانطلاقة مسيرتنا، وذلك حتى لا نجيء بعد عامين او ثلاثة اعوام فنطالب بتعديل الدستور، الذي يعتبر اساسا تقوم عليه كافة عمليات اقامة بُنى الدولة والمجتمع وتحدد لهما معالم السيرعلى الطريق ومناهجه ووسائله وغاياته، واي تعديلات فجائية ومتسارعة في صياغة الدستورـ حتى وان كانت محدودة ـ كافية لإحداث هزات وخلخلات تمتد لتشمل كافة البُنى التحتية والفوقية للبلاد، وهو ما يحرص المشرعون والسياسيون والمصلحون الاجتماعيون على تحاشيه بأقصى قدر من الشعور بالمسئولية. وعلى ضوء هذه الرؤية فان استعجال أمرإحداث (( التعديلات الدستورية)) او (( الاصلاحات الدستورية)) على طريق سلقها و(( كلفتتها )) لا يحقق مصلحة للوطن ولا حتى للسلطات القائمة الساعية ـ بعجل شديد ـ لحسم تلك الاصلاحات، والواقع انه من اجل تحاشي احتمالات الزلل والخلل، ومن اجل ان تاتي صياغة الدستور الجديد محكمة وواعية ودقيقة وعميقة تجنبناً للارباك والتقلبات وعدم الاستقرار في قادم الايام، فانه من المفيد للغاية ان يُدار حوار وطني شامل عبر الندوات المتخصصة والواسعة ومن خلال الصحافة ووسائل الاعلام، وبجهود الأحزاب والمنظمات والشخصيات ، حول قضية (( الاصلاح الدستوري )) وحبذا لو تشكلت لجنة كفؤة داخل مجلس النواب مهمتها رصد واستشفاف كافة الآراء ووجهات النظر والملاحظات المتعلقة بالموضوع بصرف النظر عن انتماءاتها الحزبية وتوجهاتها السياسية، والاستفادة منها عند إجراء تلك ((التعديلات او الاصلاحات الدستورية)) المنشودة دون تسرع او عجلة، والحقيقة ان انتهاج هذا النهج الأسلم والأصوب، لن يتطلب توفر فترة زمنية طويلة لتحقيق غايته في صياغة ((اصلاحات دستورية)) مُحكمة ودقيقة، بل على العكس من ذلك فانه قد لا يحتاج ـ اذا خلصت النوايا وبذلت جهود مخلصة ـ الى اكثر من الفترات الزمنية التي تحددها مواد الدستور الحالي لاتمام اي تعديل في مواده، وإن هو احتاج الى مدة اضافية عليها فلن تزيد عن شهر او شهرين على اقصى تقدير.. وعلى اية حال، فاننا نعتقد انه سيكون من المفيد والايجابي للغاية لو انصبت كثير من الآراء ووجهات النظر والملاحظات المتعلقة بالاصلاحات الدستورية على مسائل حقيقية وجوهرية هي بكل التأكيد واليقين، المحركات والروافع الحقيقية الدافعة لأي مسعى جاد لنا نحو النهوض والتقدم والرقي، اهمها: · الحريات العامة وحقوق الانسان وايجاد المزيد من الضمانات الحامية والمعززة لها دائما. · استقلال القضاء استقلالا حقيقيا وكيفية انهاء كافة مظاهر التدخل والتأثير المباشر وغير المباشرمن قبل الحكام والسلطة التنفيذية التي لا تزال تمارس بحق القضاء وتسلبه نزاهته واستقامته وحياده واستقلاله، وكيف يمكن ان نضمن من خلال صياغات دستورية واضحة وحاسمة كامل الاستقلالية للقضاء من خلال قيام كافة هيئاته من اعلى هيئة وما دونها على مبدأ الانتخاب من داخل السلطة القضائية نفسها وليس من خارجها، وما يرتبط بذلك من ضمان كامل لاستقلالها المالي ايضا، والواقع انه ينبغي علينا ان ندرك انه بدون استقلال القضاء ونظافته فانه من المستحيل تماما ان تحقق اي تقدم حقيقي وفي اي مجال من مجالات حياتنا. · الحكم المحلي وتحديد طبيعته ومجالات عمله وصلاحياته ومسئولياته وتنظيم اسلوب إقامة سلطاته وعلاقته بالسلطات المركزية، بشكل لا يحتمل اللبس او الالتواء والإجهاض. · تحقيق استقلالية بعض الاجهزة ذات المسئوليات والمهام الحساسة والخطيرة من خلال ربطها بمجلس النواب ، والنص على عدم جواز عزلها دون مبرر شرعي مقنع مثل الجهازالمركزي للرقابة والمحاسبة والبنك المركزي على ان يكون تعيين رئاستيهما حاصلا على ثقة مجلس النواب. · مكونات السلطة التشريعية: وفي حالة التوجه نحو نظام المجلسين التشريعيين اللذان يكونا عند اجتماعهما السلطة التشريعية، فانه ينبغي التوضيح ان المبرر الموضوعي ـ ربما الوحيد ـ للأخذ بنظام المجلسين ( مجلس النواب ـ ومجلس الشورى) المقترح في الاصلاحات الدستورية هو تحقيق مبدأ المساواة في عدد ممثلي المحافظات في مجلس الشورى، بينما يقوم مجلس النواب على مبدأ نسبية تمثيلها وفقاً لعدد السكان، اذن فليس هناك اي مبرراو معنى لان تقوم السلطات الحاكمة بتعيين ثلث اعضاء ذلك المجلس لانه يُخل بمبدأ تساوي جميع المحافظات بعدد الممثلين، ويجب ان يكون مجلس الشورى وفقاً لهذا المبدأ مُنتخباً بكامل اعضائه.. ومبرر السلطات الحاكمة المدافع عن حقها في تعيين ثلث الاعضاء بحجة ضم الكفاءات والتخصصات والخبرات ينبغي ان يكون مجال عملها الحقيقي والخلاق من خلال انشاء ((مجالس قومية متخصصة)) للبحث والدراسة والابداع، وليس مجالها السلطة التشريعية في كل الاحوال.. تلك هي اذن المسائل الجوهرية والحقيقية التي ينبغي اعطائها الجهد والتفكير الاكبر فيما يتعلق بالاصلاحات الدستورية، وبدون وضعها في موضعها ومكانتها الصحيحة في الدستور الجديد الاتي، فانه لا يمكننا توقع اي تقدم او إنجاز جاد بحجم آمالنا وطموحاتنا المشروعة في مستقبل جديد افضل، وتلك هي مهمة الاحزاب والمنظمات والشخصيات والفعاليات الوطنية ودورها الحقيقي، وهي مهمة يتوقف على مسألة تحقيقها من عدمه النظرة الى شكل ومضمون مستقبل الوطن وغده الواعد . والله الموفق. صحيفة الشورى