الأزمة الإقتصادية .. نحو أية آفاق؟

هناك اتفاق عام في بلادنا، سواء على صعيد ائتلاف الحُكم أو تكتل المعارضة، يكاد يجمع على حقيقة وجود أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها البلاد، تعكس اثارها على حياة المواطنين بحجم من الأعباء والمعاناة تثقل كواهلهم، وتعصف باستقرارهم النفسي والاجتماعي، وان هذه الازمة مرشحة ـ في حال استمرار الاوضاع على ما هي عليه ـ لترديات متصاعدة وتفاقمات خطيرة..  ورغم الاتفاق العام المُجمِع على حقيقة وجود الأزمة، إلا أن الاختلاف والتباين في وجهات النظر ينشأ بين الاحزاب والتنظيمات السياسية، حاكمة ومعارضة، حينما تمتد الدراسة ويتطرق النقاش الى عملية التحديد والتشخيص لطبيعة الأزمة ومسبباتها وابعادها، وايضاً تصور المعالجات والوسائل والحلول الصحيحة والسليمة والفعالة لها، وليس هناك من شك ان ذلك التباين والاختلاف يُعتبر شيئاً طبيعياً وورداً بالنظر الى وجود الاختلاف والتباين في المنطلقات والتوجهات والمناهج بين تلك الاحزاب. ومع ذلك فاننا نعتقد ان الجميع ـ تقريبا ـ لا يختلفون على تحديد أبرز مظاهر الأزمة الاقتصادية، وعلى رأسها المظاهر والمعالم التالية: * التناقض المستمر والكبير في قيمة العملة المحلية إزاء العملات الحرة، وبالتالي الفقدان المتصاعد لقيمتها الشرائبة. * تصاعد وتيرة التضخم الاقتصادي،والارتفاع المتواصل للاسعار والغلاء بشكل لا يتناسب، ولو بالحدود الأدنى،ومستويات الاجور والمرتبات. * العجز الكبيرـ غير الطبيعي ـ في الموازنة المالية العامة للدولة ،وعجزها عن الوفاء بأبسط التزاماتها المتمثلة في دفع مرتبات موظفي الدولة، في القطاعين المدني والعسكري، وهوعجز يستمر احياناً لمدة شهرين متواصلين أو يزيد..وفشل الدولة حتى الان في إعداد الميزانية العامة لعام 1993م رغم ان العام شارف على الانتهاء، وهو مالم يحدث في أي مرحلة من قبل على ما اذكر. * تزايد حجم ديوننا الخارجية بشكل لم يسبق له مثيل، وما يترتب على ذلك من فوائد وعوائد مالية ضخمة لخدمة تلك الديون، واستنزافها المستمرولفترات قادمة طويلة لجزء كبير من مواردنا المالية المحدودة. * الإختلال الخطير في ميزان المدفوعات الناتج عن سياسة الاعتماد الكلي على الاستيراد وضرورة الوفاء بتسديد اقساط الديون الخارجية ،والفوائد الباهضة المترتبة عليها، دون توفر القدر المناسب من الايرادات المالية من العملات الصعبة بسبب الضآلة الكبيرة في التصدير وتناقص التحويلات المالية للمغتربين. تلك كانت ابرز مظاهر ومعالم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ولا نظن انها يمكن ان تكون محل خلاف جوهري، ولعله من المفيد والضروري ان نحاول هنا تحديد العوامل والاسباب التي اسهمت في حدوث تلك الأزمة، وذلك حتى يسهل علينا تصور معالجات وحلول مناسبة لانهائها، أو على أقل تقدير، التخفيف والحد من اثارها المدمرة، وفي اعتقادنا ان ابرز تلك العوامل والاسباب تتحدد بالاتي: * سياسة الإهدار والتبديد غير الرشيد لرصيدنا الاحتياطي من العملات الحرة، والذي بلغ، في مرحلة سابقة، حجماً جعلنا عُرضة لضغوطات شديدة من قبل المؤسسات النقدية الدولية تهدف الى إقناعنا بضرورة إقراض الدول الفقيرة، مما عكس تأثيرات سلبية مدمرة على قيمة عملتنا المحلية وقدرتها الشرائية، ومُفضياً الى اختلال متصاعد في ميزان المدفوعات. * اللجوء الى سياسية الاقتراض المالي من الخارج والمتزايد، في غياب سياسة اقتصادية كفؤة ومقتدرة ونزيهة تكفل حُسن وسلامة توظيف واستثمار تلك القروض على نحو أمثل بسبب تفشي الفساد والتسيب والانفلات المالي والاداري في اجهزة الدولة، وهو وضع أدى الى تراكم حجم الديون وفوائدها بشكل مُهول ومُفزع، بما يترتب عليه من أعباء والتزامات تفوق امكانياتنا بكثير، وتؤثر تأثيراً سلبياً عميقاً وخطيراً على مسيرة التنمية والرفاهية، ووضع اقتصادنا الوطني برمته، ومستويات المعيشة من ضمنه، وثمن ذلك باهضاً يتحمله المواطنون معاناة وعذاباً لفترات طويلة تمتد الى اجيال قادمة.. * لجوء التجار ورجال الاعمال، وعلى مختلف مستوياتهم كباراً وصغاراً الى سياسة إستبدال عوائدهم المالية من العملة المحلية، بالعملات الحرة، نتيجة اهتزاز ثقتهم بثبات واستقرار قيمتها وتذبذبها المستمر، وتسريب تلك العملات الى الخارج بشكل منتظم إعتماداً على مساندة وحماية بعضاً من ذوي النفوذ والقوة في الدولة لهم، ولا شك ان عامل الاختلال وعدم الاستقرار في الاوضاع السياسية والأمنية يعتبر هو الاخر مبرراً للتجار ورجال الاعمال في اللجوء الى مثل تلك السياسة خوفاً على ضياع روؤس اموالهم ومصالحهم، وربما لا نكون مبالغين اذا قلنا ان هناك مواطنيين عاديين، من ذوي الدخول المتوسطة وجدوا انفسهم مجبرين على استبدال مالديهم من عملة محلية بعملات حرة لذات الاسباب. * استشراء الفساد والتسيب المالي والاداري بشكل مخيف، وما نتج عنه من نهب وسلب واهدار وتبديد غير مشروع للاموال العامة على نطاق واسع ومنظم لم تشهد البلاد له مثيلا من قبل، والتلاعب في اقامة مشاريع اقتصادية وغيرها لا تتفق مع المواصفات المحددة ولا تتوفر لها الجودة والمتانة لقاء عمولات وسمسرات باهضة، وبنفس الاسلوب ايضا استنزاف ونهب اموال المشاريع القائمة وايصالها الى حد الفشل والاخفاق، في ظل غياب الحد الادنى البسيط من اساليب الرقابة والمحاسبة الفعالة والجادة. * إعتماد سياسة إنفاق مالي ضخم في مجالات لا تخدم التوجهات التنموية الحقيقية، وصرفها على مظاهر ترفيهية وشكلية تدخل في نطاقها شراء الذمم وإفساد الضمائر والاخلاق العامة، وكسب الولاءات، حتى بدا ذلك الانفاق والتبديد والاهدار الخطير للاموال العامة وكأنه الاصل بينما مجالات التنمية والتطويرباتت الاستثناء. تلك هي ما نعتقد انها أبرز عوامل ومسببات الأزمة الاقتصادية الجاثمة على صدورنا، ومما لاشك فيه ان هناك عوامل أخرى اضافة الى ما ذُكر، ولعلنا نضيف الى ما سبق ذكره من عوامل واسباب نشؤتلك الأزمة عاملا آخر عاماً، وهو اننا لم نستطع ان نرسوا على منهج اقتصادي واضح المعالم ومحدد الهوية بشكل قاطع، فلا نحن حددنا نهجنا الاقتصادي ب((الاقتصاد الحر الرأسمالي))ونعمل وفق ما يقتضيه في كافة المناشط والفعاليات الاقتصادية بشكل شمولي ومتناسق ومتكامل، ولا استطعنا التوصل الى قناعة باختيار((الاقتصاد الاشتراكي)) وتطبيقه كاملا متكاملا،وظللنا نمارس نهجاً اقتصادياً انتقائياً خليطاً من هذا المنهج وذاك. ومعلوم ان المناهج الاقتصادية كل منها يشكِل بنياناً متكاملاً مترابطاً متناسقاً لا يمكن تجزئته وإلا اختل توازنه واخفق في تحقيق اهدافه وغاياته، واصبح حالنا ـ في هذا الصدد ـ عجيباً وغريباً حقا، ففي الوقت الذي تتوالى فيه تصريحات وتأكيدات كبار مسئولينا باننا ننتهج نهجاً اقتصادياً حراـ أي رأسمالياً ـ فاننا نجد في ذات الوقت ان ممارساتنا الاقتصادية في عديد من المجالات تسير وفق منهج((الاقتصاد الموجه أو المخطط)) أي اقتصاد اشتراكي.. ولعل الجدل الدائر حالياً حول تغيير النص الوارد في دستور الوحدة والقائل ببناء اقتصاد اشتراكي، وانحصار الجدل حول نقطة إلغاء أو ((تصفية القطاع العام)) على الصعيد التطبيقي لذلك التغيير الدستوري المرتقب، لعل ذلك الجدل وانحصاره في دائرة ((القطاع العام)) يدل دلالة واضحة على واقع ذلك الخلط واللبس في تحديد المناهج والمفاهيم الاقتصادية، ذلك لأن مسألة ((القطاع العام)) لم تكن في يوم من الايام مرادفة بالضرورة للنهج الاقتصادي ((الاشتراكي))أو السمة الملازمة له وحده، بدليل ان اعرق البلدان الراسمالية واقواها في العالم اقامت ولا تزال تقيم ((قطاعا عاما)) في مجالات عديدة كمشاريع الخدمات العامة، والصناعات الاستراتيجية الكبرى، بمستويات متفاوتة بين بعضها البعض، ومع ذلك لم نسمع أو نقرا ان احداً قال عنها انها اصبحت ((اشتراكية)) أو نفى عنها منهجها الاقتصادي الرأسمالي الحر، ولهذا يصبح((القطاع العام)) اسلوباً من الاساليب المحقِقة لتكامل وتصعيد وتأئر النشاط الاقتصادي، وليس تعبيراً عن نهج اقتصادي بعينه، أو لم تعلموا ان اقدم واقوى الرأسماليات العالمية بدأت في الحِقَب الاخيرة تعمم نظام ((الشركات المساهمة)) في كثير من مشروعاتها الاقتصادية حتى بات عمال تلك المشروعات مُلاكاً مشاركين من خلال تشجيعهم على شراء اسهم في المشاريع التي يعملون بها، وذلك بهدف توسيع قاعدة الملكية وإثارة الحوافز التشجيعية لرفع الانتاج وتحسينه، كل ذلك يجرى دون ان يُمَس النهج الاقتصادي الرأسمالي لتلك الدول.. واعتقد ان (( القطاع العام )) في مثل اوضاع بلدان العالم الثالث ينبغي ان يحتل مكانة اكبر ويضطلع بدور اكبر بالنظر الى محدودية التراكمات الرأسمالية فيها بحكم واقع التخلف، ويمكن تماماً ان يتم ذلك في ظل انتهاج المنهج الاقتصادي الرأسمالي الحر كاملا من خلال العمل بقوانين اليات السوق والعرض والطلب والمنافسة الحرة..الخ. على ان ذلك يجب ـ باي حال من الاحوال ـ ان يتم دون اجراء مراجعة شاملة لاوضاع القطاع العام ودراسة اسباب تعثره وإخفاقه في اتجاه ازالتها وتطوير اساليب عمله وإشراك العاملين في ادارته وغير ذلك من اساليب التطوير والتفعيل لجعلها مشاريع ذات جدوى اقتصادية رابحة.. ويبدو ان موضوع ((القطاع العام)) قد اخرجنا قليلا عن سياق موضوعنا الاساسي(( الازمة الاقتصادية)) وإن كان ذا علاقة بها، فنعود الى الموضوع الأصل لنقول إن ما تجتازه بلادنا من ((أزمة اقتصادية)) حادة ومزمنة تنذر بأوخم العواقب واخطر النتائج على الصعيدين السياسي والاجتماعي ، مالم نبادر بأقصى سرعة ممكنة وفي اطار من الجدية والشعور بالمسئولية الوطنية الى وضع حلول ومعالجات حقيقية وجذرية لوقف تصاعدها الخطير تمهيداً للتخفيف والحد من اثارها ونتائجها او إزالتها، خاصة واننا على وشك استقبال وفد مهم من صندوق النقد الدولي يحمل لنا في جعبته مطالب واضحة ومحددة بضرورة الاسراع بتعويم عملتنا المحلية ،تأخذ قيمتها الحقيقية بناء على قوانين السوق، وايقاف الدعم المالي الحكومي لبعض السلع الاساسية الناتج عن ضرورات اجتماعية، وربما تصفية القطاع العام، اضافة الى مسألة الديون المتراكمة وفوائدها المستحقة واقساطها الواجب الوفاء بها.. وكلنا يدرك ان مطالب صندوق النقد الدولي تكون عادة مسنودة بضغوطات دولية من الدول العظمى صناعياً وعسكرياً، ونحن لا قِبَل لنا بمواجهة تلك الضغوط وخاصة في ظل أزمة تردي وضعنا الاقتصادي واختلال توازنه بشكل كامل. فماذا نحن صانعون إزاء معاناتنا المريرة من اثار ونتائج الازمة الاقتصادية الطاحنة داخلياً.. وتصاعد الضغوطات الدولية الرهيبة خارجياً ؟ إننا نعتقد بان علينا قبل أي شيء اخر ان نبادر بصدق وجدية كاملة وبأسرع وقت ممكن الى إصلاح وضعنا الاقتصادي السائر نحو مصير مفزع حقاً، ولعل خطورة الوضع الاقتصادي باتت تستدعي إدارة ((حوار وطني شامل)) يرتكز على أسس علمية مدروسة بين مختلف الاحزاب والتنظيمات السياسية حاكمة ومعارضة والشخصيات والهيئات العلمية المتخصصة بعيداً تماماً عن أي مزايدة أو مماحكة، وبمعزل عن التوظيف والاستغلال الحزبي السياسي، لأن القضية جِدُ خطيرة وتهم الوطن كله، وفي ظل اجواء من الشعور بالمسئولية والواجب الوطني قبل أي شيء اخر.. للخروج بصيغة مثلى لمعالجات ناجعة وفعالة وايجابية، تخرجنا ـ في أقل التوقعات ـ من عنق الزجاجة المحشورين داخله، ونبدأ خطواتنا السليمة على طريق تجاوز نقطة الخطر الداهم، والانطلاق لبناء اوضاع اقتصادية صحيحة تمكننا من اعادة صنع الحياة من جديد على ارضنا تقدماً وعدلاً وازدهاراً ومنعة..والله الموفق.   صحيفة الشورى  

موضوعات ذات صلة