أية مصالحة وطنية نريد؟؟ ((صحيفة الامة))

 يعتبر مفهوم (( المصالحة الوطنية )) من الناحية السياسية، مرادفاً الى حد ما لمفهوم (( الوحدة الوطنية)) ، ويلجأ إليه كإجراء سياسي في العادة حين تفرض ظروف استثنائية طارئة على شعب من الشعوب خلق وحدة موقف لمواجهة مخاطر جسيمة تهدد الوجود الوطني للشعب او في حالة حدوث كوارث طبيعية مدمرة أو ثورات إجتماعية داخلية تعصف بوحدة البلاد الوطنية، ويتخذ مثل هذا الاجراء السياسي أشكالاً وصيغاً متعددة ومختلفة تبعاً لطبيعة النظام السياسي القائم، ففي البلاد ذات النظام السياسي الديمقراطي المتعدد الاحزاب تتشكل في العادة (( حكومة وحدة وطنية)) تشارك فيها جميع الاحزاب الممثلة في البرلمان بصرف النظر عن حجم تمثيلها البرلماني، اما في البلدان ذات النظام السياسي غير الديمقرطي، عسكرياً كان أم حزب أوحد حاكم، فإن الاجراء يتخذ في الغالب شكل إشراك ممثلين لعدد من الفئات الاجتماعية أو مراكز القوى في المجتمع بأسلوب غيرمباشر لايؤدي الى الاعتراف صراحة بوجودها ..               وفي بلادنا كثر الحديث حول مصطلح (( المصالحة الوطنية )) وظل نطاق طرحه يتسع أكثر فأكثر منذ إنتها الحرب الداخلية في صيف 1994م، حيث ذهبت جل تلك الأطروحات مذاهب متعددة، فمعظمها اتجه نحو حصر مفهوم (( المصالحة الوطنية )) على هذا النحو أو ذاك في دائرة المطالبة بإشراك قوى سياسية حزبية في الحكم وبعضها إتجه بشكل أو بآخر الى حصر (( المصالحة الوطنية)) با لمطالبة بمراعاة الخصوصية لدى المحافظات الجنوبية الشرقية (( الشطر الجنوبي سابقاً )) وأعطائها وضعاً خاصاً يحقق لها قدراً كبيراً من إدارة شئونها غير السيادية إدارة ذاتية بعيداً عن سطوة الادارة المركزية المفرطة وأحياناً يستطرد هذا الطرح ليطالب بالمصالحة مع الرموز السياسية التى اضطرت بفعل نتائج الحرب الى العيش خارج البلاد.. والبعض الآخر تمحور طرحه لمفهوم (( المصالحة الوطنية )) حول إعادة النظر كلياً بالنظام السياسي القائم من حيث طبيعته ونهجه وتركيبه وأساليب عمله وإعادة صياغته من جديد وعلى نحو شامل وجذري.. ولا نريد هنا ان نناقش ونقوم صحة ووجاهة تلك الاطروحات جميعها من عدمها.. بل نريد فقط القول إجمالاً بأننا لا نعتقد من واقع ما تمخضت عنه التجارب الماضية بأن إشراك الاحزاب السياسية او شخصيات سياسية وإجتماعية مهما بلغ وزنها وحجم تأثيرها في الحكم يمكن ان يكون مجدياً او مفيداً لتحقيق مفهوم (( المصالحة الوطنية )) بل على العكس من ذلك تماماً سيمثل عاملاً مؤججاً للتوتر والتأزم والصراع السياسي في البلاد باعتباره إجراءاً غير طبيعي ولا منطقي، فما دمنا قبلنا جميعاً بالخيار الديمقراطي القائم على تعدد الاحزاب والتداول السلمي للسلطة من خلال صناديق الانتخاب، فعلينا ان نقبل قواعد ونتائج اللعبة الديمقراطية تلك التى تقضي بأن الحزب الحاصل على الاغلبية البرلمانية هو وحده فقط الذي يحكم، وأحزاب الاقلية كلها تبقى في خندق المعارضة السياسية السلمية، هذا مع تسليمنا التام بأن العملية الديمقراطية في بلادنا لاتزال حديثة الولادة ومشوهة المسار، ولم تصل بعد الى مستوى يمكن إعتبارها مقياساًًُ او تعبيراً حقيقياً لإرادة الشعب، ومع هذا كله فإن المصداقية تفرض علينا ان نحترم الخيار الذي إخترناه مهما كان قاصراً ومشوهًاً ونعمل بكل الوسائل المشروعة لتطويره وتصحيح مساره باستمرار الى ان يتحقق له النضوج والإكتمال اما ان يكون قبولنا ورضانا عن الديمقراطية ونتائج الانتخابات إذا كانت لصالحنا ونرفضها ونلتف عليها إن كانت لصالح غيرنا، فإنناحينها لا نستطيع القول بأننا نمارس عملاًً  سياسياًً إيجابياًً وبناءًًا ومثمراً بل نمارس ممارسة عبثية سلبية مدمره.. وانطلاقاً من هذه الرؤية لطبيعة اللعبة الديمقراطية وقواعدها ومقتضياتها الأساسية فالحقيقة ان المطلوب بإلحاح شديد لبلادنا  في المرحلة والظروف الراهنة التي تعيشها ينحصر بوجوب الإسراع في تحقيق (( مصالحة وطنية)) بين نظام الحكم القائم والمجتمع بجميع شرائحة وفئاتة وطبقاتة،وهذه المصالحة البالغة الاهمية والحيوية ذات الضرورة الملحة لا تتحقق بمنح عدد من الحقائب الوزارية والمناصب الرسمية العليا لهذا الحزب او ذاك ولهذه الشخصية او تلك أبدا.. بل انها تتحقق بتوفر قناعة أكيدة وإرادة سياسية راسخة لدى القيادة السياسية الحاكمة باتخاذ جملة من الخطوات والتدابير والإجراءت الاصلاحية الهامة والشاملة لمعالجة الإختلالات والسلبيات والاخطاء الإدارية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها، اي بعبارة اخرى الإقدام على ثورة تصحيحية حقيقية وجادة تلامس طبيعة الدولة ووظائفها وعلاقات مؤسساتها ونهجها وأسلوب أدائها وطبيعة العلاقة التي يجب ان تؤسس بينها وبين المجتمع أو المحكومين.. ولعل اهم وابرز تلك الخطوات التصحيحية المطلوبة هي : 1) إصلاح القضاء إصلاحاً شاملاً وجذرياً وتطهيره من عوامل الفساد والانحراف وتحسين أوضاع القضاة الى اقصى حد ممكن، إذ ليس تجنياً إذا قلنا ان القضاء في كثير من مستوياته ودرجاته لا يقوم بمهمته عل نحو يتوافق مع الشرع والضمير بما يساهم في تضييع العدالة والعبث بحقوق المواطنين وقضاياهم، وبديهي ان غياب القضاء النزيه والمستقيم والمستقل يؤدي الى غياب العدل والانصاف، وتصبح حقوق المواطنين ومصالحهم نهباً للأقوى والأكثر نفوذاً فيختل الامان الاجتماعي وتسود علاقات المجتمع روح العداء والبغضاء والفتن وعدم الاستقرار والاضطراب .. 2) انهاء أسلوب المركزية المفرطة في الاداء الاداري للدولة وعلاقتها بالمتمجع،واستبداله بأسلوب الادارة المحلية واسعة الصلاحيات واشراك المجتمع في ادارة شئونه ومصالحة المحلية عبر مجالس محلية منتخبة وإدارة محلية منتخبة ايضاً يخضع للمحاسبة والمراقبة من قبل المجتمع،إن ذلك كفيل بإصلاح وإنهاء مساوئ الإدارة المركزية المبالغ بها ومحاصرة وتضييق الخناق على الفساد والمفسدين وتخفيف الاعباء الثقيلة الملقاة على عاتق الدولة وامتصاص وإنهاء الكثير من الامراض والمتناقضات الاجتماعية والسياسية الناتجة حتماً عن المركزية المفرطة.. 3) تطهير الجهاز الاداري للدولة من عوامل البطالة المقنعة والفساد والفوضى وإخضاعه لرقابة صارمة من قبل الأجهزة المختصة. 4) وهناك قضايا اخرى مثل إحداث تغيير جذري وشامل للنظام التعليمي وإصلاح الإقتصاد الوطني وترشيد الإنفاق الحكومي وخلاف ذلك .. بهذه الخطوات التصحيحية الأساسية يمكن القول أن(( مصالحة وطنية تاريخية )) قد تحققت بين الحكم والمواطنين بين الدولة والمجتمع بين الحاكم والمحكومين.. ولا نحسب أننا نغالي إذا قلنا للنظام الحاكم اعطنا قضاءاَ نزيهاً مستقلاً عادلاً وإدارة محلية حقيقية وجادة، وخذ منا كل ما عدا ذلك من ديمقراطية وأحزاب وغير ذلك.. فذلك يكفينا في هذه المرحلة التي نحتاج فيها اكثر ما نحتاج الى شعور المواطن بالأمن والأمان على نفسه وحقوقه ومصالحة بحصوله على العدل ولإنصاف، والى إحساس لدى المواطن بأنه شريك فاعل في إدارة شئونه ومصالحة المحلية وليس مجرد دافع للضرائب والزكاة والعوائد المالية للدولة.. أليست (( المصالحة الوطنية )) تبدأ من هنا؟ وأليست نقطة الإنطلاق نحو النهوض الحضاري الشامل تبدأ بهذا؟؟.        

موضوعات ذات صلة