عندما نشرت هذه الصحيفة (( الشورى)) الغراء مقالا لي في العدد رقم(98) بتاريخ 20/6/1993م تحت عنوان(( حقوق الانسان بين النظرة الغربية والنظرة السعودية))، ثارت ثائرة بعض الاصدقاء الاعزاء وجُوبهت بحالة من الهياج الاستنكاري لما استنتجوه من المقال بأني اقف ضد مسيرة تأكيد حقوق الانسان على مستوى العالم، وابرر لسياسات القمع والاستبداد والديكتاتورية..الخ. ولقد افزعني حقاً ما بدا لي من وجود شريحة من المثقفين باتت تمتلك القابلية والاستعداد للتفريط بمبادئ اساسية مثل مبدأ السيادة والاستقلال الوطني، بل والتخلي عن أسس وتعاليم عقيدتها الدينية، بفعل إنبهارها واستسلامها المطلق لشعار (( حقوق الانسان)) الذي لا زال غير محدد المعالم ويلف الغموض والريبة مقاصد وغايات رافعيه، وهو الى ذلك شعار يحميه ويحتضنه منطق القوة وفرض الهيمنة الذي يحدد له مساره وغاياته والياته وسياساته. والواقع انني لم أجد في مقالي – ذاك – ما يشير أو يوحي بما ذهب اليه اولئك الاصدقاء من استنتاجات، وكل ما في الامر انني اردت التأكيد على حقيقة، لاأخالها محل خلاف، وهي ان هناك اختلافاً جوهرياً وواضحاً بين حقوق إنسانية تنتزعها الشعوب بنضالها ومعاناتها وتضحياتها، وبين حقوق انسانية تُهدى للشعوب من على رماح جيوش اجنبية غازية وان حَملتْ رأيات حقوق الانسان او الديمقراطية أو غيرها من الشعارات البراقة.. ذلك انني اعتقد جازماً ان الدول العظمى لايمكن ان تُرسل الالاف من خيرة ابنائها وشبابها ليُقَاتلون ويُقتلون ويبذلون ارواحهم ودماءهم في سبيل ان يحصل الانسان على حريته ويحقق مصالحه في مجتمعات العالم الثالث التي تعاني أشد المعاناة من الفقر والتخلف والجهل، بفعل مراحل الاستعمار الطويلة وطبيعة النظام الاقتصادي العالمي الظالم الذي تسيطر عليه تلك الدول العظمى التي تريد اليوم عن طيب خاطر ان تقدم ارواحها ودماءها وخيراتها من أجل الاخرين ولوجه الله وحده والديمقراطية وحقوق الانسان .. الخ، ذلك ان سياسة الدول عادة ماتكون محكومة بالكامل بمصالحها أولاً وأخيرا، يؤكد ذلك ويصدقه ما نلاحظه ونعانيه من جراء سياسة ازدواجية وتعدد وتباين المعايير أو المكاييل التي تكيل بها تلك الدول هنا وهناك.. * فكيان مثل ((اسرائيل)) تحتل وطن الفلسطينيين كله وتعتبره حقا دينيا لها((أرض الميعاد)) وتحتل اراضي عدة دول عربية، وتمارس الاضطهاد والقمع وتقتل وتجرح الاف الفلسطينيين، ورغم ذلك فان الدول الغربية والولايات المتحدة الامريكية على رأسها، والتي تقرع طبول ((الحرب المقدسة)) من أجل حقوق الانسان في العالم، تعتبر اسرائيل واحة للديمقراطية والتحضر، وتزودها بكافة واحدث اسلحة الدمار الشامل والجزئي وتغض الأنظار وتمارس سياسة تعتيم وتضليل على ترسانة اسرائيل من الاسلحة الذرية والكيميائية والبيولوجية والصواريخ وغيرها، في نفس الوقت الذي تمارس فيه ابشع صنوف الضغط على الدول العربية لتدمير اسلحتها، وحجب التكنولوجية الحديثة عنها، وقد لا يكون بعيداً الوقت الذي ترسل فيه تلك الدول جيوشها الجرارة بهدف تجريد العرب والمسلمين من اسلحتهم لضمان اخضاعهم جميعاً لسيطرة وهيمنة((اسرائيل)) الحليفة!! * والصومال حيث يتقاتل اُمراء الحرب فيها على حساب مصالح وحياة الشعب ترسل الجيوش الجرارة لدوافع انسانية ((طبعا)) بينما الجرائم والابادة العرقية التي يرتكبها الصرب في ((البوسنة والهرسك)) والتي لم يشهد التاريخ لها مثيلا حتى في ظل ((النازي)) لا تستحق ((إنسانيا)) عناء إرسال جيوش لوقف مأساة الإبادة المروعة التي لن تقتصر اثارها المدمرة على ((المسلمين)) في البوسنة والهرسك، بل ستمتد تأثيراتها الخطيرة لتنخر في صميم الضمير الأوروبي والأمريكي وتدمره ولو بعد حين.. * وايضا العراق، الذي وبرغم اننا نُسلم بأن قيادته السياسية قد ارتكبت خطاءا تاريخياً قاتلا باجتياح الكويت وضمه اليه بالقوة العسكرية،فإننا نجد ان دول(( النظام العالمي الجديد))التي تقود معارك ((الحرب المقدسة)) لنصرة حرية وحقوق الانسان على مستوى العالم كله، نجدها شديدة الحماس والاصرار على معاقبة الشعب العراقي بإحكام طوق الحصار عليه لضمان عدم نفاذ أي غذاء أو دواء اليه منذ بداية أزمة الخليج وحتى الان، هذا في الوقت الذي ما برحت تصريحات مسئولي دول ذلك ((النظام العالمي الجديد)) تؤكد صبح مساء ان النظام الحاكم في العراق يفرض نفسه على شعبه فرضاً بالديكتاتورية والقمع، وان الشعب العراقي لا يريد نظام حُكمه، فماذنب الشعب العراقي إذن حتى يُفرض عليه الموت البطئ جوعاً ومرضاً وعذابا ؟ واذا كان ((النظام العالمي الجديد)) يرى ان تحقيق حرية وحقوق البشر يمر عبر حصارهم وتجويعهم ومعاقبتهم بحرمانهم من الغذاء والدواء، فلا أقل من ان يكون الكيل بمكيال واحد سواء في مواجهة (( اسرائيل )) أو ((الصرب)) . * واذا كان(( الغرب)) يرى ان مصلحتنا نحن العرب لا تتحقق إلا على اساس فرض نموذجه الديمقراطي والرأسمالي في السياسة والاقتصاد ولو باستخدام القوة العسكرية الغازية، فلماذا هذا الضجيج والزوابع التي يثيرها ضد ((ايران)) لانها تسعى ـ كما يؤكد الغرب ـ الى تصدير نموذج ثورتها الى الخارج؟ أم ان ((الغرب)) يؤمن ان هناك صنفاً من البشر يحق له ((تصدير)) و ((تدمير)) و ((قتل)) ما يريد، وصنفاً اخر لا يحق لهم سوى ((الإستيراد)) و((التسليم)) و(( الخضوع))؟ تلك كانت مشاهد بارزة وصارخة لسياسة ازدواجية وتعدد المعايير والمقاييس التي يتبعها ((الغرب)) على صعيد ادارة حربه المقدسة في سبيل انتصار الديمقراطية وحقوق الانسان على مستوى العالم.. ولعل أهم واخطر ما يمكن ملاحظته من غاياتها ومراميها الخفية بالنسبة لنا نحن العرب ما يلي: * تحويل ((اسرائيل)) الى مخزن كبير تتراكم فيه مختلف انواع الاسلحة بما في ذلك اسلحة الدمار الشامل، وضمان امتلاكها لأحدث ما توصلت اليه التكنولوجية العسكرية في العالم، وفرض تفوقها الكامل الشامل على جميع الدول العربيةمجتمعة، ولو باستخدام القوة المسلحة للنظام العالمي.. * تجريد العرب من جميع اسلحتهم الفعالة، وحرمانهم حرماناً كاملا من امتلاك اسرار العلوم والتكنولوجيا حتى ان كانت للاستخدامات المدنية لضمان استمرار تخلفهم الحضاري، وتسهيل عملية استبعادهم من قبل ((اسرائيل)) ودول النظام العالمي الجديد، كل ذلك يتم بطبيعة الحال تحت رأية ((حقوق الانسان)) و((الديمقراطية)) ، وعدم السماح بانتشار اسلحة الدمار الشامل الى العرب والمسلمين فقط، واخشى ان نسمع ((الغرب)) ذات يوم يؤكد بأن ((روث)) البقر يمكن استخدمه لصناعة الأسلحة الكيماوية، وبالتالي فلا يحق للعرب تربية الأبقار حفاظاً على الأمن والسلام الدوليين! * ايجاد المبررات والذرائع تحت شعار ((حقوق الانسان)) البراق لخلق مشروعية التدخلات العسكرية في البلدان العربية والاسلامية اذا ما شعر ((الغرب)) بأي تحرك يهدد مصالحه ويهز سيطرته وهيمنته المطلقة على تلك البلدان، وهنا فان شعار ((حقوق الانسان)) سوف يكون جاهزا حتماً للاستخدام وسط تهليلات بعض المثقفين المخدوعين.. * الوصول اخيراً الى ((السلام الدائم)) بعد تحقيق حلم ((اسرائيل الكبرى)) وتحويل العرب الى كيانات ممزقة مفرقة في تخلفها لا هم لها سوى خدمة ((اسرائيل)) وربما ايضا بعد إعادة كتابة القرآن كتابة جديدة تتلاءم مع الحضارة والسلام وحقوق الانسان بشطب الآيات القرآنية التي تزرع الكراهية والحقد على اليهود وغيرهم، وتشجع على نشوء الحركات الاسلامية الاصولية ((المتطرفة)).. وهذه الغايات لم اقلها من نسج خيالي، بل هي ما يصرح به قادة((اسرائيل)) وما يقوله قادة دول ((حقوق الانسان)).. فماذا نحن فاعلون إزاء هذا المصير المرتقب الذي ينتظرنا؟؟ الحقيقة ان الواقع العربي يعيش مرحلة من اتعس واخطر مراحله على الاطلاق، انه يقف الان تماماً عند حافة الهاوية والانهيار، وخاصة منذ بداية (( أزمة الخليج)) المشئومة التي استباحت المحرمات، وداست على المسلمات، واعتدت على ثوابت الواقع.. ومع ذلك، ورغم كل ذلك، فان الشعوب والأمم في سياق حركتها التاريخية نحو المستقبل لا يجوز لها ان تظل واقفة تبكي اطلال منهارة، وبالذات عندما تشعر ان وجودها بات مهدداً ومستهدفاً كما هو حال الأمة العربية الان. وفي اعتقادي انه لا تزال هناك لحظة أمل امام الأمة لالتقاطها كي تخرج من محنتها والنفق المظلم التي حشرت نفسها في دهاليزه المعتمة. واعتقد ان مسئولية النهوض بهذا الدور العاجل يتحملها العراق وحده وليس غيره واقصد بالعراق قيادته السياسية، حيث تتحمل وحدها مسئولية المبادرة الشجاعة لإزالة الآثار المدمرة التي خلفتها أزمة الخليج على واقع الحياة والمستقبل العربي بكامله، واعتقد جازماً ان الرئيس العراقي صدام حسين يملك من الشجاعة والمقدرة ما يؤهله تماماً للقيام بتلك المبادرة لصالح الأمة العربية ومستقبلها المهدد تهديداً حقيقيا، وأتصور معالم تلك المبادرة الملحة بالاتي: * ان تعترف القيادة السياسية في العراق لأشقائها في الكويت بخطأ موقفها وقرارها يوم 2 أغسطس 1990م بالاجتياح العسكري والضم القسري للكويت، وان تحسم مسألة الحدود معها وفقاً لما اقرته(( الامم المتحدة)) حيث تصبح مسألة الحدود في ظل استمرار العمل من أجل الوحدة العربية غير ذات أهمية اصلا، وان تسارع بإعادة الأسرى الكويتيين الى اُسرهِم وذويهم، فمن العيب في أعراف العربي ان يكون لديه أسرى عرب! ويتم التفاهم حول تسوية كل مخلفات الأزمة بشكل أخوي، حتى وان اضطر العراق الى اعلان واتخاذ تلك المبادرة من جانب واحد في بادئ الامر.. * عودة العراق الى الالتزام الصادق والكامل بأحكام (( الميثاق القومي)) الذي يتبناه الرئيس صدام حسين نفسه قبل أزمة الخليج، باعتباره فيما اعتقد افضل صيغة تحكم وتنظم العلاقات العربية ـ العربية بعيداً عن التدخلات والحساسيات وسياسة التمحور. * الدعوة بعد ذلك الى لقاء قمة عربي لتدارس الواقع العربي في ظل المخاطر المحدقة به في كل جانب والمهددة لمستقبله ووجوده، والعمل على الخروج بصيغة جديدة للعمل العربي من خلال جامعة عربية يعاد النظر في ميثاقها واساليب عملها وفقاً لما تقتضيه طبيعة المتغيرات الدولية الرهيبة، وبما يضمن حماية المصالح العربية بل وحماية الوجود العربي ذاته. ولو ان بعض المثقفين الذين بهرتهم شعارات حقوق الانسان وراحوا يهللون لها ويبشرون بجنتها الموعودة دون ادراك لخفايا دوافعها وغاياتها المهددة لكامل وجودنا، لو انهم بذلوا تلك الجهود لدعوة مصالحة عربية جادة وعاجلة وحقيقية، لكان ذلك هو الطريق الأمثل لنناضل جميعا من أجل الإنتصار لحقوق الانسان وحريته وكرامته بأيدينا نحن وليس عبر استجدائها من تحت نعال الجيوش الغازية.. وصدق الله العظيم حيث يقول: (( أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)). صحيفة الشورى